تُعد الأحزاب السياسية واحدة من أهم أشكال التنظيمات السياسية الرسمية، ودعامة أساسية تُفضي فاعلية دورها إلى مأسسة نظام ديمقراطي سليم، إذ إنها إحدى قنوات الاتصال بين الحاكم والمحكوم، وثمة وظائف عدة تؤديها الأحزاب أهمها المشاركة والتنشئة السياسية والتجنيد السياسي.

بيْد أن الحزب كتنظيم سياسي وإنْ كان يعبر في جوهره عن جماعة من الأفراد يؤمنون بأفكار معينة يسعون حثيثا لأجل تحقيقها من خلال الوصول إلى السلطة السياسية، أو على الأقل التأثير في صنع السياسات العامة للدولة، أي أنّ هكذا جماعة تؤمن بوحدة الهدف والمصير المشترك، إلّا أن الخلافات لا تلبث تدب في صفوف أعضاء الحزب فتحيله من كل مترابط إلى فصائل متصارعة، واستفحال هذه الخلافات واستطالة حالة التأزم الداخلي في ظل الافتقاد إلى آليات فاعلة للتعاطي مع هذه الحال تُفضي إلى انشقاق تيار أو تيارات منه.

وظاهرة الانشقاقات الحزبية هذه عرفتها الممارسة السياسية منذ تأسيس الأحزاب ورسوخها قبل قرنين من الزمان حتى إن البعض يرى أنه لا يوجد حزب بمنأى عن هذه الظاهرة، وهذه الإشكالية هي التي يدور حولها كتاب «الانشقاقات الحزبية ومستقبل الديمقراطية في مصر: 1977-2013».

وهذا الكتاب يُعد أول دراسة متعمقة في ظاهرة الانشقاقات الحزبية؛ كونه يسعى إلى تأطير هكذا ظاهرة تؤثر سلبا على التماسك الحزبي، والتأصيل النظري لها والتمييز بينها وبين مفاهيم أخرى قد تتداخل معها كالانقسامات الحزبية والسياسية والتبديل أو التحول الحزبي، فضلا عن استعراض أبرز مراحل ومحددات ظاهرة الانشقاقات الحزبية، واتجاهات تفسيرها، وتسليط الضوء على حالات تطبيقية من الأحزاب المصرية قبيل اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير، وكذا في أعقاب الثورة كالحزب الوطني الديمقراطي، وحزب الوفد الجديد، والحزب العربي الديمقراطي الناصري، وحزب النور.


مفهوم الانشقاق الحزبي ومراحله

ارتأى الكاتب أن عالم السياسة الفرنسي «موريس دوفرجيه» أول المنظرين الذين ناقشوا ظاهرة الانشقاق الحزبي في كتابه الرائد حول الأحزاب السياسية الصادر عام 1951، ورغم استخدامه لفظ «الانشقاق» غير ذي مرة في كتابه، فإنه لم يقدّم تعريفاً للانشقاق.

ظاهرة الانشقاق لا تحدث بشكل مفاجئ، إنما تمر بعدة مراحل؛ أولها مرحلة المعارضة الداخلية، يعقبها مرحلة الصراع الداخلي

وبتطور دراسة التنظيمات الحزبية، جادلت أدبيات عدة إشكالية ضعف التماسك الحزبي، وتعددت الاجتهادات العلمية في إيجاد تعريف لمفهوم الانشقاق الحزبي، وكان أبرزها التعريف الذي قدّمه الباحث الإيطالي «أندرا سيرون»، وهو خروج فصيل من الحزب الذي ينتمي إليه والانضمام لحزب آخر أو تأسيس حزب جديد، ويشير «سيرون» إلى أن الانشقاق يكون نتاجا لقرار فصيل بالابتعاد أو الانفصال عن الحزب.

وجدير بالذكر أن ظاهرة الانشقاق لا تحدث بشكل مفاجئ، إنما تمر بعدة مراحل؛ أولها مرحلة المعارضة، لاسيما إذا كانت قرارات الحزب ومواقفه تُتخذ بشكل مركزي من قبل قيادة الحزب دون مشاركة المعترضين، يعقبها مرحلة الصراع الداخلي، ولعل أبرز ما يميز هذه المرحلة حالة الاستقطاب الشديد بين فصائل الحزب ذات الأفكار والمصالح المتباينة، ثم تأتي مرحلة اتساع الصراع بين هذه الفصائل المتنازعة ليصبح التوافق بينها أمرا صعب المنال.

