كان من قبيل المصادفة أن تزامنت مشاهدتي لحلقات «العصور السبعة لموسيقى الروك» التلفزيونية التي أنتجتها بي بي سي، والحلقات الدراسية المصورة التي تحمل اسم «موسيقى البيتلز» للبروفيسور جون كوفاتش، مع شروعي في دراسة وتحليل موسيقى «روسيني» لأول مرة، فكانت نتيجة ذلك الحتمية أن تملَّكني حب كل من «روسيني» والبيتلز. ثم ازدادت الأمور تشويقا عندما أشارت الحلقات التلفزيونية والدراسية إلى الجدية الشديدة التي كان البيتلز يتعاملون بها مع موسيقاهم، بينما اكتشفت أن «روسيني» قد أطلق على ١٥ مجلدا من أعماله (تضم ١٥٠ مقطوعة موسيقية على وجه التحديد): خطايا الشيخوخة Péchés de vieillesse. كما كان يقول بحس فكاهي مشيرا إلى سهولة عمله: «يمكنني استخراج اللحن حتى من فاتورة المكوجي».

لماذا إذا يُعتبر «روسيني» مؤلف موسيقى «جاد» بينما لا يتم التعامل مع البيتلز على النحو ذاته؟ إنه سؤال يصعب حسم إجابته. بل ويصعب تحديد البداية المناسبة للإجابة عنه، فبعد فترة من البحث يبدو السؤال نفسه أقل وضوحا، فماذا نعني بـ «جدية» أولا؟ وإلى ماذا تشير في هذا السياق بالتحديد؟ ولا يمكث السؤال قبل أن يزداد غموضا، فماذا نعني بـ «مؤلف موسيقي»؟ وهل البيتلز مؤلفو موسيقى؟ وهل السؤال نفسه صحيح؟ وهل خفة الظل نقيض للجدية؟ وإن كانت كذلك، فهل ينبغي أن يكون السؤال: «لماذا روسيني أقل هزلية من البيتلز؟» هو نفسه السؤال الأوّل؟ كلا، إنه ليس كذلك. وهنا تبدأ الأمور تتضح شيئا ما.


الجدية والكوميديا

أولى خطوات الإجابة عن هذا السؤال هو تعريف مصطلح «الجدية»، وهو ما نراه في قاموس أوكسفورد كالتالي: «حالة من الرسمية أو الرصانة فيما يتعلق بالشخصية أو الأسلوب». تعريف غير مجزي! لكننا نجد سلوى في تعريف جان بول سارتر؛ فروح الجدية عند سارتر هي الإيمان بأن هناك صلاح مستقل وموضوعي في الأشياء يمكن للناس اكتشافه. وهذا الإيمان يؤدي إلى ما يطلق عليه «الاعتقاد الزائف mauvaise foi»، وهو ما نطلق عليه نحن ازدواج المعايير. إذا فالجدية ليست صفة حميدة في الواقع، أو على الأقل بالنسبة لسارتر. إن هذا التعريف بمثابة استنارة! ومع مزيد من القراءة نجد أن سارتر لم يكن الفيلسوف الوحيد الذي تبنى هذا المفهوم، فهناك -على سبيل المثال- جوزيف أديسون الذي قال في أوائل القرن الثامن عشر: «إننا نزداد جدية، وتلك خطوة جديدة في طريقنا نحو البلادة».

أما برنارد دوكيور Bernard F. Dukore، فرغم إيمانه بأن خفة الظل ليست ضد للجدية، فإنه يرى ضرورة تحلي المرء بكل من حس الدعابة والجدية حتى يتمكن من تقدير أي منهما. لذا، نجد أنه من المستحيل تعريف الجدية دون تعريف خفة الظل.

ما هي خفة الظل إذا؟ من حسن الحظ أن خفة الظل تم دراستها أكثر بكثير من الجدية، وهكذا يكون الوصول إلى تعريف محدد لها أكثر سهولة. طبقا لقاموس أوكسفورد -مجددا- فخفة الظل هي «القدرة على أن تكون مسليا أو مضحكا». أما أصل كلمة humor فترجع إلى اللغة اللاتينية، حيث كانت تستعمل للإشارة إلى سائل ما في الجسد كان يعتقد حينها أنه مسؤول عن الصحة والمشاعر لدى الإنسان.

