ستظل باريس لدينا دوما.

في واحد من أشهر الاقتباسات في تاريخ السينما، يخبر همفري بوجارت انجريد بيرجمان في فيلم كازابلانكا أنهما سوف يحتفظان بوقتهما في باريس إلى الأبد، مهما خسرا ستظل لديهما باريس، بعد سنوات من الفرقة والحروب والتعقيدات الشخصية والاجتماعية والحياتية، باريس ستظل الحدث الذي يتمسكان به، لا نرى حياتهما معًا في باريس على الشاشة لكن تأثير الجملة الحاملة لكل التوق والحب الذي يمكن لأي شخص أحب وخسر أن يفهمه يجعلنا نشعر وكأننا فعلنا، وكأننا عشنا ذلك الحب في باريس بالفعل، في فيلمه الأخير (أمستردام Amsterdam) يحاول ديفيد أو راسيل استدعاء روح تلك العبارة، التمسك بلحظة في الزمان والمكان، لحظة باقية على الرغم من الفرقة والحرب، تمثل مدينة أمستردام تلك اللحظة لأبطال الفيلم، وقت ومكان اختبروا فيه الحب والصداقة دون حدود، حتى حالت بينهم الحياة.

يأتي فيلم أمستردام بعد غياب أو راسيل عن الإخراج لعدة سنوات بعدما اختبر موجة نجاح جماهيري ونقدي ضخمة في أعوام متتالية، أخرج مجموعة من الأفلام المحملة بالجوائز منها Silver Lining Playbook 2012 وThe Fighter 2010 وAmerican Hustle 2013 ، أفلام نجحت جماهيريًا ونقديًا وجعلت لمخرجها أسلوبًا ذاتيًا يتناول العلاقات الأسرية والعاطفية المعقدة، بخفة ظل وحوار ديناميكي وشخصيات غرائبية يسهل محبتها والتعاطف معها، لكن في السنوات الاخيرة وبعد توقف، أصبح اسم أو راسيل سيئ السمعة بعد اتهامه بالاعتداء على إحدى قريباته وشكوى كثيرات من الممثلات من صعوبة التعامل معه، تم تجاهل كل ذلك وإنتاج أمستردام، فيلم ضخم تزين ملصقاته أكبر أسماء نجوم السينما في عصر قلما رأينا نجوم السينما بالمعنى التقليدي به، وقصة تعلق على الحاضر عن طريق الماضي وتحاول مناقشة صعود الفوقية البيضاء والفاشية بشكل كوميدي خفيف مع حبكة إنسانية تعلي من قيم الحب والفن في أوقات الحرب.

الصداقة في مواجهة العالم

يحكي أمستردام حكاية الثلاثي بيرت (كريستيان بيل)، هارولد (جون ديفد واشنطن) وفاليري (مارجو روبي)، يبدأ الفيلم بتوريطنا في حياة كل من بيرت وهارولد اللذين يشهدان عملية قتل أثناء تحقيقهما في قضية قتل أخرى، لا يعمل أي منهما كمحقق رسمي، بيرت طبيب وهارولد محام، لكنهما يعملان في حل مشكلات الآخرين، مشكلات متنوعة دون تخصص، تدخلهما في تعقيدات لا نهاية لها، يعيدنا الفيلم عن طريق مشهد استرجاعي طويل يرويه بيرت -وهو صوت الراوي الذي يستمر معنا معظم أحداث الفيلم- إلى بداية معرفته بهارولد في الجيش أثناء الحرب، وكيف قابلا فاليري الممرضة الجميلة، وكيف وقع هارولد في حبها وأصبحوا ثلاثيًا من الأصدقاء في أمستردام وقت السلم، يفعلان كل شيء معًا ولا يفترقون، حتى تضطرهم الظروف إلى ذلك، فحسب الفيلم فإن كل حرب تنتهي تبدأ من جديد، وكل حدث تاريخي يعيد نفسه، لكن بين هذا وذاك فهنالك أمستردام، التي تمثل ذلك الوقت المسالم المحب، تلك النقطة المضيئة في حياة مظلمة.

يستدعي (أمستردام) وشخصياته كلاسيكيات شهيرة خاصة من الموجة الفرنسية الجديدة، يستدعي صداقات ثلاثية أيقونية على غرار جول وجيم Jules et Jim 1962 لفرانسوا تروفو أو فيلم فريق المنبوذين 1964 Bande a` part للراحل حديثًا جان لوك جودار، يتلاقى الثلاثي مع فيلم جودار تحديدًا، فهم فرقة من المنبوذين، طبيب نصف يهودي بعين واحدة ومحام أسمر في بداية القرن العشرين وفتاة واقعة في حب ذلك المحامي، حتى إن الفيلم يعيد إنتاج الرقصة الشهيرة بين الثلاثة أبطال، التي ألهمت كثيراً من الأفلام والمشاهد في ما بعد، تعد تلك العلاقة الثلاثية التي يبنيها أو راسل هي أفضل عناصر الفيلم، ينتج عنها ثلاثة شخصيات مميزة أصبح من النادر رؤيتها في سينما العالم اليوم، شخصيات ذات سمات متفردة وخفة ظل، شخصيات سحرية وخفيفة تستدعي أزمنة أقدم لكنها لا تصبح قديمة أبداً، يسطع الفيلم بوجود الثلاثي على الشاشة بالكيمياء الواضحة بينهم، وكتابة الحوار الديناميكي الذي يجيده أو راسيل.

