لو طُلب منا وضع عنوان للقرن الحالي لربما نختصره في القول بأنه قرن تهديدات التيارات الإسلاموية للعالم بأسره.

على الرغم من ادعاء بعض التيارات الإسلاموية -إن لم يكن جميعها- في الكثير من الأحيان السعي لتوحيد الأمة الإسلامية؛ إلا أن التشعبات المختلفة داخل تلك التيارات وتشرذمها الجغرافي والثقافي يدفعنا للحديث عن مستقبل الأممية الإسلامية خصوصًا في إطار تواجد التيارات الإسلاموية في أقطاب متفرقة جغرافيًّا وسياسيًّا وثقافيًّا.بصورة عامة، الحراك الحادث في تاريخنا المعاصر داخل التيارات الإسلاموية يعود إلى إرث حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين من ناحية، وفكر أبي الأعلى المودودي مؤسس حزب جماعت إسلامي في شبه القارة الهندية من ناحية ثانية، والحراك الشيعي الإيراني المتداخل عربيًّا من ناحية ثالثة، وأخيرًا الحراك الإسلاموي التركي. تلك النماذج للوهلة الأولى تدفعنا للحديث عن حركية إسلاموية وليست أممية. ولكن حال الاتصال والتواصل بين تلك الأقطاب هل يدفع مجددًا نحو أممية إسلاموية؟، هذا هو السؤال الأحرى طرحه الآن، وسنحاول في هذه السلسلة الإجابة عليه.


الأقطاب الإسلاموية الأربعة

«تتشابه الأقطاب الإسلاموية الأربعة «الشرق أوسطي، والتركي، والإيراني الشيعي، وقطب شبه القارة الهندية» في السعي لأسلمة المجتمع؛ ولكن يختلفون في طريقة الوصول لذلك».الأقطاب الإسلاموية الأربعة: القطب الشرق أوسطي العربي، قطب شبة القارة الهندية، والقطب الإيراني الشيعي، والقطب التركي، تتشابه بصورة عامة في السعي لأسلمة المجتمع وإقامة الدولة الإسلامية، ولكنهم يختلفون فيما بينهم حول طريقة تفعيل ذلك، فمنهم ثوريون يرون أن أسلمة المجتمع تتم عن طريق الدولة وسلطتها، ومنهم إصلاحيون يرون أن ذلك يتم عن طريق الناشط السياسي والاجتماعي من القاعدة. وعليه تختلف التيارات الإسلاموية في تعاملها مع السلطات القائمة في مكان تواجدها، فمنهم من يتجه إلى تكفير تلك السلطات، ومنهم يتجه نحو المعارضة، ومنهم من يلجأ إلى التعاون، ومنهم من يكتفي بالتجاهل، وبداخل كل جماعة أو تيار يمكن لنا أن نرى مثل هذه الأمثلة. فعلى سبيل المثال جماعة الإخوان المسلمين المصرية التي شاركت في ثورة يناير 2011 هي نفسها التي اتجهت للتعامل والتعاون مع المجلس العسكري أثناء فترة إدراته للبلاد، كما أنها نفس الحركة التي اتجهت إلى العنف في الدولة المصرية عقب سقوط نظامها القائم. وكذلك الحركة الإسلامية بإسرائيل والانقسام بداخلها حول طريقة التعامل مع السلطة القائمة، فبسبب رغبة عبد الله نمر في خوض انتخابات الكنيست، ترتب عليه انقسام الحركة إلى ثلاثة تيارات: تيار مثّله عبد الله النمر: رأى أفضلية الاندماج في المجتمع الإسرائيلي وعدم الاحتكاك بالسلطات، ورأي غاية في التشدد مثّله الشيخ كمال الخطيب: رفض المشاركة في الانتخابات عضويةً وانتخابًا، وما بين ذلك وذاك كان هناك تيار معتدل مثّله الشيخ رائد صلاح الذي رفض المشاركة في الانتخابات كحركة ولكنه سمح لأنصاره بالتصويت بها.من ناحية التيار الإصلاحي فقد غاب عنه السعي للأممية عقب رواد الإصلاح الأوائل «الأفغاني ومحمد عبده»، وأصبح كل تنظيم يرتبط بصورة مباشرة بنطاق دولته. حتى التنظيم الدولي للإخوان المسلمين لم يعد كما كان من قبل، وهذا ما يظهر ربما في الخلاف القائم بين القيادات العالمية والقيادات للتنظيم الأم بمصر في تلك الأوقات، وباستثناء النموذج الشيعي الإصلاحي في شمال أفريقيا «تونس، المغرب، موريتانيا، الجزائر»، يدور التيار الإصلاحي في إطار القطرية لا الأممية. ومن ناحية التيار الثوري، فباستنثاء تنظيمي القاعدة وداعش، وإن كانا تحولا من القطرية إلى الأممية كما سنرى فيما يلي، نجد بقية التنظيمات الإسلاموية تعمل في إطار القطرية لا الأممية،على سبيل المثال جبهة الإنقاذ الجزائرية.الجدير بالذكر أن غالبية التيارات الإسلاموية كما تبدأ قطرية ثم تتحول إلى أممية، تبدأ إصلاحية وتتحول للثورية وفقًا لعوامل مختلفة؛ جزء منها داخلي متمثل في طريقة تعامل السلطات القائمة مع التنظيمات الإسلاموية بداخلها وآخر خارجي في تعاطي المجتمع الدولي مع صعود بعض التيارات الإسلاموية أو مشاركتها السلطة في بعض الدول.


