ليس ثمة مقارنة بين رواية «القارئ The Reader»لبرنهارد شلينك، وبين الفيلم المأخوذ عنها بنفس الاسم للمخرج «ستيفن دالدري»، ليس ثمة صلة رحم تجمعهما، وإن اعتبرناهما مُستَولَدين من ذات البطن، والحقيقة، لهذا السبب تحديدًا توجَّب كتابة هذا المقال وتوثيقه، لأنها ربما تكون الحالة الأولى من نوعها، حالة فريدة تحمل في ثناياتها اختلافًا دقيقًا ومرهفًا وفارقًا جدًّا بين الرواية وفيلمها، قد يؤدي إلى التباين التام بينهما، حتى وإن تناولا الوقائع بعينها.

وعلى الرغم من أننا لن نستطيع تجنب الرؤية الفنية لكل من العملين، الأدبي والفني، فإننا لا بد أن نلتفت إلى نقطة فريدة أخرى تخصهما، وهي ذلك الطابع الإنساني الذي يحفهما، فالرواية من أكثر الروايات التي تحمل في جعباتها تفاصيل آدمية، نفسية، تفوق السمات الفنية بمراحل بعيدة، غير عابئة بها، لا توليها اهتمامًا، وكأن الجانب الفني ليس من شأنها. مما أدى بها لخلق نوع آخر من الجمال، جمال مؤلم، عار من الفن، متلبس ومتشبث بالواقع في غير ابتذال.

أما الفيلم، فقد نجح في التملص من طبيعة الرواية المتفردة، في أكثر من موضع، إلا أنه لا يزال -رغمًا عنه- توصيفًا سينيمائيًّا استثنائيًّا لحالة إنسانية غارقة في التفاصيل الذاتية، التي تفوقت على الفن، وتصدرت المشهد لتجعل من نفسها موضوعًا مجردًا، يُشبِع الروح والخيال من تلقاء نفسه.


رواية كُتبت بقلم إنسان

يبدأ برنهارد شلينك روايته بهذه الجملة العادية، التي لا تحمل هم جمالية بدء السرد، أو العمل على تعميق أثر السطر الأول في الحدوتة، إنه فقط يبوح، يبوح بجدية وموضوعية من يرغب في التخلص من ثقل ما، يقص بطريقة تشبه شخصية البطل.

هذا الشاب الذي ذاق الأمرين لأنه مرض ذات يوم، ضعف وارتمى في صدر امرأة شديدة التعقيد لم يسعه سوى أن ينساق معها في علاقة، علاقة لم ينج منها أبدًا، وإن كافح بعدها ليعيش. «هنا شميتز»أخذته يافعًا، نقيًا، كمادة صلصال خام، طيعة التشكل، ومن ثم طبعت في قلبها بقعة سوداء من الحبر، وتركتها في الهواء لتجف، فما إن التقطها أحدهم ليعيد تشكيلها لم ولن يسعه أبدًا محو بقعة الحبر، التي باتت تتحجر أكثر بمرور الوقت.

هذه الجملة البسيطة الخالية من الاستعراض السردي، والذي نتوقع دومًا أن نراه في بداية الروايات، تناسب البطل، تلائم حالته الشعورية المتجمدة، انفعاله المحايد، وانغلاقه على نفسه منذ فقد امرأته التي إن شاء أم أبى كانت الأولى والأخيرة، والتي يحبها رغمًا عنه ويكرهها بكل عمد منه، ولكنه لن ولا يفلح في التصالح مع أي من الشعورين. فالصدمات الكبيرة تكشر عن أنياب أسنّ وأغلظ أمام الأعمار الصغيرة، وهو ما قد كان لـ«مايكل»التلميذ البريء الذي وجد نفسه فجأة في حضن امرأة جميلة وقادرة وغامضة، مثل «هنا شميتز»، وبعدها في برقة عين انحرم منها دون أدنى تفسير، وفي كلا الحالتين لم يملك خيارًا ليقبل أو يرفض، يتأهل ويتأهب.

تعددت مثل هذه الجمل الهادئة، والتي جاءت لتعبر عن مواقف ملحمية على لسان مايكل، فعندما فارقته «هنا»قال في بساطة: «في اليوم التالي كانت رحلت»، ثم كتب في نصف فقرة تقريبًا أعراض اختفائها المفاجئ من حياته، متجاوزًا إياه بيسر وسهولة لا تشي إلا بنقيضها الفعلي المسكوت عنه، تمامًا مثلما قال بنفس اللهجة: «هنا لم تكن تستطيع القراءة»،وكأن هذا السر ليس مفتاح حل شفرة هذه المرأة الغامضة، وتفسيرًا لكل تصرفاتها الغريبة المعقودة بإحساسها الفظيع بالنقص والخزي، والذي تُعَوّض عنه دومًا بالعنف غير المبرر، ونهم استغلال الآخرين رغمًا عنهم لتحقيق طموح مكبوت لن يُطلب أبدًا في العلن.

