صدرت رواية «الأخت الأخرى لعائلة بينت» عن دار نشر «هنري هولت» عام 2020، وهي الرواية الأولى للكاتبة البريطانية «جانيس هادلو»، والتي تستمد عالم روايتها من العالم الذي بنته الكاتبة البريطانية «جين أوستن» بروايتها الشهيرة «فخر وكبرياء»، الصادرة عام 1813.

تعيد فيها «هادلو» رسم حياة «ماري» الأخت الوسطى بعائلة «بينت» المعروفة، فتتناول رحلتها في أربعة أجزاء؛ فنرى في الجزء الأول كيف تشكّلت حياة «ماري» منذ الطفولة وحتى النضج، في ظلال أخواتها البنات الجميلات البارقات ذوات الشخصيات الحيوية المشرقة، وفي الجزء الثاني تثخن معاناة «ماري»، خاصة بعد وفاة والدها، واضطرارها لترك بيتها بحكم قوانين هذه الفترة، التي تمنع الفتيات من أن يرثن أباهن، وأن يخرجن من بيتهن في حالة إذ لم يكن لديهن أخ يرث ممتلكات الأب، وتذهب مع أمها لتحيا عند أخواتها المتزوجات، وتظهر -بحدة- في هذا الجزء المعاناة الداخلية للبطلة متمثلة في هروبها من بيتٍ إلى آخر، في محاولة لإيجاد وسادة تضع عليها رأسها المتعب، دون الإحساس بالثقل أو المهانة أو انعدام القيمة. في الجزء الثالث والرابع، تبدأ ماري بإعادة اكتشاف نفسها، والاستمتاع بالحياة بطريقتها الخاصة.

الحياة مع عائلة مسيئة

في الجزء الأول نشاهد الصراع بين الشخصية التي رسمها الجميع عن «ماري»؛ وهي أنها ضحلة ومملة ولا تُبشِّر بأي مستقبل زاهر. نرى كيف تعاملها أمها ببرود تام، لأنها ترى أن ابنتها لا تمتلك المواصفات الجمالية الكافية التي يجب أن تمتلكها المرأة لكي تزدهر حياتها، فتُعاملها كسلعة مُنعدمة القيمة، فلا تتورّع عن الصراخ عليها وإهانتها بدون أي ندم، أو شعور بالحزن.

أمّا الأب الذي يمتلك شخصية لاذعة يلدغ من يقترب منه بالسخرية والتهكم، كان يصدها بقصد أو بدون، ولا يفتح أمامها الباب لكي تدخل منه، حتى عندما كانت تحاول أن تلجأ إليه، لتستمد منه احتياجاتها العاطفية الأساسية -التي تجعلها تنمو كإنسان طبيعي- كان يبعدها عنه بسخرية وشماتة واضحة، مما زاد من توترها واهتزازها.

لم تجد «ماري» أيضًا ملاذًا بأخواتها، فالأخوات الأربعة كوَّن فريقين منعزلين، ولم يسمحن لها بالانضمام. وبهذا نشأت «ماري» وحيدة تُصارِع احتياجاتها غير المُلبّاة، وتُصارع حروبًا لم تكن تشنّها، حتى ترعرع بعقلها أنها بلا قيمة وبلا مأوى، فعزفت عن التواجد مع الآخرين، وآثرت البقاء وحيدة مع كُتبها وتأملاتها وتطلعاتها الفكرية التي اتخذتها مأوى، للبحث عن معنى خاص بها، يرثيها عن صعوبات الحياة.

المرأة وأدوارها الاجتماعية

هناك أدوار ووظائف محددة يمكن للسيدات من الطبقات النبيلة في «العصر الجورجي» القيام بها، ولا يمكن الحياد عنها؛ أولها وأهمها: الزواج. معنى أن تتزوج السيدة هو أن تحصل على بيت وأسرة ومكانة اجتماعية، ومن هنا يقع على الفتيات المقبلات على الزواج أن يحملن معايير جمالية عالية، وأن يتشربن فن المغازلة، وأن يتمسحن في ذات الوقت بصفات الرقة والخجل، وأن يتقنّ فنونًا عدة مثل الرسم والتطريز والموسيقى، وهذا لكي يكن قادرات على المنافسة في سباق الحصول على زوج.

