يجادل فريقان بشأن مداولات إدراج جماعة الإخوان على القوائم الإرهابية الأمريكية (قائمتا وزارة الخارجية ووزارة الخزانة)، بين من يرى أن المسألة عربية بالأساس بسبب ضغوط خليجية (إماراتية)، وبين من يرى أن صعود اليمين المتطرف الآخذ في الانتشار في الغرب يهيئ المناخ لهذه الحرب ضد جماعات الإسلام السياسي.

لم تكن الضغوط الخليجية هي السابقة الأولى خلال أعوام ما بعد الانقلاب العسكري المصري 2013، فقد شهدنا على مدى شهور طويلة السجال الجاري بلندن في عهد كاميرون حول ذات الشأن وبنفس الضغوط العربية، ولم تنته هذه الحالة إلا بعد خروج تقرير مخفف الصياغة عن الإخوان يبرئهم من استخدام العنف (المنظم) ويثّمن تجربة الإسلام السياسي في تونس، لينجو كاميرون من تبعات فخ حظر الجماعة.

سبق هذا التقرير استدعاء في يونيو/حزيران 2016 لإبراهيم منير –أقدم قيادات الإخوان بالخارج ويحمل الجنسية البريطانية- إلى لجنة الشئون الخارجية بمجلس العموم البريطاني، للاستماع إلى وجهة نظر الجماعة في القضايا التي تقلق الغرب، و أعطى الرجل البريطانيين ما يريدون عبر إجاباته التي تعبر عن ليبرالي براجماتي لا عن إسلامي راديكالي، معبرا عن أدبيات الجماعة المناهضة للهيمنة الغربية أو الداعية لأسلمة المجتمع والدولة.

يدرك الغرب (أجهزته الأمنية ومستشاروه) ما وصل إليه الحال داخل جماعة الإخوان من خلافات دبت لأول مرة بين المستويات القيادية العليا، وانتهت إلى جماعتين طولا وعرضا، بغض النظر عن الأوزان النسبية لكل فريق وأدوات قوته؛ بين من يملك المال ومفاتيح التنظيم، ومن يملك شعارات التحديث معتمدا على انصراف طاقات الجماعة الفاعلة عن القيادات التقليدية التي تتولى زمام الجماعة منذ سبعينيات القرن الماضي.

يدرك الغرب أيضا أن الخلاف لم يكن تنظيميا فقط، وإنما فكري بالأساس، وأن التيارات الجديدة التي تتصاعد داخل الجماعة نبرتها في تحدي منظومته أكبر وقد يحالفها الحظ يوما فتقوى فيصيبهم ما لا يخططون له.

كان تقرير كارنيجي في أكتوبر/تشرين الأول 2015 معبرا عن هذه التخوفات بدقة عندما نصح القيادات التقليدية بسرعة احتواء تيار المواجهة المتصاعد قائلا:

على قيادة الإخوان أن تكبح جماح المحرّضين الداخليين ورفض الاستماع إلى الأصوات المتطرّفة، وينبغي على المحاورين الغربيين الذين لايزالون على تواصل مع قيادة الإخوان تعزيز هذا الواقع، إذ يمكن للقيادة العليا للجماعة استغلال ثقلها ومعرفتها بالتنظيم ومصادر تمويله لمواجهة صعود المجموعة الثورية. وبقدر ما يبدو التوصّل إلى تسوية سياسية أمرا مستبعدا اليوم، فقد يكون مستحيلا لعشرات السنين إذا ما انتصر الفصيل الذي يسعى إلى المواجهة في جماعة الإخوان.

لم تتأخر الإدارة العليا في الجماعة عن نداء كارنيجي كثيرا، فبعد شهور قليلة استطاعوا عزل وتشويه التيارات التغييرية الصاعدة وتعمد المفاصلة معهم في قضية العنف والسلمية وجعلها القضية الأبرز في الخلافات التنظيمية، في سبيل عدم خسارة النظرة الغربية للجماعة التي تعاملت معها طوال تاريخها على أنها جماعة وسطية أفضل حالا من التيارات الجهادية المزعجة لهم، فقد وجدت أوروبا في جماعة الإخوان حاضنة واسعة تستوعب الشباب الفاعل في الوطن العربي وتصرف طاقته في مشروعات خيرية وتنموية ودعوية.. لكن مؤخرا بعد الانقلاب المصري والدماء الكثيرة التي صاحبته لم تعد هذه النظرية صالحة، ويخشى الإخوان والغرب على السواء من هذه الجزئية تحديدا، خاصة مع ذيوع صيت القاعدة والدولة الإسلامية في سوريا والعراق ودعايتهم المبنية على شرعية الإنجازات وكثير من الأداء الإعلامي المحترف.