وبينما يختلف الفلاسفة والفنانون والموسيقيون حول فضل الجدية، فإن أغلب الناس يتفقون على تقدير خفة الظل. فخفة الظل، طبقا لأكثر التعريفات وضوحا، هي القدرة الإدراكية التي تمكن الشخص من فهم وتقدير والاستمتاع بالدعابة. وعلى الرغم من سهولة تعريف خفة الظل مقارنة بالجدية، إلا أنها مصطلح واسع الدلالة، فالطرافة والسخرية والتهكم وغيرها هي أنماط وتنويعات مختلفة من خفة الظل، لكل منها صفات مميزة وعمق فكري خاص بها، وبينما تعتبر السخرية (محاكاة الأعمال الجادة بشكل يفقدها جديتها أو يعرضها بصورة هزلية) هي أدنى أنواع الكوميديا مكانة، نجد أن التهكم يحتل مركزا مرموقا بين أنواع الكوميديا.

يعلق ليونارد بيرنشتاين Leonard Bernstein في إحدى محاضراته عام ١٩٥٩ قائلا: «لابد لأي مزحة أن تجور على شخص ما أو شيء ما، لابد من جرح مشاعر شخص أو تدمير شيء لتضحك». ويمكن لهذا الشيء أن يكون كرامة إنسان، فلم نزل نجد أن انزلاق أحدهم أمرا مضحكا. وقد تكون على حساب المنطق نفسه، مثل أشخاص يمسكون بأصابعهم قمة برج أيفل في الصور.

تحمل الأنواع الأرقى من الكوميديا عنصرا يمكن تسميته «مفارقة Incongruity» وهو ما يستدعي دلالة ملتبسة بين أمرين مختلفين، مثل المشهد الشهير لنجيب الريحاني في فيلم «غزل البنات»، حين يخلط بين الباشا وأحد الخدم، لما كان عليه الخادم من تأنق وحسن هندام خدع «الأستاذ حمام».

لكن هل يمكن لشيء مجرد مثل الموسيقى أن يكون خفيف الظل؟ هل توجد موسيقى “مضحكة”؟ كان جواب «شوبرت» عن هذا السؤال هو النفي المطلق. وبالنسبة لي فلا أظن -على حد علمي- أن مقطوعة موسيقية اقتربت من خفة ظل مشهد الملاكمة الشهير لشارلي شابلن في فيلم «أضواء المدينة». وهكذا يكون «شوبرت» محقا -إلى حد كبير- فحتى مع أكثر المقطوعات الموسيقية خفة ظل، لن تتوقع سماع ضحكات المستمعين أو العازفين، ففي معظم الحالات ينتج الضحك المتزامن مع مقطوعة موسيقية عن سبب -غالبا- غير موسيقي. ويمكننا الاستعانة بمقطوعة روسيني «دويتو القطط Duetto buffo di due gatti» من عام ١٨٢٥ كمثال، وهي التي ما زالت تضحك الحضور في القاعات حتى يومنا هذا، لكن هل يرجع السبب إلى خضائصها الموسيقية؟ كلا، فإن تقديم نفس المقطوعة باستخدام آلتي فلوت، تلعبان النغمات نفسها، بدلا من مغنيتي السوبرانو اللتين تتظاهران بكونهما قططا، سيجعل منها مقطوعة موسيقية جميلة وجادة بشكل تقليدي، حيث تخلو حينها من كل عناصر الفكاهة. وخاصية «المفارقة Incongruity» هنا هي أحد أهم بواعث الضحك، فلا يتوقع أحد تحت أي ظروف أن تخرج مغنيتا سوبرانو محترفتان بعد أن قضيتا أعواما من التدريب إلى المسرح، لتموءا بكل صدق وجِد أمام حشد من المستمعين.

كما أن بعض أسماء المقطوعات الموسيقية ترسم البسمة على وجوه المستمعين، والمؤلف إريك ساتي على سبيل المثال كان متمكنا ومتمرسا في إطلاق الأسماء خفيفة الظل على مقطوعاته مثل «مقدمة شديدة الترهل من أجل كلب Truly Flabby Preludes for a Dog»، ولو أن أحدا استمع إلى تلك المقطوعة دون دراية باسمها لما وجد فيها ما يُضحك على الإطلاق.

