لدينا فيلم هوليوودي بميزانية ضخمة، يقوم ببطولته الفائز بالجولدن جلوب «إدريس ألبا» والفائزة بالأوسكار «كيت وينسلت»، من إخراج مخرج عربي فلسطيني ترشحت أفلامه للأوسكار مرتين، هو «هاني أبو أسعد»، يُعرض هذا الفيلم لأول مرة في مصر بحضور هذا المخرج، كل هذا في افتتاح «مهرجان القاهرة السينمائي»، مهرجان السينما الرسمي الأكبر في مصر والأقدم في المنطقة، يبدو الأمر واعدًا جدًّا لأي محب للسينما، ولكنه لم يكن كافيًا لإثارة اهتمام نجوم المجتمع الفني المصري، اكتفى النجوم بإطلالة السجادة الحمراء، هذا ما تعنيه لفظة «مهرجان» للكثيرين في مصر، سجادة حمراء، أحاديث إعلامية لا علاقة لها بالفن، والكثير من الكاميرات. أما «السينما» فلا يعلم عنها هؤلاء شيئًا.

عُرض الفيلم إذن في قاعة غير مجهزة وشبه فارغة عقب افتتاح المهرجان القاهري الرسمي، رفض حينها هاني أبو أسعد أن يستمر العرض في هذه الظروف السيئة أو «المهينة» كما وصفها، وفي يوم المهرجان الثاني عُرض الفيلم في قاعة سينما الزمالك وبحضور كبير من محبي السينما، صحفيين، طلبة، وثلة قليلة من النجوم المصريين.

ولأن الحديث عن فيلم أبو أسعد تاه وسط الحديث عن البوفيهات، اخترنا أن نتحدث عنه اليوم، في محاولة للعودة لما يفترض أن تدور عنه الأحاديث في مهرجانات السينما، «السينما».


النجاة من خلال الحب

يجمع هاني أبو أسعد في فيلمه الجديد -المأخوذ عن رواية الكاتب الأمريكي تشارلز مارتين- بين نوعين من القصص السينمائية، قصص النجاة وقصص الحب، نوعان من القصص التي يصعب عادةً جمعهما معًا نتيجة اختلاف طريقة بناء الحكاية في الحالتين، النجاة من الموت بكل ما تتطلبه من وحدة وفردانية، والحب وكل ما يتطلبه من مشاركة وإيمان بالآخر.

الحكاية تجمع بين صحفية تُسمى أليكس (تقوم بدروها كيت وينسلت)، وجراح أعصاب يُسمى بن (يقوم بدوره إدريس ألبا)، يلتقى أليكس وبن عن طريقة الصدفة في أحد المطارات، تُلغى الرحلة التي كانت ستقلهما نتيجة وجود عاصفة، أليكس ترغب في العودة بأسرع شكل ممكن بسبب موعد زفافها، بن يرغب في العودة السريعة أيضًا ولكن لسبب مختلف، جراحة عاجلة لطفل مريض.

يتشارك الغريبان نتيجةً لذلك في رحلة عودة ثنائية غير مرتب لها، فيؤجران طائرة صغيرة يقودها طيار متقاعد، تتحطم الطائرة وسط الجبال، ويموت الطيار ويحيا كلبه الذي كان يرافقه، وتحيا معه أليكس وبن. رجل وامرأة وكلب، وفي الخلفية لوحة بيضاء ممتدة لسماء مفتوحة وجبال بيضاء مغطاة بالثلوج.

يستمر خطا الحكاية في التطور، يحاول الغريبان من اللحظة الأولى الوصول لطريقة النجاة، بداية من انتظار أن يأتي الإنقاذ، وصولًا للإيمان بأنهما وحدهما قادران على ذلك، أو على الأقل المحاولة، مرورًا بمراحل كثيرة من الشك.

وسط كل هذا يكتشف كل منهما الآخر، نعلم أين اعتادت أليكس أن تعمل كمصورة صحفية، كما نتعثر بقصة عاطفية قديمة أثرت في شخصية بن، الطبيب الجراح الذي يؤمن بأنه قادر على التحكم في كل شيء، وبينما يتصادم بن بشخصيته الحريصة مع أليكس بشخصيتها المبادرة والمتهورة في بعض الأحيان، نصل برفقتهما في النهاية لخيط شاعري رومانسي تم بناؤه على مهل.

السيناريو يبدو ذكيًا، لا يخلو من الدعابة، ولكنه يبدو هوليووديًّا بسيطًا محببًا للمشاهد أيضًا، وهذا ما جعله يغفل –عن قصد- العديد من اللمحات الواقعية لقصص النجاة من الموت، وأهمها أننا نفقد القدرة على الإحساس بصعوبة الوقت الذي من المفترض أن يقضيه أبطالنا وهم مغمورون في الجليد.


