«The Post» هو أحدث أفلام المخرج الأمريكي الكبير «ستيفن سبيلبرج»، والذي بدأ عرضه في صالات السينما المصرية في السابع عشر من الشهر الجاري. الفيلم مبني على وقائع حقيقية جرت في يونيو/حزيران 1971، في عهد الرئيس «ريتشارد نيكسون»، حيث تم نشر أوراق سرية خاصة بوزارة الدفاع الأمريكية «البنتاجون» تكشف تورط إدارات أمريكية متعاقبة في تعمد إخفاء الحقائق بشأن حرب فيتنام، لإقناع الرأي العام بضرورة الاستمرار في الحرب رغم إدراكها أنها حرب خاسرة.

بدأ نشر أوراق البنتاجون في صحيفة نيويورك تايمز حتى صدر أمر قضائي بوقف النشر. حينئذ تتصدر واشنطن بوست صدارة المشهد. لنشهد وقائع الصراع بين الصحافة والبيت الأبيض حول حريتها وتمسكها بحقوق النشر، وهو ما يمثل القلب النابض لفيلم سبيلبرج.


واشنطن بوست كبطل للفيلم

عادة ما يتم تصنيف المنجز السينمائي لستيفن سبيلبرج في فئتين كبيرتين. الأولى هيالفانتازيا والمغامرة في أفلام مثل (الفك المفترس، إي تي، الحديقة الجوراسية، وغيرها)، والثانية هي دراما تاريخية يعيد فيها سبيلبرج قراءة هذه الوقائع ويتأمل الضمير الإنساني في لحظات فارقة في أفلام مثل (قائمة شندلر، إنقاذ الجندي رايان،لينكولن، وغيرها).

ينتمي فيلم «The Post»إلى الفئة الثانية، فالنص الذي كتبه كل من «ليز هانا»، و«جوش سنجر» (الحائز على أوسكار أفضل سيناريو أصلي عن فيلم «Spotlight» عام 2016) يمزج بين الدراما التاريخية والسيرة الذاتية. النسخة الأولى من النص أعدتها ليز هانا معتمدة على مذكرات كاثرين جراهام المعنونة بـ«تاريخ شخصي»وكانت تستلهم فيها شخصية جراهام كامرأة استطاعت تحقيق ذاتها والنجاح في فترة صعبة ومليئة بالتحديات.

ثم استعان سبيلبرج بجوش سينجر للعمل معها على النص من أجل تعميق جانب وقائع الحصول على أوراق البنتاجون ونشرها في الفيلم. ظلت شخصية كاي جراهام (ميرل ستريب) هي الشخصية الرئيسية، حيث تتقاطع الفترة التي أصبحت فيها على نحو مفاجئ ناشرة صحيفة واشنطن بوست، مع إحساسها بعدم الأمان تجاه مستقبل الصحيفة، وقلقها حيال قدرتها على القيام بهذا الدور مع وقائع النشر الخاصة بأوراق البنتاجون، كما يربط النص بين اللحظة التي تتطور فيها شخصيتها وتمتلك فيها صوتها الخاص بقرارها حول نشر الأوراق مخالفة لقرار المحكمة العليا ووضع حياتها ومستقبلها المهني على المحك.

استطاعت ستريب أن تجسد الدور ببراعة ليست بغريبة عنها، وكذلك توم هانكس الذي يؤدي دور «بن برادلي» رئيس تحرير واشنطن بوست الساعي إلى رفع شأن صحيفته من مجرد صحيفة محلية محدودة التأثير وقتذاك، إلى صحيفة ذات تأثير كبير، وهذا يفسر تلهفه للحصول على سبق صحفي، ما يجعله يتلقف أوراق البنتاجون كفرصة ذهبية.

يعتمد النص أيضًا صحيفة واشنطن بوست كشخصية أساسية ابتداء من العنوان «The Post»، وهو الاسم المختصر للصحيفة، وحتى النهاية التي تتجاوز الحبكة والشخصيات، حيث تصور حادثة اقتحام مبنى ووترجيت، حيث سيكون دور الصحيفة عظيمًا في تفجير هذه الفضيحة بما يعيد للأذهان فيلم «كل رجال الرئيس»الصادر 1976 لـ«آلان جي باكولا»، الذي يدور في زمن لاحق للزمن الذي تدور فيه أحداث «The Post»،ويستعرض دور الصحفيين «بوب وودورد»، و«كارل برنستين» في تفجير قضية ووترجيت لصالح صحيفة واشنطن بوست، والتي أدت في النهاية إلى استقالة الرئيس نيكسون.