والحق أن مجرد محاولة شرح العلاقة بين الموسيقى والفكاهة، وكيف يمكن للموسيقى أن تكون مُضحكة سوف يفسد الأمر برمته، فالمزحة تفقد تأثيرها إن تم شرحها. تلك حقيقة يتجاهلها البعض سواء بقصد أو بدون، وسنتعمد تجاهلها في هذا المقال، فهي الوسيلة الوحيدة لاستكمال البحث.


الفكاهة في الموسيقى الكلاسيكية

حاول مؤلفو الموسيقى إضافة عنصر الفكاهة إلى موسيقاهم منذ العصور الوسطى، إن لم يكن من قبل ذلك، لكن الأمر أًصبح أكثر وضوحا في موسيقى العصر الكلاسيكي (النصف الثاني من القرن الثامن عشر) وموسيقى القرن العشرين. وسنرى في تلك المحاولات خلال العصر الكلاسيكي نموذجا ينطبق عليه تعليق بيرنشتاين المذكور سابقا، فهو عصر معروف بالقوالب الموسيقية الصارمة، ولقد جاءت الفكاهة في هذا العصر على حساب تلك الصرامة، وإن مجرد كتابة عبارة موسيقية مكونة من ٣ أو ٥ موازير بدلا من ٤ كما هو معتاد، لهو أمر فكاهي في حد ذاته طبقا لمعايير هذا العصر. كذلك موسيقى موتسارت وبيتهوفن (خاصة أعماله الأولى) وكليمنتي وكارل فيليب باخ وهايدن (الأكثر جدارة بالذكر هنا) مشبعة بهذا النوع من الفكاهة، بينما يصعب إيجاد مثال واحد لذلك في موسيقى شوبين أو ليزست أو غيرهما من أشهر مؤلفي الحقبة الرومانسية. ويرجع هذا على الأغلب لما تميزت به موسيقى الحقبة الرومانسية من قوالب أقل صرامة وأكثر تحررا، مما أدى لندرة الحد الأدنى من العناصر الجامدة التي تحتاج الفكاهة لكسرها كي تحقق ذاتها.

يناقش الكوميديان روان أتكينسون (مستر بين) الفكاهة البصرية في الفيلم التسجيلي «Funny Business» إنتاج ١٩٩٢، فيقول إن الفكرة الرئيسية وراء الكوميديا هي أن شيئا ما أو شخصا ما ١- يتصرف على غير المألوف، ٢- يتواجد في مكان غير مألوف، ٣- يكون في حجم غير مألوف (غير مناسب). إنها مفارقات (Incongruities) من نوع مختلف.

والربط بين ذلك وبين الموسيقى ليس بالأمر العسير؛ فكل ما يحتاجه الأمر هو استبدال «شخص أو شيء» بـ «آلة أو نغمة أو تآلف cord»، والأمثلة من النوعية الأولى متوفرة بكثرة في الأعمال الأوركسترالية، مثل تحويل السلم في قسم التفاعل في العديد من سيمفونيات «هايدن»، أما استخدام التآلف cord الخاطئ في الجافوت من السيمفونية الكلاسيكية لـ «بروكوفييف» هو مثال من النوع الثاني، وما تم ذكره من قبل عن القوالب في الحقبة الكلاسيكية فيمكن إدراجه ضمن النوع الثالث، عندما تكون العبارة الموسيقية أطول أو أقصر بمقدار مازروة.