«هنا»شخصية تفضل أن تقول: «ستقرأ لي يا ولد في مقابل أن أمتعك جنسيًّا»على قولها: «من فضلك اقرأ لي، وإن كنا لطيفين معًا فسنمارس الحب». «هنا»تؤثر أن تكون مجرمة على أن تنقذ نفسها وتعترف بأنها أمية لا تقوى على كتابة تقرير نازي جاحد، اتُهمت بإعداده لتغطي على جريمة مفجعة وقعت في أحد معسكرات الاعتقال التي كانت تخدم فيها. «هنا»امرأة مريضة اختارت أن تُعدي بمرضها كل من حولها بدلًا من أن تسعى للعلاج. ومايكلالتقط منها العدوى ببراعة، وفي لحظة آثر هو الآخر الاختيار الأكثر قسوة، وقرر ألا يخبر أحدًا بأنها أمية، حينما كادت أميتها أن تُخلصها من تهمة التحريض على جريمة نازية، بل تمنى في ذات نفسه أن تظل خلف القضبان لكي لا يقابلها صدفة مرة أخرى في حياته، لكي لا يضطر للتعامل معها من جديد.

إنها فاجعة بكل المقاييس، فاجعة إنسانية كتبها برنهارد شلينك بحساسية مفرطة ضد التأمل في الوجع، بل سردها بكل انسيابية تليق برجل ذهبت حياته كلها في ذيل امرأة أنانية مثيرة للشفقة. ففي بداية الفصل قبل الأخير، يقول بشكل عابر: «في اليوم التالي، كانت هنا ميتة، شنقت نفسها عند طلوع الفجر داخل زنزانتها».


فنية سينمائية محاصَرَة وإن قاومت

أصبت بالتهاب كبدي حين كنت في الخامسة عشرة من عمري.

المخرج «ستيفن دالدري»قاوم بضراوة هذا الصمت القاتم، والنبرات المحايدة التي أتت بها الرواية، ومن دون الخوض في مناقشة مدى خدمة هذه المقاومة لإطار الحدوتة، وطبيعتها، سننغمس أكثر في أمارات هذه المقاومة، ودلائلها، بينما سنترك الحكم عليها للمتفرج والقارئ.

في فيلم «The Reader»سنرى حرص السيناريو على توضيح كل شيء من البداية، فعند ذهاب مايكللمنزل «هنا»، شاكرًا إياها على الوقوف بجانبه في محنة مرضه، سنجده يذكر في كلامه العابر إليها أنه قضى وقت المرض في الفراش مسليًا وقته في القراءة، وحينها، سنجد «هنا»وهي تحدق بعينيها في اللا شيء وكأنها سمعت ما يبهرها، ويستجلب في عقلها فكرة مثيرة، بينما رفعت سن المكواة بحرص عما كانت تقوم بكيه، مُغيرة وضعية كيها الهادئة التي قطع عليها «دالدري»من أول المشهد في أكثر من مرة، ليثير انتباهك أنت الآخر إلى التغير المفاجئ الذي سيحدث لـ«هنا»حينما تعرف أن مايكليقرأ.

في الفيلم لن تتفاجئ بأن «هنا»أمية، ستجدها ترتبك بوضوح عندما يُقدم إليها مايكلكتابًا لتقرأه، وحينما يجلسان معًا في الحانة بينما لا يسعها قراءة قائمة الطعام، وحينما ترفض مشاركة مايكلالنظر في الخريطة لتحديد وجهتهما في الرحلة التي قررا القيام بها على الدراجة.

في الفيلم ستجد السيناريو متجنبًا لأفكار مايكلالفلسفية الجافة، الغارقة فيها رواية شلينك،والتي تشعرك أن بطله يتوارى بداخلها من الألم الفظيع الذي يسحق أعماقه، متجاهلًا إياه، وكأنه ليس كاتبًا تغويه مثل هذه المادة الخام للوجع، بحيث يسهل توظيفها فنيًّا وشعوريًّا، وإنما قرر أن يفندها عقليًّا، ويتأملها في مناقشات عامة مطولة عن الطبيعة الإنسانية عمومًا.

في الفيلم ستجد مايكليبكي في أكثر من موضع، حينما حكمت المحكمة على «هنا»بالسجن لمدى الحياة، وحينما قرأت عليه مديرة السجن رسالة «هنا»، تلك الرسالة التي اختلفت أيضًا عن الرواية، فـ«هنا»في الرواية لم تترك لمايكلولو كلمة واحدة تخصه في وصيتها، بينما حرص سيناريو الفيلم على أن يكسر هذه الحِدة بكلمة هزيلة ضئيلة مثل «هالو».

الفيلم أصر على أن يخلق خطًّا شعوريًّا حيًّا، يجعل المعاناة تنطق، تُفَرّغ ما فيها من احتقان، الفيلم فتح بابًا للشفاء، لكن الرواية لم يكن فيها ثمة احتمال للنجاة. وإن سألني القارئ إلى أي من المعالجتين تميلين شخصيًا، فسأختار الرواية بكل تأكيد، لأنها أقرب للحقيقة، والحقائق دومًا أثرى وأكثر دهشة وتعقيدًا من الخيال.


آخر كلمتين

لعل القدر كان حليفًا، حينما اعتذرت نيكول كيدمان عن أداء «هنا شميتز»بسبب بوادر حملها، لتلعبه «كيت وينسلت»وتتركه لنا خطوة في أرشيفها المذهل.