الاتصال والتواصل بين الأقطاب

الأقطاب الإسلاموية تاريخيًا أثناء فترة الاستعمار بالدول الإسلامية، نشط بينها اتصال كبير ظهر في التشابه الواضح ما بين الإخوان المسلمين في الوطن العربي وإسلاميي تركيا وحزب جماعت إسلامي في شبه القارة الهندية، كما استمر هذا التأثر والاتصال في فترات بزوغ نجم التيار القطبي بالإخوان المسلمين وتأثر الحركات الإسلامية في أفغانستان فيما بعد به وبمبدأ الحاكمية والجهاد الأممي في عقلية عبدالله عزام.وبصورة أو بأخرى الأقطاب الإسلاموية شأنها شأن الدول بينها علاقات تارة تأخذ شكل القطعية وتارة تقارب وتارة تجميد، ويتوقف شكل العلاقات بين تلك التنظيمات على عوامل عدة أهمها:أولًا، طبيعة التعامل بين الحركات والسلطات كما حدث من خلاف على الساحة المصرية بين السلفيين والإخوان المسلمين جراء إعلان النظام الحالي الإخوان المسلمين جماعة إرهابية.وثانيًا، مقدار احترام كل حركة للأخرى كما حدث من خلاف بين تنظيمي داعش والقاعدة على غرار إعلان داعش دولته الإسلامية بمعزل عن القاعدة.وثالثها توسيع دائرة الاتهام بالإرهاب من قبل الدول الكبرى لبعض التنظيمات، كما حدث على سبيل المثال الآن في الساحة العربية من انشقاق داخل جماعة الإخوان المسلمين بالأردن وإعلان المنشقين جمعية جديدة غير تابعة للإخوان المسلمين المصرية بعد إدراجها كجماعة إرهابية، وكذلك النظرة الغربية للدول الإسلامية كدول متخلفة ودول تابعة؛ يدفع هذه التنظيمات للتقارب فيما بينها من أجل استحداث نموذج إسلامي يعمل على الانطلاق من الإرث الإسلامي فترة الحضارة الإسلامية إلى حداثة إسلامية مخالفة لنموذج الحداثة الغربية.


قطب شبه القارة الهندية

شبة القارة الهندية، القطب الإسلامي المتجاهَل في محاولات التصدي للتحركات الإسلاموية في العالم بأسره. فقد اهتمت معظم الدراسات الغربية والعربية بالإسلام السياسي في مناطق بعينها أكثرها القطب الشرق أوسطي العربي، ثم القطب الشيعي الإيراني، ويليها القطب التركي.

