تعيش هوليوود مؤخرًا فترة من إعادة تفكيك أنواعها السينمائية الرئيسية، خاصة النوع الذي يميزها منذ بداية صناعة السينما نفسها، وهو نوع «الغرب الأمريكي» (western)، في عام 1903 صنع إدوين بورتر أول وأحد أشهر أفلام الغرب والأفلام عمومًا «سرقة القطار الكبرى – the great train robbery»، رسَّخ الفيلم لجماليات نوع الوسترن، وحتى لحظتنا تلك يعيش أشهر مشاهده في أذهان صناع ومحبي السينما.

يوجه راعي البقر ذو الشارب الضخم والقبعة الشهيرة مسدسه نحو الكاميرا مباشرة، نحونا ويطلق منه عدة رصاصات، ذلك التمثيل الرجولي القوي الذي يجمع بين البطولة والخروج على القانون يعيش في كل أفلام الغرب التي صُنعت بعده، تملك صورة راعي البقر مكانة شبه قومية في العقلية الأمريكية وفي العالم كله الذي يتعرف على الآخر من خلال السينما، لكن في الفترة الأخيرة مالت السينما نحو تفكيك ذلك النوع من الذكورة أو على الأقل اختراق خطوطه الدفاعية ومحاولة فهم ما يقبع خلفه، خاصة في طبيعة التعبير النوعي (الجندري) عن الذات والأدوار النوعية وطبيعة الميول الجنسية.

يظهر ذلك الميل للتفكيك في أفلام تصنعها النساء عن موضوعات تعد رجولية بشكل رئيسي، مثل أفلام المخرجة الحائزة على الأوسكار كلوي شاو في أفلام مثل «الفارس – the rider» و«أرض الرحل – nomadland»، وفي فيلم المخرجة النيوزيلندية «جين كامبيون» الأخير «قوة الكلب – the power of the dog»، اشتهرت كامبيون بأفلام شديدة الرقة لكنها محيرة في الوقت نفسه تحكي حكايات معقدة في الغالب بطلاتها من النساء، يصعب فيها تحديد موقف معين من الشخصيات، وهو ما يندر رؤيته في كتابة الشخصيات النسائية.

في فيلمها الأخير تخترق كامبيون عالم من الرجال، رجال بالمعنى النمطي للكلمة، ذوو شوارب ضخمة وقبعات تغطي نصف وجوههم يسيرون كالرجال ويتحدثون كالرجال، يصارعون بعضهم البعض ويؤمنون بالأدوار النوعية الصارمة، الرجل يعمل في الأرض الغربية الواسعة بين الخيول والأبقار، والمرأة تعد له الطعام وتروِّح عنه أو تعمل في الحانات الرخيصة كبائعة هوى، فيلم قوة الكلب المقتبس عن رواية بنفس الاسم يخترق تلك التمثيلات الزائفة ويدرس طبيعتها ويحللها لعناصرها الأولية، في دراسة شخصية دقيقة تكشف كامبيون عن الحيوات المزدوجة لرعاة البقر.

الطيف الواسع للذكورة

يتجول فيل (بيندكت كامبرباتش) على جواده رافعًا رأسه متحدثًا بصوت أجش، يتحدث عن معلمه وقائده السابق برونكو هنري، يتحدث عنه بالطبع بشغف رجولي عن قوته وفطنته وقدراته العظيمة في كل مناحي الحياة، يسخر فيل من كل شيء حوله، يكره الضعف، يكره الرقة، يكره المشاعر الإنسانية ويستهزئ بها، بالنسبة له النساء يعتبرن خللًا في النظام، يجب استغلالهن جنسيًّا والانتفاع من خدماتهن مثل صنع الشاي وتنظيف البيوت، لكن لا يصلحن للحب أو المشاركة، تبدو تلك صفات راعي بقر كلاسيكي يعلي من القيم الرجولية الكلاسيكية شكليًّا وموضوعيًّا ويهتم بعمله بجدية دون الالتفات لصغائر الأمور، نرى ذلك مرارًا في أفلام الغرب الأمريكي، ذلك التمثيل الصلب للذكورة دون سخرية أو ادعاء، لكن في فيلم جين كامبيون يمثل كل ذلك غطاء لهشاشة يجب ألا تظهر أمام الآخرين، بل يجب على الرجل الذي يحترم نفسه أن يقتلها في كل ما حوله.