لمحات أبو أسعد البصرية

ماذا سيفعل هاني أبو أسعد في فيلم أمريكي تجاري من إنتاج استديو ضخم بحجم Twentieth Century Fox ؟

ظل هذا السؤال في بالي طوال الفيلم، حتى أتت لمحات هاني أبو أسعد البصرية، واحدة تلو الأخرى.

دعونا أولًا نشرح عملية صناعة الفيلم داخل الاستديوهات الأمريكية، حيث يتم تقسيم عملية الصناعة ليتولى المخرج الصورة وإدارتها، ويتولى الكاتب صياغة الحوار، فيما يتشارك المخرج والكاتب والمنتجون صياغة السيناريو، يتولى عقب ذلك المخرج عملية المونتاج برفقة المونتير، لنخرج بما يسمى نسخة المخرج، ثم يتم تسليم الفيلم للمنتجين المنفذين، لنخرج بالنسخة النهائية للفيلم، والتي يتم عرضها سينمائيًّا.

على الجانب الآخر، هاني أبو أسعد مخرج فلسطيني عمل تقريبًا طوال مسيرته كرب العمل الوحيد، هاني الذي ترشحت أفلامه السابقة «الجنة الآن» و «عمر» لجائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي، تميزت دائمًا بأسلوب واقعي يتماشى مع الميزانية المحدودة التي كان يعمل وفقًا لها، هذا الأسلوب الواقعي تميز بالطبع بالتصوير الخارجي في مواقع حقيقية، عدم استخدام أي مؤثرات بصرية، بالإضافة لسرد بصري يتحاشى الحوارات المنطوقة قدر الإمكان.

بتطبيق كل هذا على «الجبل بيننا» نجد أن هاني أبو أسعد استغل وبذكاء شديد ما تم إتاحته له في فيلمه الأول داخل استديوهات هوليوود، هاني لم يستطع أن يغير كثيرًا في الحوار الأمريكي المعتاد، ولكنه استطاع أن يعبر عن نفسه بشكل جيد على مستوى الصورة.

اعتمد أبو أسعد على سردية بصرية استخدم من خلالها -برفقة مديرة التصوير «ماندي واكر»- بطليه كنقاط متحركة على خلفية ثلجية بيضاء، تنوعت كادرات أبو أسعد بين كادرات قريبة لوجوه أبطاله في مساحات قليلة الإضاءة، وبين كادرات بعيدة لهم وسط الجبال البيضاء وفي ظل إضاءة نهارية بيضاء وساطعة، اعتمد أبو أسعد أيضًا على الجمع بين التداخل بين الأزمنة في بعض المشاهد، ليظهر هذا بوضوح في مشهد الحب الوحيد بين البطلين، حيث نرى تداخلًا بين ثلاثة أزمنة، لمحات من الماضي والحاضر والمستقبل، تداخل تدريجي دون أي قطع.

علق أبو أسعد عقب عرض الفيلم على هذا الأسلوب البصري قائلًا: لقد تأثرت بالطبع بمدرسة الواقعية الرومانسية، وبسينما تاركوفيسكي ومن بعده كيشلوفيسكي.


بدأ تصفيق الجمهور في مشهد الختام، واستمر أثناء تترات النهاية، تلا ذلك نقاش مفتوح مع المخرج هاني أبو أسعد، سبقه اعتذار مقتضب عما حدث في الافتتاح من الفنان المصري حسين فهمي «رئيس لجنة تحكيم المسابقة الرسمية للمهرجان» والفنانة المصرية يسرا «الرئيس الشرفي للمهرجان». أما أبو أسعد فقد عبر مرة أخرى عن سعادته بالوجود في القاهرة قائلًا: «هذا الجمهور يكفيني».

ربما لا يكون «الجبل بيننا» أهم أفلام العام، وربما لا يحظى بفرص كبيرة في الوصول لترشيحات جوائز الأوسكار، ولكنني أعتقد أنه دخول هوليوودي موفق لمخرج فلسطيني ذكي وموهوب، ننتظر منه الكثير في المستقبل.

أما على مستوى مهرجاننا السينمائي العريق، فربما يكون ما حدث فرصة لإدراك أن مهرجانات السينما أكبر من حصرها في ليلتي الافتتاح والختام، وأن مدينة بحجم القاهرة تحتاج لاختيارات سينمائية قادرة على جذب جمهور السينما الحقيقي، والذي ملأ منذ أيام قليلة صالات عرض بانوراما الفيلم الأوروبي.