خلال ما يزيد عن قرنين تعاملت الديبلوماسية الغربية بمنطق شديد التعقيد مع واقع الدولة العثمانية في مرحلة ضعفها، وهي مرحلة شهدت ميلاد مصطلح: «الرجل المريض»، وخلال الحقبة الطويلة التي حفلت بالتغيرات في موازين القوى وتوجهات المصالح الغربية، بقيت القواعد التي تم التوافق بشأنها إزاء الرجل المريض و«التركة الكبيرة»، التي سيجري اقتسامها حال غيابه، أحد الثوابت التي تتمتع برسوخ كبير في سياسات القوى الغربية.

وفي العقود التي تفصل غياب رابطة الخلافة في عشرينات القرن الماضي، وحالة الإحياء الديني المتزامن التي شهدها العالم منذ السبعينات من القرن نفسه، كانت الحركات الإسلامية في مواجهة واقع غربي أقل توافقًا بشأن الحركات الإسلامية، وبخاصة مع الازدياد المطرد في النفوذ الأمريكي في السياسة الدولية. وهذا النفوذ الأمريكي، لم يخلُ من بصمات واضحة لتأثير البعد الديني في السياسة الأمريكية. وأيًا كان الرأي في مدى «براجماتية» التعامل الأمريكي مع الإسلاميين، فإن المؤكد أنها تحالفت «على قاعدة التوافق القيمي» مع الفاتيكان ضد الاتحاد السوفيتي، ومع إسلاميين آخرين للغرض نفسه، وصولًا إلى الغزو السوفيتي لأفغانستان، فضلًا عن أنها لم تتخذ موقفًا معاديًا من دورهم السياسي في العراق «بعد 2003»، وكذلك في تونس بعد الثورة.


بين باريس وواشنطون

من السياقات التي لعبت دورًا مهمًا في دفع حركة النهضة باتجاه التحولات الأخيرة سياق متصل بالأصول الثقافية لـ «دولة ما بعد الاحتلال»، هذه الدولة التي أسسها بورقيبة وفقًا لتقاليد علمانية متشددة ربما لم تتكرر في دولة عربية أخرى. وجمعت «دولة بورقيبة» «في مرحلتي: بورقيبة وبن علي» بين سمات:

تأليه الدولة وفقًا لتصور مستمد من أفكار الثالوث: «هيجل – هوبز – ماركس»، حيث الدولة «لا تٌسأل عما تفعل» «وحاشا لله أن يكون».رافد فرانكفوني متشدد – بل جامح – يتبنى على مستوى الأيديولوجيا «علمانية أصولية»، الدولة فيها هي «الدولة الصاهرة» التي تخلق «الأمة» وفق شروط مسبقة، فهي «توجب» على الأمة، بدلًا من أن تستجيب لها.على المستوى الثقافي: اختارت «دولة بورقيبة» الإلحاق القسري بالغرب، والفصل المتشدد بين الدين والشأن العام كله.

وكان القمع!

وقد كانت تجربة راشد الغنوشي في المنفى واحدًا من المؤثرات التي لا يمكن إغفالها عند تقصي روافد التحول، وهو تحول كانت له جذوره في مسيرة الرجل، وفي لندن العاصمة الإنجلوسكسونية العريقة التي تفخر دائمًا بأنها نجحت في إنجاز إصلاحها الديموقراطي الكبير دون أن تخوض المعركة التي خاضها نظراؤها الأوروبيون مع «الدين» انطلاقًا من مقولات «الثورة الفرنسية». وفي الحقيقة من يقرأ كتابات الدكتور رفيق عبد السلام «صهر راشد الغنوشي/ وزير خارجية تونس» المنشورة، لسنوات قبل الربيع العربي، يجد إدراكًا لا يتوقف عنده كثير من قادة الحركات الإسلامية الأخرى، للتفاوت الواضح بين «باريس» و«واشنطون»، في الإجابة عن سؤال: دور الدين في الشأن العام «السياسي/ الثقافي/ الاجتماعي»؟