يستعرض قوة الكلب شخصياته على الشاشة أكثر ما يهتم بأن يعرض قصة واضحة ويركز تحديدًا على دراسة شخصية فيل، راعي البقر العنيف ذي الكاريزما العالية، لا يملك فيل من العالم إلا أخيه جورج (جيس بليمونز) يعتني به ويقسو عليه أحيانًا، ويعمل كمعلم ومرشد له قهرًا، يشترك فيل وجورج في غرفة واحدة ويبدو أنهما مرتبطان بعضهما ببعض على الرغم من علاقتهما المتوترة، يتغير ذلك الاستقرار حينما يأكل الأخوان العشاء في مطعم روز الصغير، روز (كريستن دانست) سيدة جميلة وأرملة تملك ابنًا خجولًا يدعى بيتر (كودي سميت ماكفي)، يغير ذلك العشاء حيوات جميع شخصيات الفيلم حينما يقع جورج في حب روز ويتزوجها، وحينما يضغط فيل على بيتر بسخرية لاذعة توضح جوهر شخصيته، ومع الوقت يبدأ فيل في تفريغ حياته لمضايقة روز ودفعها للجنون مما يثير في قلب بيتر رغبة انتقامية كبيرة.

بيندكت كامبرباتش وكودي سميت ماكفي في قوة الكلب

تعرض كامبيون طيفًا واسعًا لتمثيلات الذكورة على الشاشة دون أحكام قاطعة أو افتراضات تجاه تلك التمثيلات، فبعيدًا عن فيل مثال الذكورة النمطية يوجد بيتر، الشاب الذي يهوى صناعة الزهور الورقية ويدرس الأحياء، وعلى الرغم من رقته الظاهرة فإنه مجتهد جدًّا في دراسته، حتى إنه يشرِّح الحيوانات داخل غرفته ويرسم دراساته بدقة فنية هائلة، يمثل ذلك التضاد الهائل بين كيفية تقديم فيل لنفسه كرجل في مقابل تقديم بيتر لنفسه الصراع الحقيقي في الفيلم، لا يفترض الفيلم هوية أي منهما أو ميوله، لكنه يجعل اختلافهما الحاد مساحة لاستكشاف طبيعة القوة وعلاقتها بالذكورة، خاصة في المجتمعات الغربية الأمريكية في مطلع القرن العشرين، يملك فيل كل الصفات التي تجعله مقبولًا اجتماعيًّا، لكنه يُخفي تحتها طبقات من المشاعر والحقيقة غير المعلنة، بينما يظهر بيتر كما هو، لكنه يخدع الرائي بضعفه بينما يملك قوة من نوع مختلف بعيد عن القوة الجسدية الظاهرية.

موت النوع الفيلمي

لا يحمل أحد مسدسًا، إنها أحداث في نهاية الأسطورة حيث يعمل رعاة البقر هنا لأنهم يحبون رعاة البقر القدامى، ويحصلون على ملابسهم من طلبات البريد، ويرتدون ملابس رعاة البقر وكأنهم يقتبسون الرعاة الحقيقيين.

تنحو جماليات الفيلم الرئيسية إلى الغرب الأمريكي، الفترة التاريخية والملابس والموسيقى، لكن كل ذلك يتم قلبه بشكل ما، يتم نزع كل الأفكار أو التصورات النمطية عنه، يصل ذلك التفكيك لطبيعة أفلام الغرب الصارمة ومحاولة كشف الشخصيات التي تعيش بداخلها، يحدث ذلك بواسطة خيارات إخراجية بسيطة لكنها مؤثرة، عادة ما نرى رعاة البقر بكامل حلتهم من الملابس والطبقات المدروسة بعناية، سرج الأسلحة الجلدي والسراويل الخاصة بركوب الخيل والقبعات والسترات الجلدية والأحذية القوية ذات الرقبة العالية، لكن في ذلك الفيلم يبدو فيل وكأنه الشخص الوحيد الذي يرتدي تلك الملابس، فأخوه يعتلي الحصان بجانبه مرتديًا بدلة مدنية تقليدية، لكن عندما يختلي فيل بنفسه فإنه يتجرد من كل شيء، في مكان مستتر لكنه عام، فهو ليس منزله أو غرفته، بل في بحيرة تخبئها الأشجار، هنالك فقط يصبح نفسه دون ما يحجبه عن العالم.
ما يجعل تلك المشاهد ذات وقع مختلف هو موقف هوليوود العام من الجسد الرجولي على عكس الجسد الأنثوي الذي نراه دون تحفظات في العديد من الأفلام التجارية أو الفنية؛ لأنه يضمن جمهورًا أكبر،أما الجسد الرجولي خاصة لممثل ذي شعبية عالمية فنادرًا ما يُصَوَّر بالأريحية نفسها، وبدون أي شبهة استغلالية، تقول جين كامبيون في أحد الحوارات إن فيل يرى أن تلك الملابس مثيرة جدًّا، سوف يرتديها في كل مكان، سوف يذهب للنوم بها، لن يخلعها إلا عندما يكون عاريًا، في قوة الكلب يعمل التجرد من الملابس كأداة لدراسة الشخصية وتفكيك الطبقات التي تخفي حقيقتها عن الأعين.

