للاطلاع على الحلقة الأولى اضغط هنا


فُتِح باب غرفة الدكتور «يورجن» في المصحة النفسية وخرج منه طبيب شاب تجه نحو «حسام» الذي كان قد قاربت أعصابه على الاحتراق من طيلة الانتظار، وقف حسام لا إراديًا عندما شاهد الطبيب يقترب منه ويخاطبه قائلًا: أستاذ حسام يمكنك الآن أن تقابل د. يورجن، ويجب أن تعلم أنه بالرغم من أنك ستقابله وحدك تمامًا إلا أننا سنراقبكما عبر دائرة تلفزونية تسجل هذا اللقاء، أنت تفهم بالطبع قواعد المستشفى ومدى اهتمامنا بهذه الحالة.

* طبعًا، أنا أتفهم جيدًا.. هل الدكتور واعٍ وفي حالة تسمح لي بالتحدث معه؟

– نعم، لكنه بالطبع ليس في حالته الطبيعية، لكنه يستطيع التحدث والتركيز إلى حد كبير، لقد تحسنت حالته جدًا في الأيام الأخيرة.

أردف حسام بنفاد صبر واضح: هل أستطيع أن أدخل الآن؟

– طبعًا طبعًا، تفضل..

دلف حسام إلى الغرفة وهو يشعر بنبضات قلبه تتسارع بوضوح، أغلق الطبيب باب الغرفة وراءه في هدوء، وجلس حسام على كرسي مريح أمام سرير أبيض ناصع يجلس عليه الدكتور يورجن ممددًا رجليه، لاحظ حسام الكاميرات المثبتة بعناية في زوايا الغرفة، ولاقطات الصوت الدقيقة، لا بد أن بعض هذه الكاميرات يلتقط صورًا حرارية وطيفية لهما الآن، ولا بد أن لاقطات الصوت تسجل حتى أنفساهما..

كان الدكتور يورجن شارد الذهن بشكل واضح، يشده ببصر ثابت إلى نقطة لا مرئية في الغرفة، وعلى الحائط المجاور له كان رقم هاتف حسام يبدو منقوشًا بخط متعثر، جلس حسام يتأمل الدكتور يورجن والغرفة منتظرًا أن يلحظ وجوده بلا جدوى، تنحنح حسام قليلًا فنظر إليه الدكتور فجأة وقال بانفعال واضح: حساااااام، كنت أنتظرك منذ فترة طويلة..

«شرف لي يا دكتور أن أقابل حضرتك، لكن في الحقيقـ…» قاطعه يورجن بانفعال: «كل سؤال ستسأله الآن ليس له معنى، السؤال الوحيد الذي له معنى في عقلك هو أكثر سؤال تتمنى الإجابة عليه، وإجابته هنا».. وأشار بعصبية وقوة إلى الرقم المنقوش على الحائط..

«أنا لا أفهم» .. صاح حسام في دهشة ردًا على الدكتور يورجن الذي كان قد بدأ يشرد من جديد في حالة تقترب من الذهول، كان الرجل يبدو مخبولًا إلى حد بعيد ويده ترتعش مشيرة إلى الرقم الذي نقشه بحطام نظارته على حائط الغرفة..

– «ما هو السؤال الوحيد الذي له معنى في عقلي يا دكتور؟!» .. نهض حسام من كرسيه مخاطبًا يورجن محاولًا أن ينظر إلى عينيه دون فائدة.. «يا دكتور يورجن، هذا رقم هاتفي، ليس به أي إجابات لأي أسئلة».. كرر حسام وهو يربت على كتف الدكتور يورجن بحرص.. خفض يورجن يده المرفوعة نحو الرقم وهمس في شرود: «مشكلتك هي سؤالك وجوابه معك، يجب أن تعلم»..