والمعنى هنا أن إدراك وجود علمانيتين: «شاملة» و«جزئية» – والمصطلح هنا للمفكر العربي الإسلامي الدكتور عبد الوهاب المسيري- جعل القول بإمكان التعايش بين الدين والديموقراطية ثمرة إدراك أكثر وضوحًا للعلمانية وليس ثمرة رغبة في التنازل عن «قناعات» من أجل «مصالح». وهذا الإدراك النظري السابق على الربيع العربي يعني – بتعبير آخر – أن فكرة «درء التعارض بين الإسلام والديموقراطية» تستند إلى قناعة وليست لعبة تكتيكية ولا أطروحة تلفيقية!

وقد يكون مؤكدًا أن«الربيع العربي» تكفل بطي صفحة «دولة بورقيبة» إلى غير عودة، لكن هذا لم يكن ورادًا – في تقديري – لولا تحول تونس من منطقة نفوذ أوروبي خالصة إلى منطقة نفوذ أوروبي أمريكي، ووضعيتها الجديدة في حلف شمال الأطلسي «الناتو» منعطف له ما بعده.

وبحسب وثيقة أطلسية، يجب «إنشاء إطار عبر أطلنطي عالي المستوى، للمناقشات الدورية بشأن تونس، وتدار من قبل العواصم الغربية، لوضع تونس كأولوية سياسية ملحة. ويجب على فريق العمل التنسيق مع الحكومة التونسية والشركاء المحللين الآخرين، لمتابعة التقدم المُحرز وتحديد الأولويات».


السياق والمعايير، والاجتهاد الجديد

التحول الذي أعلنته حركة النهضة واعتـُبِـر تاريخيًا «باستثناء قراءات لم ترَ فيه إلا نوعًا من المراوغة» أعلن فيه النهضويون العمل على تكوين تكوين تيار واسع من «المسلمين الديمقراطيين» الذين يرفضون التعارض بين قيم الإسلام وقيم المعاصرة. وركز النهضويون على خيار «التخصص» في العمل السياسي بمرجعية إسلامية كمنهج للإصلاح.

وعقدت كريستيان أمانبور مقابلة مع الغنوشي على محطة السي إن إن. أصر فيه إصرارًا كبيرًا على أن الدين يبقي في قلب مشروع حركة النهضة السياسي، وشدد على بقائه ملتزمًا بالدين في الساحة العامة، وأن ثقته في الطبيعة الدائمة للدين هي ما دفعته ليقرر أن الفصل بين المسؤوليات والواجبات داخل إطار الحركة الأكبر يجب أن يكون له تأثير مؤسسي. وهو يري أيضًا اعترافًا بالإسلام وما يعتبره الهوية الإسلامية، التي يجب حمايتها في المحافل العامة، كما هو مذكور في العديد من العبارات المدرجة في الدستور. وبالتالي، فان الحاجة لتناوب النهضة بين كونها حزبًا سياسيًا من جهة وحركة دينية من جهة أخري قد انتهى. وهذا – بحسب تصريحات الغنوشي في المقابلة المشار إليها – لا يعد فصلًا بين السياسة والدين، إنه تمييز بين أولئك الذين يعملون بالسياسة وأولئك الذين يعملون بالدين. وهذا مختلف تمامًا. لن يتم إقصاء الدين من المجال العام كنتيجة لهذه الخطوة – كما هو الحال في بعض أنواع العلمانية المتشددة.