هناك أيضا الحركة الثالثة في السيمفونية الأولى لـ «مالر»، وهي مثال مزدوج من النوع الأول «التصرف على نحو غير مألوف»: فنجد أولا الكونتراباص تلعب لحن غنائي الطابع بدلا من دورها الإيقاعي المعتاد، وثانيا كون هذا اللحن هو لحن فيريرو جاكو frere Jaques أغنية الأطفال الشهيرة، أو برودر مارتن -كما يطلق عليها مالر- لكن في السلم الصغير. أما استخدام ريسبيجي Respeghi لجرامافون يصدر أصوات عصافير في ١٩٢٨ هو مثال من النوع الثاني، وللنوع نفسه يوجد مثال أوضح هو استخدام تشايكوفسكي لـ «مدفع» في افتتاحية ١٨١٢. لكن هل هذه المقطوعات هزلية بأي صورة؟ يعيدنا هذا إلى السؤال عن الجدية، فتلك المقطوعات جادة بشكل كبير، ولقد أدى استخدام تلك الأفكار الفكاهية في تلك الأعمال إلى تدعيم الدراما الكامنة في العمل (في حالة «مالر») والعظمة والفخامة (في حالة «تشايكوفسكي» و«ريسبيجي») وهكذا يتضح أن جدية أو هزلية أي مقطوعة يعتمد أولا وبشكل كبير على الإطار السيكولوجي لها، حتى وإن استخدمت بعض الطرق الطريفة. فزيادة مازورة على الجملة الموسيقية عند «هايدن» تبدو طريفة، بينما أداء المثل في عمل من أعمال «سترافينسيكي» يثير فينا إحساسا بعدم الارتياح. وتكرار الجمل القصيرة أو النغمات نفسها يمكن أن يبدو طريفا مثل «لا فينديتا» التي يرددها بارتولو في «زواج فيجارو» لـ موتسارت، وقد يبدو دراميا، وكذلك استخدام مجموعات من النغمات الإستاكاتو المتفرقة، وهي من حيل بيتهوفين المفضلة.

لكن إن توقفنا هنا سنواجه مشكلة كبيرة، وهي أن الاستنتاجات السابقة ترجح أن سيمفونيات هايدن و«زواج فيجارو» لـ موتسارت هي أعمال غير جادة، وهذا مخالف للواقع بالطبع. لذا نحتاج إلى مزيد من الدراسة، ولتكن الخطوة التالية قراءة نقدية للتعريف الوارد في مقال كاثرين شميدت جونس الذي حمل عنوان: «أي نوع من الموسيقى هذه؟».

قامت كاثرين شميدت جونس في تلك المقالة بتعريف الموسيقى الجادة بأنها الموسيقى التى تحتاج من المستمع قدرا أكبر من المحاولة (مقارنة بما تحتاجه الموسيقى التقليدية أو الأكثر انتشارا) ليتمكن من تقديرها حق قدرها. لكني أظن أن هذا التعريف خاطئ بقدر كبير، حتى إنه يكاد يصلح تعريفا للموسيقى غير الجادة. فأولا، يفترض هذا التعريف أن كل الموسيقى قابلة للتقدير، وهذا غير صحيح، فهناك كثير من المقطوعات الموسيقية والأغنيات التي تنتج كل عام ولا تستحق أي تقدير، وبالنسبة لأي من هواة الموسيقى الكلاسيكية، والقارئ الذي وصل إلى هذا الجزء غالبا منهم، وسيجد أن هناك أنواعا معينة من الموسيقى الأكثر انتشارا تحتاج لجهد أكبر لتقديرها أكثر من رقصة مينويت تقليدية من الحقبة الكلاسيكية. يرجح هذا على الأغلب أن جدية العمل تعتمد على خصائص العمل في حد ذاته، وليس على رد فعل المستمع أو نيته أو نية المؤلف نفسه. وبذلك تكون جدية العمل موضوعية. هل السبب إذًا استخدام هارموني معقدة؟ كلا، فهناك العديد من المقطوعات أحادية الصوت (المونوفونيك) الرائعة، والتي تتميز بجدية شديدة. هل هو اللحن؟ كلا.

وهكذا نظل نستبعد العناصر حتى نصل إلى استنتاج أن ذلك العنصر هو على الأغلب المحتوى الدرامي، الذي يسهم في جدية العمل. ولا يبدو أن هناك ما يعارض هذا الاستنتاج حتى الآن -على حد علمي- فحتى «دويتو القطط» لـ روسيني المذكور سابقا يحتوي على هذا الصراع الدرامي، بينما تفتقده أغنية «أريد أن أمسك يدك» للبيتلز رغم جمالها وجاذبيتها. ولعل ذلك هو سبب إدراج اعمال روسيني ضمن الأعمال الجادة بينما لا تقع أعمال البيتلز داخل هذه الدائرة عادة.

لكن أيا من ذلك لن يكون كافيا لحسم الجدل، إلا أن هناك قيمة تكمن في كل بحث، بغض النظر عن بلوغ الغاية.