كل من يتابع الأفلام المصرية يلاحظ فقرها بصريًا، رغم أن المرء من الممكن أن يشعر بحس تشكيلي مدفون، لكن هذا الحس يختنق تحت وطأة الحدث، لأن عملية السرد والحكاية يستحوذان كليًا على اهتمام الفنان، ومن هنا تأتي قيمة فيلم المومياء للمخرج (شادي عبد السلام)، وذلك رغم أنه لم يأت بجديد على مستوى تكويناته أو توزيع أجسامه وتحديد الحركة والإضاءة، إلا أنه يكاد يكون النموذج الأكمل بصريًا في تاريخ السينما المصرية.

بالإضافة إلى استخدام هذه القواعد والشروط في التكوين الشكلي، طبَّق الفيلم البعد الرابع في السينما وهو الإحساس بالزمن، ورغم ذلك لم يغفل (شادي عبد السلام) الاهتمام بالحكاية نفسها، وهي مستوحاة من أحداث حقيقية، وقعت في زمن اكتشاف مقابر الأسر الفرعونية من السابعة عشرة إلى الحادية والعشرين، وهي تعتبر اليوم أعظم ما تبقى من المومياوات الفرعونية، حيث تحوي بينها مومياوات مجموعة من أبرز الفراعنة تاريخيًا ومنهم (أحمس الأول) و (رمسيس الثاني). وهي المومياوات التي تُعرف اليوم باسم (مومياوات الدير البحري).

تلك المومياوات بقت لسنين دفينة في موضع مجهول بعد أن نقلها آخر كهنة أمون إلى هذا الموضوع لحمايتها من اللصوص، حتى وقعت في بداية القرن التاسع عشر بين يدي قبيلة تسكن السكن، والفيلم يدور بالتحديد عن جيل الأحفاد من هذه القبيلة، والتي وقعت الحادثة التي أدت لاكتشاف المومياوات خلال حياتهم. بين أزمة الهوية والحاجة للمال، التساؤل عمن هم الأجداد، ومن يملك الحق في إرث الفراعنة، تدور أحداث هذا الفيلم البديع.

كل تلك العوامل جعلت المومياء أعظم فيلم مصري بالنسبة لعدد كبير من النقاد، حيث تم اختياره في المركز الأول في قائمة أفضل 100 فيلم عربي، وهي القائمة التي تمت عبر تصويت النقاد في مهرجان دبي السينمائي عام 2013،كما تم اختياره ثالثًا في قائمة أفضل 100 فيلم مصري، والتي تمت عبر اختيار نقاد مهرجان القاهرة السينمائي الدولي عام 1996. هذه المكانة جعلت أيضًا المخرج الأمريكي الكبير (مارتن سكورسيزي) يشرف على عملية ترميم فيلم (المومياء) بنفسه. والنسخة المرممة متاحة الآن للعرض على الإنترنت وفي جناح خاص بمكتبة الأسكندرية.

لكننا اليوم وبشكل خاص نركز على القراءة البصرية لهذا الفيلم الذي تبدو فيه الكاميرا وكأنها راوي الحكاية الوحيد.

الضوء في دور البطولة

أحداث الفيلم تقع في فصل الصيف لأن أهل الجبل يعلمون أن بعثات التنقيب تتوقف صيفًا لتجنب الحرارة، إلا أن (شادي) اعتمد على ضوء الشمس الطبيعي المنتشر في المشاهد الخارجية واستغلال الغمام المنتشر شتاءً أو باستغلال مناطق الظلال، وفي غياب هذه الظروف الطبيعية لجأ مصور الفيلم للحصول على هذا التأثير صناعيًا، فالمشهد الذي يظهر فيه اللقاء الأول بين ونيس والشاب الغريب في الوادي حجب المصور أشعة الشمس مع ترك المكان الذي يحتله الغريب مغمورًا بأشعة الشمس، وذلك بواسطة مظلة صناعية.

