انظر البيانو على سبيل المثال، مفاتيحه تبدأ وتنتهي، يوجد ثمانية وثمانون واحًدا، لا يختلف أحد على ذلك، ليسوا لا نهائيين، أنت لا نهائي، والموسيقى التي يمكنك صنعها لا نهائية، يعجبني ذلك أستطيع أن أعيش كذلك
الشطرنج عالم كامل مكون من أربعة وستين مربعا، أشعر فيه بالأمان، أستطيع التحكم به، أستطيع السيطرة عليه، ويمكن توقعه، فإذا تمت أذيتي، يمكنني فقط لوم نفسي.

في فيلم The legend of 1900 يبرر البطل عدم رغبته في ترك الحياة على متن سفينة بأنها كل ما يعرف عن العالم، البطل هنا عازف بيانو بدأ منذ كان طفلا، الموسيقى هي حياته وهي ما يستطيع أن يسيطر عليه بشكل كامل بسبب محدودية طبيعتها فإنها تمثل عالم محكوم، وفي The queen’s gambit (مناورة الملكة) تصف بيث هارمون بطلته هوسها بلعبة الشطرنج بكلمات تكاد تكون مطابقة، فهي وسيلتها في التحكم والهروب من الحياة، هي وبعض الأشياء الأخرى مثل الكحوليات والمهدئات، لكن بشكل رئيسي يمثل لها عالم الشطرنج عالمًا موازي للعالم الموحش الذي تعيشه، عالم كامل تستطيع الفوز فيه والتفوق على الجميع، فتنقل حياتها كلها إلى تلك الرقعة التي تعذبها وتسبب لها النشوة في الآن ذاته.

The queen’s gambit هو أحد آخر إصدارات نيتفلكس الأصلية، مقتبس عن رواية بنفس الاسم كتبها والتر تيفس في عام 1983 والذي بنى قصتها على لحظات من حياته الشخصية، إدمانه ومحاولاته للهروب واهتمامه بدراسة تقنيات الشطرنج الحديثة، يشرح تيفس الطبيعة الهوسية لبطلته بيث بأن الناس يأخذون ممارسة الشطرنج بجدية عندما يعانون من مشكلات شخصية، عندما يحاولون الابتعاد عن شيء ما في الحياة، مثل التخلص من القلق عن طريق إعادة موضعته في شيء آمن نسبيًا.

يتعامل المسلسل القصير مع تيمات الهروب تلك كما أنه لا يمكن إغفال كونه يحكي قصة تفوق فتاة في لعبة يسيطر عليها الرجال لكنه لا يجعل ذلك اهتمامه الأساسي، يمثل العمل دراسة شخصية لطبيعة الفقد ومحاولات البعث من جديد في قالب مألوف لكنه يملك من الحيوية ما يجعله مثيرًا في كل جانب رغم طبيعة اللعبة غير جماهيرية.

قالب السيرة الذاتية

يتبع المسلسل نبضات مألوفة في قصص السير الذاتية الهوليوودية الجاذبة للجوائز، التي تحكي عادة حكايات في أزمنة أقدم period drama لشخصيات أثرت بشكل كبير في التاريخ وعانوا من مشكلاتهم الخاصة مثل النبذ أو المرض النفسي والعضوي لكن كللت إنجازاتهم بالخلود لذلك أخطأه الكثيرون كقصة حقيقية عن بطلة العالم في الشطرنج في الستينيات وهو في حقيقة الأمر قصة شخصية خيالية بالكامل.

يجعل تبني المسلسل لتلك القيمة -الشكلية والسردية المتكررة- من قصة بيث هارمون قصة قابلة للتصديق بشكل كامل حتى وإن لم تحصل امرأة قط على ما حصلت عليه بيث، وهنا تكمن قوة أسلوب السرد التقليدي من البداية فهو يستخدم تلك القيم التقليدية لدحض ما تمثله في الأساس، لكن سرعان ما يعود للنبضات المعتادة وينتهي على نغمة انتصارية مألوفة ومرضية للجمهور العام.