المودودي منظِّر شبه القارة الهندية

على الرغم من اعتبار الباحثين في العصر الحديث جماعة الإخوان المسلمين كأساس التيار الإسلاموي المنتظم؛ إلا أنه كان للمودودي في شبه القارة الهندية الأثر البالغ في الشق التنظيري للتيارات الإسلاموية في العالم بأسره كما ظهر في فكر العديد من قيادات الحركات الإسلاموية «البنا، سيد قطب، الخميني». ولعل أبرز أثر للمودودي في ذلك كان عن طريق كتابه «الجهاد في الإسلام» الصادر في العام 1926 الذي أصبح مرجعًا لجميع الجماعات الجهادية في الأقطاب الإسلاموية المختلفة.

أبو الأعلى المودودي.

عمل المودودي فيما بعد عن طريق مجلة «ترجمان القرآن» التي أسست بالعام 1933 على نقل دعوته إلى باكستان، وتعد تلك الخطوة المؤسسة لإنشائه الجماعة الإسلامية فيما بعد بناءً على دعوته لقيادات التيارات الإسلاموية في بلاد الهند بالعام 1941 لحضور مؤتمر بلاهور تأسست بناءً عليه الجماعة الإسلامية. منذ بداية إطلاقها واجه البريطانيون الجماعة الإسلامية جرّاء فتوى المودودي بتحريم العمل مع قوات الاحتلال البريطانية، بالاستقلال الباكستاني عن الهند في العام 1947 على يد «محمد جناح علي» أصبحت وظيفة الجماعة بالهند إدارية بحتة تعمل على تسيير أوضاع المسلمين المهاجرين وإقامة معسكرات إيواء لهم.وجراء الحرب الأهلية التي نشأت في باكستان شرقًا وغربًا بعد الاستقلال عن الهند 1947 وتحديدًا بالعام 1971، استقلت بنغلاديش عن باكستان وتولى الجماعة هناك أبو الكلام محمد يوسف، وظلت الجماعة وقياداتها في بنغلاديش تعاني من قمع السلطات ونُفذت في قياداتها أحكام إعدام عدة، إلى جانب من مات منهم بداخل السجون.هكذا كانت بدايات ظهور التيارات الإسلاموية في شبه القارة الهندية في التاريخ المعاصر، والتي تشعبت منها أكثر من جماعة جهادية في بلاد الهند كجماعة البدر وطالبان، وما يهمنا هنا النموذج الأكبر المتمثل في حركة طالبان.

المدرسة الديوبندية ونشأة طالبان

من رحم الاعتدال الإسلامي الحنفي المتمثل في المدرسة الديوبندية نشأت حركة طالبان «الحركة الإسلامية لطلاب المدارس الدينية» بقندهار غرب أفغانستان علي يد الملا عمر بالعام 1994؛ نتيجة العديد من العوامل الداخلية بأفغانستان، أبرزها الفساد الأخلاقي والحروب الأهلية التي نتجت عن الاحتلال السوفييتي، وكذلك الطبقية المجتمعية التي خلفتها الحرب وظهور طبقة أثرياء الحرب، وغياب النظام وتفشي الفوضى. وكذلك أثرت مجموعة من العوامل الخارجية في ظهور الحركة، أبرزها تقاطع المصالح بين أمريكا والمجاهدين الأفغان «عكس فترة الاحتلال السوفييتي لأفغانستان كما سنرى لاحقًا».

http://gty.im/71830198

في سبيل تحقيق الحركة هدفها الأساسي المتمثل في إقامة دولة إسلامية بأفغانستان، سيطرت طالبان على هيرات بالعام 1995، ثم انطلقت للعاصمة كابول وسيطرت عليها بنفس العام مطلقة إمارة أفغانستان الإسلامية. ويحسب لطالبان العديد من الإنجازات كإعادة الأمن شيئًا ما لأفغانستان ومحاولات القضاء على الفساد المالي والأخلاقي والإداري الناجحة شيئًا ما، ولكن كان ذلك في الفترة قبيل الاتصال بتنظيم القاعدة.بالعام 2002 حاول الجيش الباكستاني السيطرة على الحدود مع أفغانستان؛ الأمر الذي أدى إلى تشكل حركة طالبان باكستان والتي أعلنت رسميًّا في العام 2007 على يد «بيت الله محسود» والتي نشب بينها وبين الجيش الباكستاني أكثر من صراع أبرزها «حرب وادي سوات».

