«حياة كاملة من الوجع»

هذا هو التعبير الوحيد الذي يمكن أن نصف به حياة المطرب «جوني كاش» الذي عاش بين 1932 إلى 2003، ويعتبر واحدًا من أكثر الموسيقيين تأثيرًا في القرن العشرين.

الوجع الذي عاش ومات به، ألم النفس والجسد معًا، وكأنما الإبداع يأتي مرادفًا للوجع، كان كل ما يمر به «كاش» يترجمه في أغانيه، ألحان وكلمات أغانيه كانت تعبيرًا دقيقًا عن الحياة المضطربة التي يعيشها.

في ذكرى ميلاد «كاش» في شهر فبراير يحاول هذا التقرير التعرض لمحطات النجاح، والشهرة، والوجع الإنساني الذي مر به هذا الفنان.


الوجع الأول

ولد جوني طفلًا مرحًا، كثير الحديث و المزاح إلى أن بلغ الثانية عشر. كان الوجع الأول لجوني كاش هو يوم أحس فيه بذلك النذير، أن مصيبة قادمة. أخبرته أمه أن يذهب للصيد هو و جاك، لكن جاك، الأكبر منه بثلاث سنوات، دارس الإنجيل و قدوته و ذكي العائلة، قال إنه سيذهب ليعمل في منشر الخشب، عمل جاك أجيرًا باليومية ليساند أسرته التي أفسدها الكساد الأعظم و فيضانات متتالية أغرقت كل مزارعهم. ذهب و تعثر أمام قاطع الخشب فشق صدره. قبل موته في المستشفى أخبر جاك أخاه الصغير بأنه يرى ملائكة و فردوسًا أمامه. دفنه جوني مع من دفنوه، اتسخ بطين القبر الجديد و كان حافيًا بأقدام متورمة إثر مسامير دخلت فيها، و ربما حتى آخر أنفاسه، ظل جوني كاش يسأل نفسه: ماذا لو صمّمتُ على أن يذهب للصيد معي؟.

بعد أن كبر ضاق الفتى ببلدته، بما يريده منه مجتمع الريف الضيق حوله، و بما يريده هو. أحب الموسيقى و ظل مرتبطًا بها و طور نفسه إلى أن واتته الجرأة، عام ١٩٥٥، ليقف أمام مدير Sun Records مكتشف مغنيي الفولك و الكانتري في جيله. رأى جوني نفسه مغنيًا للجوسبلز Gospels و الألحان الدينية، يغني عن الذنب، و النور، و الله، و المعية. لكنه عندما فعل ذلك عارضًا إنتاجه أمام سام فيليبس أخبره بأن الجوسبلز لم تعد تبيع، ملّها الناس، «أريد أغانيَ سريعة كأغاني إلفيس».

كتب جوني أغنيته المسجلة الأولى «أيها الحَمَّال» Hey Porter، عن عودته من ألمانيا مجندًا إلى موطنه بالقطار بعد الحرب العالمية الثانية، كانت هذه بداية وعي جديد بينه و بين نفسه، سيكون ذاتيًّا جدا، سيتحدث عن القطارات، و الذنوب التي يحملها و لا يستطيع التخلص منها، و أفكار لا تخص أحدًا إلّاه لكنها ستخص الجميع عند سماعها.

سيظل يرتدي البذلة السوداء دائمًا حتى يسمى بها «الرجل الذي يرتدي الأسود» Man In Black، و ببساطة الريفي المباشر تكون أول كلمة يذيعها الميكروفون في حفلاته: «أهلا، أنا جوني كاش».

ثم يغني:

«عندما كنت طفلًا مازلت،
قالت لي أمي: بنيّ،
كن دائمًا فتًى طيبًا،
و لا تلعب بالبنادق،
لكنني قتلت رجلًا في رينو،
فقط لأشاهده يموت».

الأغنية الثانية التي سجلها، كانت انطلاق كل شيء في نجاحه، «حزن سجن فولسوم Folsom Prison Blues». كتب جزءًا من كلماتها بينما كان في ألمانيا يرى ما يحدث في الحرب، قال : أمسكت الورقة و القلم، و حاولت أن أبحث عن أكثر الأسباب بشاعة كي يقتل أحدهم رجلًا آخر، و كل ما ورد بخاطري: «لكنني قتلت رجلًا في رينو، فقط لأشاهده يموت».

هكذا كتب عن سجين وجد نفسه في الزنزانة، يسمع صوت القطار يمر بالخارج، و يبكي حريته و ذنبه.