أمّا منْ كانت غير محظوظة ولا تمتلك هذه المواصفات، فيصبح أمامها طريقان لا مفر منهما، وهو أن تبقى بلا زوج وتحيا على صدقات وإحسان الأقربين، أو أن تعمل مربية، وفي كلا الحالتين تقع مكانتها الاجتماعية، وتصبح محط سخرية واستهزاء من الجميع.

وفي حالة بطلة الرواية «ماري»، فهي لم تمتلك معايير جمال هذا العصر، ولم تهتم بتطوير فنون الإغواء التقليدية للمرأة الجورجية، ووقع كل تفكيرها في البحث عن معنى للحياة، مما زاد حبها لقراءة الكتب الفكرية والفلسفية في محاولة لتكوين صورة مختلفة عن نفسها.

هذا المسعى العقلي قُوبل بالاستهزاء من قِبل المجتمع النسائي، فالمساعي العقلية وقتها صفة مذمومة بالمرأة، وحتى والدها تهكّم في أكثر من مناسبة على اختياراتها الفكرية، وعندما سألته المشورة، رفض مساعدتها.

ازداد الأمر سوءًا عندما احتاجت نظارات طبية بسببب سوء نظرها وعدم قدرتها على القراءة، وقتها اعتبرتها أمها رسميًا عارًا على العائلة، فهي بهذا لن تستطيع اصطياد عريس، وستكون عبئًا عليها وعلى الأسرة.

الريف والمدينة

غالبًا ما يُنظَر إلى الريف كمرادف للخير والجمال، على عكس المدينة الموصومة بفسادها وضوضائها وقبحها، ولكن في هذه الرواية تنعكس الرؤية، فالمحيط الضيق بالريف كان عاملاً هادمًا لشخصية البطلة؛ لم يعترف إلا القليل بوجودها وبحقها بالحب والاحترام.

بينما في المدينة، كانت موضع قبول وترحيب، ووجدت فيها محيطًا كاشفًا لقوتها الحقيقية، وملاذًا آمنًا لكي تحد من عقلانيتها، وتُطلق روحها للعاطفة المسجونة بداخلها، فكانت الانطلاقة الحقيقية لروح «ماري»، لتكتشف هذا التوازن البديع بين العقلانية والعاطفة.

قوة الحب

تظهر قوة الحب في شفاء الجروح النفسية في علاقة «ماري» بأسرة خالها، التي استقبلتها بحميمية -بعدما لم يعد لديها مكان تذهب إليه- وجعلتها تشعر أنها جزء منها، فبدأت تدريجيًا بالتغير، ثم جاءت علاقتها مع «هايورد» -المحامي الشاب عاشق الشعر الذي جانس بين العقلانية والعاطفة جناسًا سليمًا- لكي تسرع من عملية التشافي، فهو لم يرَ في «ماري» ما يُشيِعه عنها مجتمعها من ثقل وضحالة، وإنما رأى بها روحًا مُعذَّبة، تخفي عذابها بعقلانيتها الحادة وانعزالها عن المجتمع.

حاول كصديق أن يُضمِد جراحها، وأن يستثير نقاط قوتها المخفية جيدًا تحت قناعها، حتى تؤمن بنفسها، وتنمو نموًا صحيًا، ثم تحوّلت هذه الصداقة مع الوقت إلى حب قوي مبني على التفاهم والتشارك والثقة والامتنان.

رؤية عامة

الرواية بشكل عام وجبة دسمة من الأفكار والمشاعر، خليط يجعل القلب ممتلئًا، عن عقل نقدي واعِ، وفضول للبحث والارتقاء الفكري، وشغف لتكوين صورة مختلفة عن النفس، في ظل جوع شديد للمشاعر الإنسانية الأساسية من حب وتقدير، وفي ضوء وضع اجتماعي قاهر للمرأة.

هي رحلة إعادة اكتشاف للنفس من الدرجة الأولى، رحلة تجعلنا نرى الحيوات الثرية للأشخاص الباهتين، إذا بحثنا وراءهم بعيون إنسانية ثاقبة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.