فُتِح باب الغرفة فجأة ودخل طبيب وممرضة مسرعين وهتف الطبيب بحسام: «إنه يواجه أزمة قلبية، يجب أن نسرع».. اكتظت الغرفة فجأة بالأطباء والممرضات وأجهزة الإسعاف، وأخرجت إحدى الممرضات حسام بسرعة وأغلقت الباب.. وجد صاحبنا نفسه فجأة في صالة الانتظار من جديد، أمام نفس الممرضة التي ما زالت تلهو بهاتفها المحمول في ضجر واضح..

لقد بدت الدقائق القليلة التي أمضاها حسام بصحبة يورجن كأنها ساعات طويلة، مرة أخرى يمارس عقله ألعاب الوقت.. ماذا قلت للرجل؟ أزمة قلبية بعد أن يراك بدقائق قليلة؟! غمغمت الممرضة لنفسها بذلك فور أن وقعت عيناها على حسام الذي كان غارقًا في أفكاره كما لو أن عقله قد نما من العدم في هذه اللحظة فقط!

كان حسام باحثًا في بيولوجيا الأعصاب، وكان قد أمضى أعوامًا يحاول فهم الطبيعة الكمية «quantum» للنيورونات المكونة للنسيج العصبي للمخ، وأجرى العديد من الأبحاث والتجارب التي نشرت في مجلات علمية مرموقة وأثرت البحث العلمي في هذا المجال الدقيق، ولكننا إن شئنا الدقة فإن أبحاث حسام تعرضت للنقد أكثر مما تعرضت للمدح والثناء، فإن الرأي السائد في هذا التخصص الدقيق أن النيورونات لا تعمل على المستوى الكمي، لكن لندرة الباحثين في هذا المجال كانت الظروف تسمح لتجارب واختبارات مثل التي أجراها حسام أن تنشر في مجلات مرموقة..

«ما هو السؤال الوحيد الذي له معنى في عقلي؟» .. هتف حسام لنفسه في تساؤل وتمعن: «وماهو أكثر سؤال أتمنى الإجابة عليه؟!» .. اللعنة؛ الآن تبدو كل أسئلة الدنيا مهمة!

جلس حسام في صالة الانتظار ينتظر أن يطمئن على حالة يورجن، ما الذي جرى لهذا العجوز؟! إن يورجن لم يصل لسن الخرف بعد بالتأكيد، فقد كانت سمعته كزير نساء تملأ الأوساط الأكاديمية بالجامعات التي يحاضر فيها كلها! تمنى حسام لو كان يعلم تفاصيل أكثر عن الحادث الذي تعرض له يورجن وأفضى به إلى هذه الحالة.. ما الذي يمكن أن يتلف عقل ووعي عالم فذ كهذا إلى تلك الدرجة المريعة؟! تنبه حسام في هذه اللحظة إلى حقيقة غريبة، كان الدكتور يورجن قد تعرف عليه بوضوح أول ما أن رآه على الرغم من أنهما لم يلتقيا قبل ذلك قط! كيف تعرف عليه يورجن؟ هل أخبره أحد الأطباء باسمه قبل أن يراه؟ كان ذهن حسام يغلي بكل الأسئلة التي يمكن أن يطرحها موقف كهذا..

خرجت إحدى الممرضات من غرفة يورجن في عجلة، فلحق بها حسام ليسألها عن حالة يورجن: «إنه بخير، لقد تجاوز الأزمة لكنه غير واع»، أجابته وهي تلتقط أنفاسها.. «هل يمكن أن أقابل أحد الأطباء المسئولين عن حالة د. يورجن؟»، سألها فأجابت: «نعم طبعًا، تفضل إلى استراحة الأطباء وسيوافيك أحدهم بعد دقائق»، وأشارت نحو ممر قصير يفضي إلى الاستراحة، شكرها ونهض ببطئ شارد الذهن.. بعد قرابة النصف ساعة شعر حسام كأنها دقيقة، دلف أحد الأطباء إلى الاستراحة وارتمى على الأريكة في إرهاق واضح..

* «هل أنت صديقه منذ زمن طويل؟»، سأل الطبيب حسام وهو يتمطى بتعب..