في ١٩٦٨ سيذهب الرجل إلى سجن فولسوم نفسه ليقيم حفلة موسيقية هناك. غنى وسط المساجين، و كانوا يصرخون بحماس كلما سمعوه يقتل رجلًا في رينو فقط ليراه يموت، في تماهٍ ميلودرامي مع مأساتهم و اللحظات المجنونة التي ارتكبوا فيها جرائم يدفعون ثمنها. قالوا أن جوني كاش كان يغني: «كرجل نشأ مؤمنًا بأنه واحد ممن يغني عنهم»، و ربما كان هذا رثاءً لجاك، و استمرارًا لعبء البحث عن مغفرة.


الإدمان، الحب، وأشياء أخرى

بين تسجيله الأول في أواسط الخمسينات و حتى السبعينات أخذت شهرة جوني في الانطلاق بجنون. دخل كاش الوسط الموسيقي و هو متزوج من فيفان، حبيبة أيام المراهقة، و التي لم تفهم تحديدًا حياة الموسيقيين، و لا شغف الإبداع، و لا هذه النقلة الخاطفة في حياته. كان جوني يحيي أكثر من ثلاثمئة حفلة سنويًّا، عدد يفوق الطاقة الطبيعية لأي إنسان، طوال الوقت في الطريق، طوال الوقت في السفر و العمل و التعاقدات و الغناء و الحفلات. هكذا أدمن جوني الأمفيتامينات، لتجديد طاقة كافية للاستمرار في هذا المجهود، إلا أن القلق و الضغوطات أخذت تزيد، خاصة و أن الأمفيتامينات تؤجج القلق، فأدمن معها المهدئات و الخمر. أصبح عنيفًا و أنانيًا و معربدًا. لم تحتمل فيفيان ذلك، فكان الطلاق بينهما عام ٦٦.

قبل ذلك بأعوام تعرف جوني على جون كارتر، مطربة الكانتري الشهيرة، تصادقا بسرعة و غنّيا سويًا أغانيَ كانت الأولى على لائحة أغاني العام مثل Jackson و I walk the line و Ring of fir.

جون، خفيفة الظل إلى حد لا يحتمل، المنفجرة بالطاقة و الضحك. كانت متقلبة المزاج بصورة غير متزنة، و تحمل داخلها حزنًا قويًا جاء إثر زيجات فاشلة، و علاقات ابتزازية، و وجوديات رقيقة. أحبت جون كارتر جوني كاش، و أحبّها، و ظل الأمر كذلك، أصدقاء يعرف كل منهم خبيئة الآخر و لا يقترب.

في أواخر الستينات وعندما تفاقمت مشكلة جوني الإدمانية حبسته جون في المنزل، و أشرفت على علاجه يومًا بيوم حتى خرجت السموم من جسده. عرض كاش الزواج على جون عدة مرات، وكانت ترفض. في كل مرة يصرخ داخلها أن نعم، و يرفض لسانها. كانت تخاف، رأت الجانب المظلم من حياة كاش كله، و حياة غيره، و مجرد تصور احتمال الأذى كان كافيًا للرفض. تقول لنفسها: أحبه، لكن لا طاقة لأذى آخر.

ظلا في هذه العلاقة مجهولة المعالم عدة شهور أخرى. لم يكن كاش يحبها لأنها منقذته، بل عشقها منذ البداية، و تداخلت روحه بروحها. في مونتاريو بكندا، و بينما يغنيان سويًا أمام آلاف الجماهير، راقبها كاش و هي تغني و ترقص، ممسكة بالدف الصغير. جاش عشقه كله حتى لم يعد يحتمل، أخذ قراره فأوقف الأغنية في منتصفها، و أمسك المذياع محدثًا الجمهور، و عرض الزواج عليها أمامهم.

ترددت للحظة، ثم قالت: نعم.

في هذا الفيديو من فيلم walk the line الجميل، الذي يتتبع حياة جوني كاش منذ بدايتها و حتى زواجه بجون، المشهد الذي عرض فيه كاش الزواج منها:


الكساد، والصحوة

طوال الثمانينات و حتى التسعينات، كاد يختفي جمهور جوني كاش و الكانتري عمومًا. الموسيقى تغيرت، و الراب و البوب و مايكل جاكسون و مادونا يغيرون آذان الناس. انزوى كاش عن الأنظار تمامًا، و وصل إلى يقين يائس بأنه أصبح منسيًّا، هو و تاريخه و موسيقاه، خاصة عندما تخلت عنه شركة كولومبيا التي كان حجر أساس في شهرتها. إحساسه بالفشل يخنقه. و أعراض مرض السكري و نوبات الالتهاب الرئوي المتكررة بدأت تتطور إلى حد مرهق لتؤثر في أعصابه و أعضائه الداخلية.