مستقبل القطب الإسلاموي بشبه القارة الهندية

«التدخل الداعشي في شبه القارة الهندية من شأنه زيادة وتيرة عدم الاستقرار بالمنطقة، وذلك ربما يدفع الجيران لدعم طالبان في مواجهة داعش خاصة وأن الأولى لم تعد تمثل تهديدًا خارجيًّا كالثانية».
بعيدًا عن الخوض في تحركات وعمليات حركة طالبان، فإن الأهم الآن هو الحديث عن مستقبل الحركة وتحركاتها كممثل للقطب الإسلاموي في شبه القارة الهندية، والواقع يفيد بأن هناك ثلاثة محددات تحدد مستقبل الحركة، تتمثل في الاتصال الصيني مع طالبان، التعاطي الأمريكي مع الحركة، داعش والتحالف معه.من ناحية التعاطي الأمريكي مع الحركة، فعلى الرغم من التقارب الأمريكي أو بالأحرى التوافق في المصالح بين المجاهدين الأفغان وأمريكا فترة الاحتلال السوفييتي لأفغانستان، إلا أن العلاقة ما بين الطرفين تأزمت فيما بعد أثر أحداث 11 سبتمبر، وبعد سنوات أعلنت القوات الأمريكية انسحابها؛ الأمر الذي يعد خسارة لها. ولكن التدخل الأمريكي في المنطقة لم ينتهِ حيث أنه من المتوقع أن تقوم الولايات المتحدة بإحداث حروب داخلية في المنطقة من شأنها الحد من نفوذ طالبان من ناحية، وتهديد النفوذ الصيني من ناحية أخرى.من ناحية الاتصال الصيني بطالبان، فقد اكتفت الصين بدور المساند الخفي فترة الاحتلال الروسي ودعمت الجماعات الجهادية عن طريق الولايات المتحدة الأمريكية. وفيما بعد عندما أعلنت أمريكا حربها على الإرهاب وسعيها للقضاء على طالبان دعمت الصين الموقف الأمريكي نظرًا لما تمثله طالبان من تهديد لها “علاقة طالبان بحركة تركستان الشرقية الإسلامية”، وللسبب ذاته اتجهت الصين نحو طالبان عقب هزيمة «انسحاب» القوات الأمريكية وقوات الناتو من أفغانستان، حيث أن الفشل الأمريكي عسكريًّا في أفغانستان قد يدفعها لدعم «حركة تركستان الشرقية الإسلامية»؛ وعليه فإن الصين توجهت إلى اللعب على الجانبين حيث دعمت من ناحية الاتفاقية الأمنية ما بين أمريكا وأفغانستان ومن ناحية أخرى تعمل كوسيط في عمليات السلام بين الحكومة الأفغانية وطالبان، وهذا ما ظهر في منتدى السلام والمصالحة بـ 11/ 2014؛ وعليه، كل المؤشرات تفيد بأن الصين تطمح للاستقرار في أفغانستان حفاظًا على أمنها، دون الوقوف صراحة إلى جانب طرف على حساب الآخر.من ناحية داعش وطالبان، في نوفمبر 2014 أعلنت جماعة جند الله المنشقة عن حركة طالبان الباكستانية بيعتها لداعش، في الوقت الذي يثار فيها خلاف عقائدي وتكفير من قبل داعش لحركة طالبان، ومن بعدها توالت البيعات من جماعات مختلفة في شبة القارة الهندية لداعش كجماعة عسكر جنجوي الباكستانية، وعليه أعلن التنظيم «ولاية خراسان» فرعًا له هناك، الأمر الذي أدى إلى نشوب معارك وكرّ وفرّ بين حركة طالبان وتنظيم داعش. وبعيدًا عن صحة أو خطأ رؤية بعض المحللين أن التدخل الداعشي في شبة القارة الهندية جاء بإيعاز وتسهيل أمريكي، إلا أن هذا التدخل يساهم بزيادة وتيرة عدم الاستقرار في المنطقة؛ الأمر الذي ربما يدفع الدول الجيران في المنطقة لدعم حركة طالبان في مواجهة داعش، خاصة وأن طالبان ليس لها طموح خارجي أو على الأقل ليست مهدِّدًا كداعش.