تبدأ القصة بمباراة مصيرية تخوضها بيث الناضجة ثم يعود الحكي للماضي في flashback طويل يستمر حتى قبيل نهاية المسلسل، نرى مشاهد للحادث الذي تسبب في فقدان بيث لوالدتها وألقى بها في دار للأيتام، وكيف قابلت عامل النظافة الذي سيعلمها الشطرنج ويغير حياتها، نرى الصداقات التي ستشكل تكوينها، والبداية المبكرة لإدمانها على المهدئات ثم الكحوليات، في الحلقات الأولى يضرب العمل كل الإيقاعات المعتادة للأعمال المشابهة مع موسيقى نوعية ذات نقلات متوقعة لكنها تحمل إيقاعًا بيث السريع في الحياة وتؤطر تجاربها الجديدة كمراهقة أنثى وكشخص يجد تفوقه في أحد المجالات بعدما هزمته كل نواحي الحياة.

يملك العمل جمالاَ شكليًا واضحًا واهتمامًا بتفاصيل الحقب التي يتناولها، يعتمد في تصوير شخصية بيث على السميترية المشابهة لطبيعة الشطرنج والحرص الحسابي الذي يميز شخصية بيث، فيتم تصويرها متوسطة إطارًا متماثلا في معظم ظهوراتها الأولية خاصة في وقت تفوقها في لعبة تمثل اتزان كامل لعالمها المختل قبل أن يبدأ ذلك العالم في الترنح فتتغير طريقة تصويرها.

بيث مثل كل بطل عبقري تصوره الشاشة تميل إلى الانعزال وتجد صعوبة في الاندماج بين من هم في سنها، فعقلها يسبقهم واهتماماتها تتخطى رفائع الطفولة والمراهقة، لكنها ومع اختبار شعور الهزيمة فيما اعتادت الفوز فيه تبدأ في استكشاف أنوثتها ورغباتها، تستمع للموسيقى التي لفظتها من قبل، ترقص وتشرب وتشتري الملابس الجميلة، وينمو وعيها بطبيعة جنسها ونضوجها المستجد.

طبيعة الأدوار النسائية

في أحد المشاهد بعد فوز بيث بشكل مفاجئ في بطولة محلية متفوقة على كل الرجال الشهيرين بها، تجري معها إحدى المجلات حوارًا، وعندما ينشر وتقرأه تعلق أن ما أخذوه من تعليقاتها يمكن إيجازه في كونها فتاة، وليس كونها لاعبة متفوقة، تمت تصفية الكلام عن نشأتها وعما يعني الشطرنج لها كوسيلة للفوز في الحياة والهروب منها إلى مجموعة من الصور النمطية عن تفوق الفتيات في مجتمعات ذكورية، لا ترغب بيث في بناء شهرتها على أساس كونها فتاة وهو ما يفعله العمل، يتعامل معها بشكل مجرد دون إنكار الحقيقة المجردة لكونها فتاة لكنها بشكل أساسي لاعبة شطرنج محترفة ومعجزة طفولية.

من مسلسل The Queen's gambit
من مسلسل The Queen’s gambit

يتعامل المسلسل مع قصة بيث كحقيقة واقعة، لكنه لا ينكر طبيعة جنس شخصيته، نمر مع بيث بصعوبات البلوغ والوقوع في الحب والرغبة في أن تكون مرغوبة لكنه لا يختزلها في ذلك، يتحدى العمل الأدوار النوعية للجنسين بشكل عام، ففي حياة بيث إمرأتان، كلاهما تجدان صعوبة في ملء دور الأم الذي فرضته الطبيعة عليهما، مثل بيث التي تتحدى بشكل خفي طبيعة يقرها الرجال أن النساء أقل ذكاء في الألعاب العقلية فإن أم بيث البيولوجية تواجه مشكلات نفسية قاتلة لا يتلفت أحد لها، تثقلها الأمومة وترغب في التخلص منها رغم حبها الشديد لابنتها، تريد أن تتخلى عن عبء الأمومة في ظل إهمال زوجها لدوره كأب أو كشريك حياة، فترتكب ما يمكن وصفه بالانتحار الجماعي.