وهذه الزاوية أيضا هي محل الجدال الدائر في الأروقة الأمريكية حول تبعات قرار إدراج الجماعة على قوائم الإرهاب ومساواة الجماعة بالحركات الأكثر تشددا، وهو إن حدث فسيضعف سيطرة القيادات القديمة على ما تبقى من آثار ركام الخلافات الأخيرة، ويكون مسوغا جديدا للتيارات الجريئة ذات التحدي الأكبر لاستمرار الصعود، ورواجا أكبر للخطاب الراديكالي.

لكن ليست المسألة معنية بالجانب المصري فقط باعتبارها الجماعة الأم، إذا اختزلنا تبعات قرار أمريكا المنتظر على هذه الزاوية فقط، فإننا نكون أهدرنا تأثير عشرات الملايين من أعضاء الجماعة ومؤيديها وآلاف التنظيمات والمؤسسات التابعة والحكومات المتعاونة على مساحة جغرافية هائلة، وفي القلب منها الجغرافية الأمريكية نفسها. لا يمكن بأي حال من الأحوال شطب هذا الميراث التاريخي ومنتميه الذين يقدرون بالملايين بقرار متعجل من إدارة أمريكية متعصبة تشجعها أموال وضغوط عربية.

لم تعد الإخوان المسلمين تنظيما واحدا في العالم ولا حزباً بأيديولوجيا ثابتة، في سنوات قليلة أعلنت فروع كثيرة من الإخوان تبرئهم من التبعية التنظيمية العابرة للحدود لجماعة الإخوان،ليس اتحاد المنظمات الإسلامية بأوروبا آخرهم، بل سبقهم تونس والمغرب والأردن في الأعوام الأخيرة. يبدو جليا أن الجميع يريد أن يهرب من تبعية البعد الدولي للتنظيم أو ربط مصيره بتقلبات متسارعة غير مأمونة العواقب، الإخوان اليوم إذن أقرب إلى التيار من التنظيم، وأقرب إلى المحلية والقُطرية من المشروع الكبير الذي امتلأت أدبياتهم به.

لم يكن مصطلح التنظيم الدولي للإخوان سوى فقاعة كبيرة أضرت بالإخوان أكثر مما أفادتهم لأنهم اتبعوا المبدأ المصري الشهير (الصيت أهم من الغنى)، بينما لا يوجد أثر فعلي للتنظيم الدولي سوى مؤتمرات واجتماعات بحضور باهت بلا قرارات أو مشروعات، لتكون بالنهاية أشبه بالصالونات السياسية.

تصاعدت دعاية التنظيم الدولي بالأساس في فترة نشاط الأستاذ يوسف ندا قبل عشرين عاما، لم يتخيل أحد حينها أن ندا هو -فقط- واجهة التنظيم بالخارج، لكن بغيابه ظهرت أوهام الدعاية التي ليس لها واقع حقيقي، واستمر خصوم الإخوان في تجاهل هذه الحقيقة رغبة في استمرار مخطط حصارهم والتضييق على الجماعة تحت هذه الفزاعة.

لن يكون قرار الإدارة الأمريكية بحظر الإخوان نابعا عن عدم فهم الجماعة وما يدور بها، بقدر ما سيكون توجها متطرفا ومتعمدا، يصاحبه عامل محفز يتمثل في تراجع إدراك قيادة الجماعة بالتحولات الكبرى للواقع والمتغيرات الدولية المتسارعة بعد الربيع العربي. قد يكون هذا العامل مساعدا لجرأة الغرب في الاستمرار بمحاصرة الجماعة وخنقها، لكن عقاب الملايين من الإخوان في العالم سعيا وراء هذه الفرصة عواقبه غير محمودة.

يدرك الغرب إذن ما لا يدركه النظام المصري الذي لا يرى سوى الحل الأمني سبيلا للتعامل مع جماعة الإخوان المسلمين، وهو ما لا يصب في مصلحة النظام المصري ولا الإقليمي، بل ربما يكتشف السيسي يوما أن طوق النجاة في حلحلة المشهد السياسي، وأن الوقت ليس في صالحه.. فهو لا يدرك أن الجماعة لم تنفجر بعد في وجه العالم.