جلس «حسام» في غرفة الانتظار ذات الجدران البيضاء متمتمًا بعبارات اعتراضية مقتضبة، كان يبدو عليه نفاد الصبر بوضوح، إنه ينتظر هذه المقابلة بفارغ الصبر منذ أسابيع، وبالرغم من أنه كان قد اعتزل الحياة الاجتماعية بالكامل تقريبًا، إلا أنه كان متشوقًا للقاء هذا الرجل كما لم يتخيل أنه سيشتاق للقاء أحد قط!

منذ عدة شهور كان هذا الرجل محور أحاديث الوسط العلمي في العالم بأسره؛ بعد أن تقدم بورقة بحثية يقترح فيها إطارًا نظريًا ورياضيًا للجمع بين النظرية النسبية وميكانيكيا الكم، أو ما يطلق عليه العلماء «نظرية كل شيء»، والتي طالما اعتبرها العلماء مستحيلة وغير قابلة للتحقيق مطلقًا! لم يكن هذا هو سبب شهرته فقط، أو كما كان حسام يفكر دائمًا أن الأخبار والأقاويل التي تناقلتها الصحافة العلمية ووسائل الإعلام عن هذا الرجل كانت أهم للجماهير من نظريته المعقدة.. عالِم مرموق ينشر نظرية جديدة تستحق جائزة نوبل وهو على حافة الجنون!

لطالما كان الدكتور «يورجن» صاحب النظرية الجديدة غامضًا لمن حوله، طبيعة أسرته الأرمينية التي عاشت في الإسكندرية منذ العهد العثماني كانت تتمايز بوضوح عن محيطها الاجتماعي مما منعه منذ الطفولة من الانخراط الطبيعي مع أقرانه، وبالرغم من أنه كان يتحدث العربية كأهلها فإن تأثير اللغة الأرمينية على لهجته كان يظهر بوضوح لأساتذته في المدرسة، أضف إلى ذلك وسامته الواضحة التي كانت تحظى بإعجاب القرويات اللاتي كن يرونه في بيت عائلته الريفي بالقرب من دمنهور، عندما كان يذهب إلى هناك في عطلته الصيفية بالجامعة، بالإضافة بالطبع إلى شغفه الشديد بالفيزياء الحديثة التي كانت يرتبط ذكرها في تسعينيات القرن الماضي بارتياد الفضاء وأبحاث الذرّة! لقد أضفى عليه هذا الشغف الشديد بالفيزياء النظرية هالة غامضة لا يمكن إغفالها في مجتمعٍ لم يعد يألف العلم ولا العلماء.

شرد حسام في أفكاره مسترجعًا ما جمعه من معلومات عن الدكتور يورجن من أصدقائه وزملائه في الجامعة التي يعمل بها يورجن كأستاذ للفيزياء النظرية منذ ما يزيد على عشر سنوات، بعد عودته من الولايات المتحدة حاملًا دكتوراه في فلسفة النظرية النسبية من جامعة ستانفورد المرموقة..

«كيف نهتم لهذه الدرجة بقصص وأخبار الراقصات ولاعبي الكرة ولا نعبأ بمعرفة أي شيء عن علماء بأهمية يورجن يعيشون بيننا!».. هكذا تمتم حسام لنفسه بصوت غير مفهوم، نظرت إليه الممرضة التي تجلس على مكتب الاستقبال بلا اكتراث يُذكر، فليس من الغريب أن يتحدث زوار هذه المصحة إلى أنفسهم على هذا النحو.. قابل نظرتها بحدة أجبرتها على أن تعاود الانشغال بهاتفها المحمول مجددًا، عاد إلى شروده وهو ينظر إلى ساعة الحائط التي يتباطأ فيها الوقت كما لو كانت تبعد مليون سنة ضوئية عن الأرض..

كان يورجن محتجزًا في هذه المصحة منذ ستة أشهر تقريبًا بعد أن خرج من بيته ذات ليلة ولم يعد لأيام طويلة دفعت زملاءه وطلابه لإبلاغ الشرطة التي وجدته في حالة يُرثى لها فاقدًا للوعي تقريبًا على أحد الأرصفة، كان الدكتور يورجن بطبيعته أنيقًا إلى حد الفخامة كأي أرميني أو شركسي ثري يعيش في مصر، لكن عندما وجدته الشرطة كان جسده وملابسه في حالة مزرية..