فيلم المومياء شادي عبد السلام
 

في أثناء دخول مقابر المومياوات يستخدم رجال القاهرة المصابيح الكشافة، بينما يستخدم رجال القبيلة المشعل الناري، وهذا بالتبعية يحمل عدة انعكاسات، المشعل الناري وسيلة قديمة مقارنة بالمصابيح الكشافة الحديثة التي يستخدمها أهل العلم الأكثر تقدمًا وأصحاب المبادئ والقضية والأمانة العلمية، أما المشاعل النارية فتتراقص نتيجة لحركة الهواء، فتعكس توترهم لأنهم يمارسون عملًا ضد القانون والأخلاق.

فيلم المومياء شادي عبد السلام
 
فيلم المومياء شادي عبد السلام
 

في اللقاء الذي يجمع بين (مراد) و(ونيس) يعترف الأول أن سيده هو الذهب وبريقه، في هذا المشهد تُستخدم أشعة الشمس كمصدر إضاءة خلفي فقط أو مصدر خلفي جانبي، وليس أماميًا صريحًا أو جانبيًا صريحًا، فيقع وجه ونيس في منطقة إضاءة غير مباشرة، فيبدو وجهه داكنًا ليعكس الفجوة النفسية التي يعيشها والقلق الذي يحيط به، بينما يظهر وجه مراد تحت الإضاءة الجانبية الخلفية فيظهر بريق عينيه ليعكس مدى جشعه.

فيلم المومياء شادي عبد السلام
 

تكوين الكادر: لكل موضع حكاية

في معظم كادرات الفيلم يلاحظ أن الزوايا بين التكوينات المختلفة هي زوايا قائمة وليست مرنة؛ لأن أحداث الفيلم متوترة وشخصياته خشنة وقضيته حساسة ومهمة.

تعبر الصورة عن لحظة صراع الابن الأكبر لرئيس القبيلة المتوفى مع عميه، يطلب العمان من الابن أن يحل محل أبيه في قيادة القبيلة لسرقة المقابر الفرعونية، بينما تواجه الأم هذا الموقف. التكوين الشكلي هنا مهم، يظهر طرفي النزاع في وضع تقابل، الابن على اليمين والعمان على اليسار والأم في الوسط حيث مركز الاهتمام، تواجه الكاميرا والشخصيات تنظر إليها. الأم على دكة مائلة لليمين أقرب لمكان الابن وذلك حتى لا يبقى الابن منعزلًا في الكادر ولخلق التوازن الشكلي والدرامي. الفراء على الأرض يجمعهم لأنهم أسرة واحدة، العم الأكثر وقارًا واتزانًا يظهر جالسًا في الكادر، أما العم الأكثر حدة وانفعالًا يصبح وقوفه ضرورة شكلية تخدم الهدف الدرامي.

فيلم المومياء شادي عبد السلام
 

في مشهد آخر يظهر حديث بين العم الأكبر ورجل ملثم من أتباع القبيلة، الحائط في مقدمة الكادر يوحي بالسرية الشديدة لهذا الحديث، والإضاءة المعتمة للحائط تسمح بالتركيز على الشخصيتين فقط، العم الأكبر لا يظهر وجهه لأن المشاهد رآه سابقًا بينما الشخص الملثم يظهر لأول مرة. كذلك اللون الأزرق ليبين شخصية القاتل، كما يستخدم نفس اللون للكفين على مقدمة المركب التي تمت عليها الجريمة.

فيلم المومياء شادي عبد السلام
 

عندما يلجأ ونيس لقبر أبيه بعد أن ضاقت به نفسه، يتمركز الشاهد في منتصف الكادر، ويتشكل الشاهد على شكل هرمي ثابت لإيصال شعور القوة، بينما يصل اللون البنفسجي بين الشاهد وبين ونيس وكأنه يستمد منه القوة، واتجاه الظل في اتجاه ونيس ليوحي بتوحده مع روح والده.

فيلم المومياء شادي عبد السلام
 

في هذا الكادر يظهر الغريب الذي يأتي مع رجال القاهرة ويتعرض لاعتداء من أهل القرية، يحتل التمثال الأثري معظم الكادر لأن الآثار هي محور الحكاية ومركز الاهتمام، بينما وُضع الممثل مواجهًا للكاميرا لرؤية نظرات انبهاره المصاحبة لكلمات تأتي في ذهنه يسمعها المتابع في شريط الصوت «وهذا كف يقبض على مصيري لم يُقرأ أبدًا».