– «في الحقيقة لا، هذه أول مرة أرى فيها د. يورجن»، أجاب حسام

* لكنكما تعرفان بعضكما البعض أليس كذلك؟ أعني.. لقد شاهدت لقاءكما، واضح جدًا أن د. يورجن يعرف من أنت، لاسيما أننا قد أخفينا عنه أي معلومات عن هوية الشخص الذي سيقابله..

– لا، لا نعرف بعضنا البعض، وهذا ما يحيرني جدًا.. كيف يمكن أن يعرفني شخص ويعرف رقم هاتفي وأنا لا أعلم عنه أي شيء؟! وما هو أهم سؤال في عقلي؟ و ما هــ…

* قاطعه الطبيب صائحًا: يا أستاذ حسام واحدة واحدة… آخر ما أحتاجه الآن هو مثل هذه الأسئلة.. متأسف لكني لا أستطيع أن أتناقش معك في ذلك، هل تريد أي شيء آخر؟

* أجل، هل يمكن أن تخبرني ما هو تشخيص حالته؟

– الآن هو يتعافى من أزمة قلبية، أما حالته النفسية فهو مصاب بإجهاد ما بعد الصدمة «PTSD» مصحوبًا بهلاوس بصرية وسمعية حادة وتخشب عضلي بسيط..

* ما هو سبب الصدمة؟ سأله حسام في حذر، فقد شعر منذ البداية أن الجميع يتفادى الحديث عن الصدمة أو الحادث الذي تعرض له يورجن، لكن هذا الطبيب يبدو له أقل اكتراثًا بالأمر برمته..

– أجابه الطبيب: الدكتور يورجن يا سيدي يدعي أنه قد قابل نفسه! بدت السخرية بوضوح في لهجته..

* ماذا تعني؟ قابل نفسه في زمن آخر؟ سافر عبر الزمن مثلًا؟!

– يارييييت… لكن يورجن يقول إنه قد قابل نفسه في زماننا هذا!

* أنا لا أفهم، كيف يقول هذا وهو أستاذ في الفيزياء الحديثة؟! وماذا يعني؟

– ابتسم الطبيب في سخرية وقحة وقال: لا يعني أي شيء يا أستاذ حسام، صحيح أنت أستاذ أم دكتور.. مثله؟! وأضاف ساخرًا وابتسامته تتلاشى لتحل محلها نظرة ناصحة: لا تشغل عقلك بمثل هذه الأمور، هذا النوع من العلماء مثل يورجن قد يدعي الجنون لكي ينجو بنفسه من فضائحه مع النساء، أنت لا تعلم شيئًا..

نظر إليه حسام في ريبة وشك، إنه يعرف هذا النوع من الأطباء جيدًا، الطبيب «الصنايعي» كما يحب أن يطلق عليه دائمًا، الذي يتحول بعد سنوات طويلة وشاقة من الممارسة الإكلينيكية إلى حرفي طب، لا يكاد يقرأ معلومة جديدة كل سنة، لكنه يعالج مئات الحالات «بطرقه المعتادة» التي يعتقد دائمًا أنها قمة ما توصل إليه العلم الحديث!

شعر حسام بالضيق فجأة ، فاستأذن جليسه وعاد إلى صالة الانتظار مجددًا.. جلس على نفس المقعد، رمقته الممرضة بحدة قائلة: «الزيارة انتهت، لن تستطيع مقابلته مرة أخرى، يمكنك أن تنصرف إذا شئت»، نهض حسام مغادرًا وهو يلقي نظرة سريعة على باب غرفة يورجن، ما الذي جاء به إلى هذا المكان اليوم؟ شرد عقله وهو يغادر المستشفى إلى الشارع عبر الطريق في خفة والأفكار والتساؤلات تعصف بعقله.. لكن شيئًا واحدًا كان مؤكدًا له وسط كل هذه الأسئلة و الشكوك…ذلك أن حياته قد تغيرت إلى الأبد!

يُتبع…

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.