لم يستطع أحد أن يفهم من يورجن أي شيء سوى بعض المصطلحات العلمية التي ميزها زملاؤه بصعوبة من هذيانه.. كلمات عن معادلة «بيكنشتين- هوكينج» للثقوب السوداء.. بعض المصطلحات عن ميكانيكا الكم.. لم يفهموا منه شيئًا آخر. وبعد أن نقله زملاؤه إلى هذه المصحة الخاصة التي تكفلت أخته الكبرى بفاتورتها الضخمة شخص الأطباء حالته على أنها انهيار عصبي كامل مصحوب بهلاوس حادة، وبدؤوا في علاجه ببعض العقاقير المهدئة والمثبتة للحواس والوعي والإدراك..

ظل يورجن يتأرجح بين نوبات الهلوسة والهياج والتخشب الحركي حتى بدأت العقاقير تؤتي مفعولًا لا بأس به مكّنه من أن ينام ويستيقظ في مواعيد تكاد تكون ثابتة، وأن يحافظ على صوابه لأوقات أطول من ذي قبل، حتى استيقظ من نومه ذات صباح ليمسك بعويناته ويهشمها بعنف لينقش بما تبقى من إطارها المعدني رقمًا على حائط غرفته..

لاحظت الممرضة المسئولة عن متابعة حالته الرقم فور أن دخلت عليه في نوبة الظهيرة، واستدعت الطبيب المسئول عن حالته الذي شرع فورًا في البحث عن دلالة هذا الرقم بعد أن رفض يورجن أن يتحدث إليه كعادته..

ظلت «إيرين» شقيقة يورجن معترضة على أن يُسمح لحسام بمقابلة أخيها بعد أن تبين أن الرقم الذي نقشه يورجن هو رقم هاتف حسام الذي لم يكن قد قابله أو سمع به قبل تلك اللحظة قط! وبالرغم من إلحاح أطباء المصحة على إيرين لكي توقع لهم إذنًا كتابيًا تسمح فيه بهذه المقابلة، ظلت تلك الأرمينية العنيدة ترفض الموافقة على اللقاء حتى ذلك اليوم..

فقد اتصلت إدارة المستشفى بحسام وطلبت حضوره للقاء يورجن بعد أن وافقت إيرين على هذه المقابلة فجأة ودون أي مبررات.. فكّر حسام أن إيرين قد تعاطفت مع رغبته في لقاء أخيها بعد أن غاص الأخير في غيبوبة استمرت ثلاثة أيام ظن فيها الأطباء أن حياته قد أشرفت على الانتهاء..

«على أي حال».. تمتم حسام مجددًا بصوت مسموع لفت أنظار الممرضة من جديد فخفض من صوته متمتمًا: «لا يهم لماذا وافقت إيرين على مقابلتي ليورجن، لا يهم أي شيء، المهم أن أقابل هذا الرجل».

كان الأطباء الشباب في المصحة قد أعدوا للمقابلة بشكل متقن، فسيتم تسجيلها بالصوت والصورة من أجل سجلات المصحة ومن أجل أغراض البحث العلمي أيضًا..

اقرأ أيضًا:الإنجاز القاتل!

كيف عرف «يورجن» رقم هاتف «حسام» وهو لم يلتق به من قبل؟! لماذا وافقت «إيرين» على أن يقابل «حسام» «يورجن» بعد أن أفاق الأخير من الغيبوبة بدقائق؟! ما الذي همس به يورجن في أذن إيرين بعد أن أفاق وجعلها تغير رأيها بهذه السرعة والصرامة؟! ترددت هذه الأسئلة بإلحاح وحيرة ممزوجة بالترقب في ذهن حسام ومعه أطباء المصحة طيلة الوقت الذي انتظروه حتى تنتهي إيرين من إعداد يورجن لهذه المقابلة الفريدة..