وعندما يتم تبني بيث من قبل زوجين فقدا طفلهما، تواجه أم جديدة يثقلها فرض الطبيعة عليها، فتتخذ مسارًا مختلفًا لا يخلو من حب لطفلتها الجديدة، تترك لها الحرية وتقدم لها حبًا أشبه بالصداقة منه للأمومة فهي تقدم لها أول كأس من الشراب، وتسافر معها حول العالم لحضور بطولات الشطرنج، يفيد ذلك بيث أحيانًا لكنه يؤذيها ويعزز نزعاتها الإدمانية سواء إدمان العقاقير والشراب أو إدمان الرغبة في الفوز.

من مسلسل The Queen's gambit
من مسلسل The Queen’s gambit

المعجزة الطفولية

من مسلسل The Queen's gambit
من مسلسل The Queen’s gambit

ينتمي The queen’s gambit لنوع قصص النضوج، التي عادة ما تتابع حكايات بلوغ المراهقين ومحاولاتهم لإيجاد معنى لوجودهم في العالم، كما أنه يتناول تيمة لطالما تكررت في السينما والتلفزيون وهي حكايات الأطفال العباقرة، القادرين على مضاهاة الكبار في نشاطات تتطلب جهدًا عقليًا أو بدنيًا أو إبداعيًا.

تدرك بيث بعد انطلاقها خارج مدينتها الصغيرة، بل وخارج القارة التي تعيش بها بالكامل، أنها ليست الوحيدة. فهنالك العشرات من لاعبي الشطرنج الذين بدأوا ممارستهم في سن الثامنة مثلها، بل وفي الرابعة في بعض الأحيان. تتكشف هشاشتها أمامها وتدرك قابليتها للهزيمة، فيما تفوقت فيه وتفردت به من وجهة نظرها على العالم كله.

يستكشف العمل عن طريق سيره في نفس طريق كل قصص النضوج وحكايات عبقرية الأطفال الجانب الآخر من تلك الشهرة المبكرة، أن تدمن الفوز ويصبح هو كل ما لديك في الحياة حتى تنبذ كل شعور إنساني آخر مهما كنت تحتاجه، أن تتعرض للإدمان في التاسعة من عمرك لكي تتعامل مع ضغوط أن تكون الأفضل فيما تفعل.

يعرض العمل مصائر متنوعة لهؤلاء العباقرة الصغار بعدما توقفوا عن كونهم صغارًا وعن كونهم عباقرة، يعرض كيف استهلكتهم الأضواء وهوس الفوز حتى أنهكهم النجاح واختاروا التخلي عنه، لكن بعد أن يمضي المسلسل عدة حلقات يستكشف نفسية بيث المعقدة ورغباتها غير المحققة يعود لشكل أكثر أمنًا من القص وبشكل متوقع يرضخ لطبيعة نوعه، فيقفز محققًا كل الحركات المتوقع حدوثها في ذلك النوع من الأعمال، الترقب في المباريات الكبرى لكن التأكد أيضًا من فوز البطل، مساندة الأصدقاء وأنصاف الأصدقاء والمحبين السابقين بشكل غير مشروط.

يتوحد الجميع لكي يشهد انتصار الطفلة المعجزة سابقًا، فيتحول ميل المسلسل إلى كسر النمط إلى سلسلة من الأحداث النوعية generic المكررة وينتهي بنغمات انتصارية وتكاتف إنساني غير منطقي واحترام مثالي من الخصوم لبعضهم البعض، يتعلم الجميع دروسهم وتنتصر بيث على عالم الشطرنج كما تنتصر في عالمها الحقيقي أخيرًا.