بيندكت كامبرباتش في قوة الكلب

يملك الفيلم بجانب جماليات الغرب بناءً أشبه بأفلام التشويق thriller، يوجد طبقة ثقيلة من الترقب لكنها ليست سريعة أو متتابعة مثل أفلام التشويق التقليدية، بل ترقب متمهل وبطيء، توتر تخلقه العلاقات الدقيقة المرسومة بين الشخصيات واختلافاتها، التضاد بين فيل العنيف وأخيه الرقيق، وبين روز السيدة الرقيقة وفيل، وبين بيتر الشاب النحيف الذي تبدو عليه الهشاشة والاختلاف عن المقبول مجتمعيًّا لتصرفات الرجال وفيل كذلك، يمثل فيل المركز الذي يتمحور حوله كل تلك الشخصيات، فبسبب عنفه البادي والذي لا يتوقف عن التفاخر به يريد الجميع أن يسلم من أذاه، لكن من ينجح في ذلك حقًّا هو بيتر الذي يظهر وكأنه أضعف الشخصيات، لكنه يفعل ذلك بالتلاعب بمشاعر الحب وليس بالمواجهة العنيفة.

لا يملك الفيلم قصة حب رومانسية كبرى مثل تلك في جبل بروكباك brokeback mountain الذي ينتهج منهجًا مشابهًا في تصوير الذكورة النمطية كأكذوبة تخفي حقائق يصعب على الرجل الذي نشأ في بيئة تقدس تلك الصفات الاعتراف بها، بل يدرس ميولًا مختلفة تحكمها موازين قوة مربكة تؤدي لاستغلال لا يفرق بين جنس وآخر، يعيش فيل بثقل كبير في قلبه سر يصعب عليه الاعتراف به، لكن مشاعره تلك ليست واضحة كما يتخيل، ربما حتى ليست بتلك الشاعرية التي يتذكرها بها، كراهية فيل نحو النساء نابعة في الأساس من انعدام رغبته بهن، والتي إن وجدت ستجعله رجلًا كاملًا كما يرى ويصدق، لكنه في حقيقة الأمر لا ينجذب لهن بل يعيش على ذكرى حب قائده ومعلمه، نفترض مثله أن ذلك الحب كان عميقًا وحقيقيًّا لكن تلك الذكرى ربما تكون مشوشة، بل إنه من الممكن أن يكون تعرَّض لاستغلال على يد رجل أكبر منه سنًّا وسلطة، يظهر ذلك في محاولاته لتكرار النمط نفسه مع بيتر، الذي بعدما أمضى نصف الفيلم في السخرية من شكله والطريقة التي يقدم بها نفسه للعالم طور مشاعر نحوه، مشاعر يختلط بها ما هو أبوي وقيادي وما هو انجذاب عاطفي لشاب يشبهه حينما كان في نفس السن.

تملك تلك الديناميكية بين بيتر وفيل شعورًا مشابهًا لعلاقة فيل التي لم نَرَها على الشاشة، ومثله يُتَلاعب بنا، فتبدو تلك المشاعر حقيقية حينًا واستغلالية في حين آخر، لكن بيتر وعلى الرغم من رقته وربما حساسيته الزائدة أذكى من أن يترك التاريخ يعيد نفسه، يغير الفيلم بهدوء يسري بحدة تحت الجلد موازين القوة لصالح بيتر، ليثبت ببساطة أن القدرة على الإيذاء يمكن أن تنبع من مواطن أخرى غير سمات الرجولة النمطية، يرسم الفيلم شخصيات حقيقية جدًّا تحوي الخير والشر بحيث يصعب التعاطف مع أي منها بشكل كامل، فحتى مع معرفتنا بطبيعة فيل المؤذية وأفعاله غير المقبولة ندرك تمامًا حاجته للرقة، كما ندرك مدى قسوة تلاعب بيتر به رغم حقه في ذلك، تصور كامبيون ذلك التحول بأبسط الطرق الممكنة، بلمسة يد في لقطة مقربة تغير كل شيء.