وإذ ذاك يظهر دور رئيس الحزب؛ فإما أنْ يحاول توزيع المناصب السياسية بين الفصائل المتنازعة بغية الحفاظ على وحدة الحزب وتماسكه، أو أن يحابي فصيلا على آخر، فلا يجد الفصيل الأقل حظا في تولي المناصب خيارا سوى الانشقاق عن الحزب.


نحو محاولة لتفسير ظاهرة الانشقاقات الحزبية

يستعرض الكاتب اتجاهات ثلاثة لتفسير ظاهرة الانشقاق الحزبي:

أولها اتجاه بيئة النظام الحزبي، والذي يتمثل في شكل النظام الانتخابي وقواعد تكوين الأحزاب.

وثانيها اتجاه البيئة الداخلية للأحزاب السياسية، والذي يركّز على عاملين، ألا وهما الديمقراطية الداخلية وإشراك الأعضاء في المداولات الداخلية المتعلقة بعملية صنع القرار الحزبي، وكذا الانسجام الأيديولوجي بين أعضاء الحزب الواحد؛ فغياب هذين العاملين قد يرجّح احتمالات انشقاق تيار أو تيارات من الحزب وانضمامها لحزب آخر أو تأسيس حزب جديد

وثالثها اتجاه النخب والقيادات الحزبية، والذي يرتكز على مهارة القيادات الحزبية وقدرتها على التعاطي مع الأزمات الداخلية للحزب، واحتواء الأعضاء ذوي التوجهات الفكرية والاجتماعية والثقافية المتباينة، فضلا عن علاقة النخب والقيادات الحزبية برجال الأعمال والشركات والنقابات، وتأثير هكذا علاقة على عملية صنع القرار الحزبي.

وأخيرا يسلّط الكاتب الضوء على نماذج من الانشقاقات الحزبية في مصر قبيل اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير، وكذا في أعقابها، وأبرزها الحزب الوطني الديمقراطي وحزب الوفد والحزب العربي الديمقراطي الناصري وحزب النور.

ومن خلال استعراض هذه الحالات التطبيقية خلُص الكاتب إلى أن الأحزاب المصرية لم تكن بمنأى عن ظاهرة الانشقاق الحزبي؛ إذ تكشف تجربة الحياة الحزبية المصرية أن الانشقاقات كانت سمة ملازمة لها يستوي في ذلك مرحلة التعددية الحزبية (1923-1952)، ومرحلة الحزب المهيمن (1978-2010) ومرحلة ما بعد ثورة يناير، والتي شهدت بزوغ أحزاب جديدة وصعود تيار الإسلام السياسي وسيطرته على الساحة السياسية متمثّلاً في حزبي الحرية والعدالة وحزب النور، وقد شهدت غالبية هذه الأحزاب الجديدة ظاهرة الانشقاقات الحزبية.

وقد ارتأى الكاتب أنه في الأغلب الأعم يمكن عزو ظاهرة الانشقاقات الحزبية في مصر إلى شخصنة السلطة في الحزب وغياب الطابع المؤسسي والديمقراطية الحزبية، فضلا عن كون الأحزاب المصرية لازالت تدور في فلك القوى التقليدية، وهي الدين والعائلة، والتي تتضح بصورة جلية في إطار العملية الانتخابية ومحاباة الأفراد الذين ينتمون لهذه القوى التقليدية على بقية أعضاء الحزب، ما يزيد احتمالات حدوث ظاهرة الانشقاقات الحزبية ويحدّ كثيرا من فاعلية الأحزاب في تأسيس نظام ديمقراطي حقيقي.


بيانات الكتاب :-

في الأغلب الأعم يمكن إيعاز ظاهرة الانشقاقات الحزبية في مصر إلى شخصنة السلطة في الحزب وغياب الطابع المؤسسي والديمقراية الحزبية

حازم عمر، الانشقاقات الحزبية ومستقبل الديمقراطية في مصر (القاهرة: دار المكتب العربي للمعارف ، 2017)