ثم تعرف جوني إلى ريك روبين، المنتج الموسيقي الأشهر وقتها و ربما إلى الآن. ساعتها، كان روبين يقترب من الأربعينات، و يقترب جوني من سبعيناته، فارق ثلاثين عامًا كاملة. أنتج روبين ألبومات روك و راب شهيرة احتلت المراكز الأولى وقتها. فكان وجوده غريبًا، بملابسه غير المهندمة و اللحية و الشعر الطويلين، و الخف الذي يلبسه دائمًا. لكن جوني كاش كان بطل طفولته، و في خلال أسابيع نشأت بين الشيخ و الشاب صداقة روحية كاملة استمرت عشرة أعوام. حتى أنهما – كاش المسيحي المتدين و روبين الروحاني غير المؤمن بدين محدد – كانا يمارسان طقس التناول يوميًا، و يتباحثان في الدين و الإنجيل، ثم يجلسان سويًّا يغنيان. يمسك جوني بالجيتار و يفضفض بما بداخله. هذه الحميمية و الصدق أخرجا أربعة ألبومات أعادت جوني إلى المقدمة مرة أخرى كالسابق تمامًا. و عادت أغانٍ مثل we will meet again و Wayfaring strange إلى لائحة الأفضل في العام. استعاد عافيته الموسيقيّة، و إن كانت صحة جسده في تدهور مستمر.

«جرحتُ نفسي اليوم، لأرى إن كنت مازلت أشعر»

اعتاد كاش على أن يغني أغاني الآخرين، إذا مست أغنية أعماقه، يغنيها بطريقته و يضمها لألبومه القادم. استمع إلى أغنية «وجع hurt» لفرقة الروك «Nine Inch Nails» و قرر غناءها. تتحدث الأغنية في أصلها عن الإدمان، و إيذاء الذات و انقطاع الأمل. لكن جوني كاش أخذها، و غنى وجعه الشخصي كله. أخوه جاك، و حرقة البحث عن حياة أفضل، تداعي حبه الأول، وجع الإدمان، و وجع النجاح الساحق، و السقوط من حالق. و الأهم من كل هذا، وجع مرضه الذي لم يعد متحملًا، و حياة أرذل العمر. الفيديو كليب الخاص بهذه الأغنية تم إخراجه بصورة اعتبرت وقحة جدًا، يجلس كاش أمام مائدة مليئة بطعام نتن، و فاكهة شبه متعفنة، هكذا يحاكي جوني كاش و مخرج الفيديو جسده المتهالك بصور للعفن، و لبيوت تهدها الفيضانات، و صور متفرقة لحياة جوني كاش في الطريق و مع عائلته.

« ما الذي أصبحته؟
يا صديقي العزيز،
كل واحد أعرفه،
يرحل عني،
و لك أن تأخذها كلها،
مملكتي من الوَحل،
أنا سأخذلك،
أنا
سأجرحك».

عندما عُرض الكليب أول مرة اتصل جوني بابنته الصغرى و أخبرها بموعد عرضه و طلب رأيها، عندما رأته فزعت و بكت، و اتصلت به فورًا : «ما هذا؟، أتودعنا يا أبي ؟!».

و يرد : «يبدو أنني أفعل ذلك».

أثناء تصوير الفيديو، و بينما جوني جالس على المائدة، نزلت جون عفويًا من السلم خلفه، و نظرت لحاله و هو عجوز متهالك، نظرة حب و شفقة، كأنها ملاكه الحارس. كان كل شيء عفويًّا و صادقًا في هذا الفيديو، و أخذت هذه النظرة التي استمرت لثانية واحدة فقط و وُضعت في الصورة النهائية للكليب. و في الحقيقة، كانت جون تعاني مرضًا مزمنًا، شعرت به و أخفته عن زوجها كي لا يجزع عليها، كانت أنظار العائلة كلها على أبيهم المريض، و لم يدُر بخاطرهم أبدًا أن أمهم تموت قبله، رويدًا رويدًا.

دخلت جون المستشفى لإجراء جراحة استئصال مرارة، ففوجئ الجميع بقلبها متداعيًا، لم يحتمل العملية، فرحلت، في مايو ٢٠٠٣.

و لم يحتمل جوني كاش فراقها، أسلم نفسه للمرض، و فاضت روحه بعدها بأربعة أشهر، تاركًا كل موسيقاه، و تاريخًا مليئًا بالتأمل، و لاحقًا بحبيبته.