ما الذي تعنيه لقطة مقربة لليد

اجعل الناس يشعرون بروح وقلب العمل، لكن اجعله يبدو كما لو أنه صنع بالأيدي.

في عام 1975 كتب روبير بريسون أحد أشهر المخرجين الفرنسيين والعالميين مجموعة ملحوظات حول الصناعة السينمائية أسماها ملحوظات حول السينماتوجراف، فيها أعطى نصائح للمقدمين على صناعة الأفلام، وركز تحديدًا على الاهتمام بالاختزال في إيصال الأفكار والمشاعر، مثلت أسلوبية بريسون الاختزالية إلهامًا وتأثيرًا على معظم صانعي السينما من بعده، خاصة طريقة تصويره لحدث ما، بالتركيز على مركز هذا الحدث ومن أين يبدأ حتى لحظة انتهائه، يظهر ذلك تحديدًا في طريقة تصويره للأيدي البشرية، يعاملها كشخصية فاعلة في أفلامه، فهي أحد أكثر أجزاء الجسد وظيفية وقدرة على التعبير.

تشتهر كامبيون بنزعة جمالية خاصة، بميل لمراقبة أدق التفاصيل في العوالم التي تخلقها، لكنها تهتم بشكل خاص بتصوير الأيدي، كيف تحب وتقتل وتعزف وتصنع، مما يذكرنا بأسلوب بريسون، تقدم كامبيون شخصية بيتر على الشاشة في أول ظهور لها عن طريق لقطة مقربة ليده الرقيقة تشكل زهرة من الأوراق المطبوعة، يعطينا ذلك انطباعًا عن طبيعة بيتر الإبداعية الدقيقة كما ترهص لما هو قادم، تملأ اللقطات المقربة للأيدي أفلام كامبيون من أشهرها البيانو the piano 1993 الذي يركز على اللغة التي تعبر بها بطلته الصماء عن نفسها وهي أصابعها على البيانو كذلك في فيلمها الرومانسي النجم الساطع bright star 2009 عن الشاعر جون كيتس وحبيبته فاني براون، الذي يمتلئ بلقطات ليديهما تتلقى خطابات الحب أو تصنع الأثواب وتقدم الطعام.

مشهد من فيلم قوة الكلب
مشهد من فيلم البيانو
مشهد من فيلم البيانو
مشهد من فيلم النجم الساطع

نرى ذلك بوضوح في قوة الكلب خاصة في المشهد الذي سيغير كل شيء بين فيل وبيتر، يضع بيتر يده على ذراع فيل برقة، يشعر فيل وقتها بأنه يتعرض لرفق لم يتعرض له منذ سنوات فيصبح أضعف وأكثر لينًا، وفي تلك اللحظة تخرق كامبيون قاعدة الـ 180 درجة السينمائية الشهيرة، والتي تنص على أنه يجب ألا تلتف الكاميرا حول شخصيتين فتغير أماكنهما على الشاشة، يتم كسر تلك القاعدة لتغيير أماكن بيتر وفيل وطبيعة العلاقة بينهما، تمثل اللقطات المقربة الكثير من لقطات الفيلم على الرغم من كونه فيلم ويسترن يستخدم اللقطات الواسعة، إلا أن تركيزه على التفاصيل الدقيقة يدفع بالأحداث ويطرح طريقة مختلفة لزرع الأدلة في فيلم إثارة غير تقليدي.

يظهر فيلم قوة الكلب جانبًا جديدًا في ممثل بشعبية بيندكت كامبرتش الذي يقدم واحدًا من أفضل الأداءات في مسيرته وفي ذلك العام، كما يمثل عودة قوية لجين كامبيون التي غابت عن السينما لمدة اثني عشر عامًا، بفيلم يمكن الاستمتاع المجرد بمناظره الطبيعية وأداءاته التمثيلية المتميزة بجانب التفكير فيما يطرحه من أفكار تتعلق بالذكورة وتمثيلاتها على الشاشة، وما يعنيه موت نوع سينمائي ليبزغ منه موجة جديدة تعيد قراءته كنوع جديد واعٍ بذاته وتاريخه.