في فيلمه الأخير يستبدل أو راسيل العلاقات العائلية المعقدة التي تحمل أعباء الأجيال المتلاحقة بعائلة بديلة، عائلة مختارة دون صلة دم، ويركز بشكل خاص على فكرة الاختيار، خاصة اختيار الحب، كما يكمل تقاليده في جعل الشخصيات الرئيسية شخصيات مهمشة، تنجح في مسعاها رغم عدم وجود أي إمكانيات خاصة أو سمات شخصية تؤدي لذلك النجاح، ويكون السبب الرئيسي فيه هو الحب والدعم الذي يقف أمام كل شيء، وهنا تبدأ قوة الفيلم في التداعي عندما تبدأ الحبكة الهشة التي تصاحب الحبكة الجانبية، فالحبكة الرئيسية ليست عن الصداقة الثلاثية القوية، بل عن محاولات الثلاثي في القضاء على مخطط سوف يهدم القيم الوطنية الأمريكية ويمهد الطريق للفاشية التي تهدد الوطن والعدالة.

أمريكا في مواجهة العالم

أؤمن بأمريكا.

أول ما يمكن سماعه في بداية فيلم الأب الروحي هو أربع كلمات بالإنجليزية، اثنتان بالعربية «أومن بأمريكا I believe in America» ، يلخص الإيمان بأمريكا ممارسة أو راسيل السينمائية، فهي بالنسبة له مكان حيث يحقق المنبوذون أحلامهم، أو راسيل ليس صانع أفلام بروباجندا بالكامل لكنه يمتلك حس محب لطبيعة أمريكا الفوضوية وانفتاحها على كل الاحتمالات، فكرة الصعود من اللاشيء إلى كل شيء، أمريكا بالنسبة له هي ذلك المكان المعجز حيث كل شيء ممكن سواء كان إيجابياً أو سلبياً، لكن ما يجعل أمستردام أقل أفلامه هو توجهه لنزعة أكثر قومية، لا ترى أمريكا كمكان لاحتضان الفشل بل كوطن ذي قيم لا مثيل لها يجب المحافظة عليها، وطن تصيبه الشرور والأفكار العطنة من خارجه ولا تنبع من داخله أبدًا.

يظهر أكبر نجوم أمستردام سناً وقيمة «روبرت دي نيرو» في النصف الثاني من الفيلم في دور جيل ديلينبك، سياسي وجندي سابق ذي مبادئ راسخة، تهدده جماعة سرية فاشية ذات أفكار أشبه بالنازية قبل أن تبزغ النازية نفسها، تحاول الجماعة إقناعه بإقامة ما يشبه الانقلاب واستلاب السلطة وتطبيق أفكارهم بالقوة، تضم تلك الخطط الشيطانية تعقيم الأعراق غير المرغوب فيها وإقامة دولة فاشية بيضاء ترفض الاختلاف، بمشاركة ثلاثي الأصدقاء يحارب ديلينبيك ذلك المخطط، لكن أو راسيل يتناول تلك المغامرة بأكملها بسذاجة وتبسيط أخرق مرتبك، يهدد كل ما بناه في ما يخص الشخصيات بالسقوط، ينجح الفيلم في أن يكون ما هو عليه في كل المشاهد التي لا تتضمن الصراع على السلطة وإحياء القيم الامريكية وهزيمة الأشرار.

يحاول الفيلم أن يكون نسخة أخرى من فيلم كوينتن تارنتينو الذي تعلو قيمته مع الزمن: أوغاد مغمورون Inglourious basterds، مثل فيلم تارنتينو يهزم أبطال أمستردام الفاشية ويجهضون النازية الفكرية لكن على عكس الأوغاد فإن أمستردام ليس قصة خيالية، مما يجعل خفته ومحاولاته لبناء سردية الحب ضد الحرب مرتبكة وغير مكتملة، إضافة لعدم قدرة أو راسيل على بناء حبكة إثارة بوليسية متماسكة بقدر ما يستطيع بناء علاقات عائلية مصغرة، فقوته تكمن في التكثيف الحميمي وليس حبكات إنقاذ العالم الملحمية، حتى عندما يحاول مناقشة الحلم الأمريكي أو تلقين الوطنية فهو يفعل ذلك بأفضل صورة بربط الخاص جداً بالعام، مثلما فعل في فيلمه جوي Joy، يمثل جوي أفكار كبيرة مثل طبيعة العمل في أمريكا وفوضوية الصعود إلى أقصى ما يمكن تحقيقه والهبوط منه من خلال صناعة فيلم بسيط عن ربة منزل تخترع ممسحة أرض إعجازية.

اشتهرت موجة نجاح أو راسيل في بداية الألفية الثانية بقدرته على إيصال ممثليه الى الجوائز الرفيعة وإخراج أفضل الأداءات منهم، ربما يحدث ذلك مع فيلمه الأخير لكن الأجواء العامة الرافضة لطبيعته العنيفة خلف الكواليس ربما تغيب فيلمه الذي يأمل أن يعيده إلى الساحة السينمائية بنفس القوة الماضية، خاصة مع تزايد الفجوة بين ما هو فني وما هو تجاري، أصبحت الأفلام التي تحظى بالاهتمام النقدي والجوائز أفلام بعيدة عن إعجاب المتلقي العام وعن النجاح الجماهيري.

يبدو أن أمستردام محاولة لتضييق تلك الفجوة من جديد، وهو ما فعلته أفلام أو راسيل في الماضي بالفعل، فهو فيلم من المفترض أن يكون فنياً، وفي الوقت نفسه يملك مقومات نجاح جماهيري حتى مع عيوبه، لكن يقف بينه وبين ذلك النجاح شخصية أو راسل نفسه، والرغبة في صنع فيلم يحوي كل شيء لدرجة أثقلت الحبكة الرئيسية وجعلتها فوضوية وصعبة الفهم.