مشكلة النص الحقيقية في اللحظات التي يلجأ فيها للمباشرة من أجل توجيه رسالة واضحة أو التأثير العاطفي في المشاهدين بطريقة فيها استسهال كبير، مثل المشهد الذي تتلقى فيه صحفية في غرفة الأخبار اتصالًا هاتفيًا ينقل صدور حكم المحكمة العليا بشأن النشر، وتقوم بترديد الحكم في لقطة مقربة. ينجح سبيلبرج في الحفاظ على إيقاع حيوي ومتوتر للفيلم، خاصة في مشاهد غرفة الأخبار أو مشاهد العمل على أوراق البنتاجون في بيت بن برادلي، وهو ما يحسب لخبرته الكبيرة في ظل نص يخلو من أي مفاجآت درامية ويتبنى سردًا تقليديًا.


مفارقة الدراما التاريخية

يقول «روبرت ميكي» في كتابه «القصة»:

إن العذر الوحيد المقبول لكي تصنع فيلمًا من الماضي هو المفارقة، وذلك باستخدام التاريخ كمرآة صافية ترينا الحاضر.

يجيب ميكي في الفقرة المقتبسة أعلاه على السؤال الذي يطرح نفسه دائمًا في حالة الدراما التاريخية «لماذا الآن؟». يعود سبيلبرج في هذا الوقت بالذات لهذه الوقائع التاريخية مثلما عاد في فيلمه لينكولن 2012 إلى أحد أهم اللحظات في التاريخ الأمريكي، لحظة انتصار الديمقراطية، حيث قرار مجلس النواب بتمرير تعديل دستوري يمنع العبودية.

يعود هنا في «The Post» إلى لحظة مهمة تصور الصحافة الحرة في إحدى معاركها المنتصرة ضد السلطة، هذه اللحظة التي تلقي بظلالها على أمريكا اليوم بعد عام من حكم ترامب وعلاقته بالمؤسسات الصحفية والإعلامية واتهاماته لها بتلفيق الأخبار وتزييف الحقائق وقلق المثقفين والمبدعين على حرية الصحافة والرأي. أعتقد أن اختيار سبيلبرج أن يظل الرئيس نيكسون في الظل دائمًا وتصويره في لقطات بعيدة والتركيز على صوته الذي يعكس عدائه الصريح للصحافة (تم الاستعانة بتسجيلات حقيقية للرئيس نيكسون كانت ممنوعة من قبل) يجعل ترامب حاضرًا دائمًا في الذهن.

في أحد المشاهد يصيح أحد عمال المطبعة داخل صحيفة واشنطن بوست فيما يشبه الابتهاج أثناء نقل نسخ العدد التاريخي من الصحيفة إلى شاحنات التوزيع؛ «إنها ليست حفلة، إنها حرب».

يبدو الفيلم لي أحيانًا مثل حرب صغيرة يشنها سبيلبرج وفريق عمله ضد ترامب وإدارته.

الفيلم وموسم الجوائز:

من المتوقع لفيلم يتناول مضمونًا كهذا الفيلم، وبتوقيع سبيلبرج وأداءات مميزة من ميرل ستريب وتوم هانكس، أن ينافس في موسم الجوائز لهذا العام، وهو ما حدث فعلًا مع جوائز جولدن جلوب، حيث حصل الفيلم على ستة ترشيحات، لكنه خرج من المنافسة خالي الوفاض دون أي فوز. من المتوقع أيضًا أن يحصل الفيلم على عدد من ترشيحات الأوسكار التي سيتم الإعلان عنها خلال أيام.

«The Post» ليس من أفضل أعمال سبيلبرج، لكنه يظل فيلمًا جيدًا ذا مضمون جاد ومثير ويثير الكثير من الأسئلة والمخاوف في ظل اللحظة الراهنة.