فيلم المومياء شادي عبد السلام
 

عندما يشعر ونيس بالحيرة والعجز أمام هذه الآثار تصوره الكاميرا من أعلى، هذا يزيد من الشعور بمدى ضآلة ونيس وشعوره بالضياع، أشبه بنقطة في بحر، لكن التميز اللوني بين الملابس والآثار يميزه لأنه –رغم ضآلته في الكادر وتصويره من أعلى- يظل مركز الاهتمام لكونه الشخصية الرئيسية، ويعكس هذا التباين خلود الآثار في مقابل زوال البشر.

فيلم المومياء شادي عبد السلام
 

حركة الكاميرا: راوي لا يحتاج للكلمات

في الصورة يظهر البطل خلف تل من الرمل ناظرًا نحو رجال القاهرة، هذا الكادر يعكس ضياع البطل لأنه يقف وسط مساحة خالية من الطبيعة ويبدو غارقًا في بحر من الرمال التي تبطئ الحركة، مع تباين لوني واضح بين ردائه الأسود ولون الرمال الفاتح. وعند استكمال الحركة يقترب ونيس نحو الكاميرا وتقترب الكاميرا بعدسة التقريب وهذا يرفع سرعة تقدمه إلى أن يملأ وجهه الكادر وعليه نظرات التحدي والتصميم بعد أن كان الكادر يعكس حالة الضياع.

فيلم المومياء شادي عبد السلام
 
فيلم المومياء شادي عبد السلام
 
فيلم المومياء شادي عبد السلام
 

في هذا المشهد يظهر الغريب -بعد أن يتم الاعتداء عليه- محتميًا بالآثار الفرعونية، وحركة الكاميرا تؤكد فكرة الاحتماء، تلتف من وراء الآثار ليظهر جسم الغريب -أشبه بوضع الجنين- ولا تكشفه من الزاوية الأخرى فيفقد التشكيل قيمته، وحين يراه المشاهد لا يكاد يتميز الفارق بينه وبين الآثار لتشابه درجة اللون بين ما يرتديه الغريب وبين الآثار.

فيلم المومياء شادي عبد السلام
 

يتغلب ونيس على مخاوفه ويذهب لرجال القاهرة ويخبرهم، ويتم تصويره صاعدًا إلى مستوى أعلى كمن يتخطى مخاوفه وينتصر للحق والخير.

فيلم المومياء شادي عبد السلام
 

كل هذا التحليل البصري يقودنا إلى أهمية (شادي عبد السلام) كصانع سينما أصيل ومهارته في ترسيخ قواعد ومبادئ التحكم في الصورة لإثراء الحكاية، لأن الصورة هي أهم لغات السينما رغم أن السينما جامعة للفنون، الثراء البصري لا يجعل المشاهد بمعزل عن سرد الحكاية، ويخلق حالة من التوحد بين الفيلم والمشاهد خاصة أن الفيلم يحكي حكاية تاريخية في زمن سابق، الإبداع البصري في هذه الحالة يصبح ضرورة درامية لأن هذا النوع ليس فنًا شعبيًا فقط ولا يبحث في تفسيرات أو فهم ما حدث في صورة خطابية، وإنما مصدر جديد وسرد للتاريخ وجزء لا يتجزأ منه. وهو ما يحلينا في النهاية لمقولة شادي عبد السلام:

أتصور أن الأفلام التاريخية التي أقدمها ومُصر عليها هى نوع من البحث التاريخي بلغة الكاميرا عن هموم وأشواق الحاضر، أنا أرى الحياة في استمراريتها سواء بالنسبة لي أو لغيري، ولا يمكن أن أعزل اليوم عن الأمس، إذا أردت أن أرى جيدًا ما يحدث اليوم فما نحن فيه اليوم هو نتاج تاريخنا. 
شادي عبد السلام