والجديد هنا أن حركة النهضة تجاوزت عدة إشكاليات مهمة تسببت في مآلات مؤلمة لحركات إسلامية أخرى، وأهمها:

إشكالية الخلط بين شمول الدعوة وشمول أدوار الدعاة: ذلك أن شمول الدعوة لا يعني أن يحمل الداعية نفسه عبء: الديني والسياسي والاجتماعي والثقافي و…. فالفصل هنا «وظيفي» فحسب، وما ينطبق على الفرد هنا ينطبق على الجماعة المنظمة، فالتخصص لا يعني انفصال المرجعيات بل تراكم الخبرات «النوعية» في المقام الأول.الإجابة ولو ضمنًا على «أسئلة ما بعد الخلافة العثمانية» : وكاتب هذه السطور طالما دعا الإسلاميين لذلك، فزوال الخلافة جعل «مفهوم الاستمرار» في المجتمعات المسلمة مختلفًا، وجعل الاستمرار «القيمي» أكثر أولوية من الاستمرار القانوني بمعناه الضيق.هذا الاعتراف – الضمني – بالتحول الكبير الذي أحدثه غياب الرابطة السياسية الدينية: كـ «حدث تاريخي»، بدلًا من التراث الكبير من أدبيات المظلومية والمؤامرة، يفتح الباب لنوع من تكييف «الدولة الوطنية»، حيث لا موجب توقيفي ولا منطقي يوجب تحريم قبول «معيار المواطنة»، و«منطق تصنيف الدولة الوطنية الحديثة»، إلا بمقدار ما تتحول أيٌ منهما إلى «أيديولوجيا».التفرقة – كما هو الحال في تونس بعد الثورة – بين اختلاف في الرؤى تحت سقف المنافسة بل التعاون أحيانًا، وبين علمانية إقصائية تتعامل مع الإسلاميين بوصفهم «ثمرة محرمة» في الاجتماع السياسي. ومنذ الحرب الأولى، انتشر شعور عميق لدى المسلمين بأن «الإسلام في خطر»، ما مهَّد الأرض لظهور الحركات الإسلامية وانتشارها بقوة. ومع زوال خطر الإقصاء لم تعد ثمة ضرورة لخطاب «كلي/ جذري/دفاعي/ حدي»، وأصبح بالإمكان قبول منطق الحزبية وقواعدها.طي صفحة «الإسلام السياسي»: ولا يعني هذا في الحقيقة تنازلًا عن شيء من الثوابت، ولا علمنة لمنطلقات أو وسائل، بل يعني التخلص من مقولة أن «السلطة ضرورة لنصرة الدين»، فهذه في الحقيقة فكرة علمانية الأصل، ولم يكن لها في تاريخ الإسلام سند، فـ «الدولة» تأسست على يد الرسول على التراضي والتعاقد، وهي لم تكن «بعد عهد الخلفاء الراشدين مباشرة»: «دولة الدين» بأي معنى.أدرك النهضويون إشكالية أخرى مهمة – جاءت صياغتها الأدق في عنوان تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» ويلخصها سؤال: أي الخيارين أفضل، المزيد من «القبول» أم المزيد من «النفوذ»؟!


المأسسة وتجاوز الشعبوية

من الحقائق التي تعكسها التجربة التونسية أن بعض التحولات الكيرة يصعب – غالبًا – أن تحدث في حركات ذات جماهير كبيرة تغلب عليها الثقافة الجماعية. فالحركة الإسلامية في تونس – مقارنة بالحركة الإسلامية في مصر مثلًا – أصغر حجمًا وأكثر مدينية، ما ييسر إلى حدٍ كبير على الراغب في التغيير أن مسالك لخطابه في بنية الحركة وثقافة جماهيرها.

وهذا البعد بالتحديد في حركة النهضة التونسية واضح إلى حدٍ كبير، فالكتل البشرية الضخمة – وبخاصة ذات الثقافة المحافظة والجذور الريفية – يصعب عليها قبول التغيير، فضلًا عن أن أحادية النمط الاجتماعي الذي يتحرك فيه منتجو الأفكار والخطاب في هذه الحالة يجعل «المألوف» و«السائد» أكثر رسوخًا مما ينبغي، وصولًا إلى التكلس التام. وخلال ما يقرب من نصف قرن مضى كانت الحركة الإسلامية أسيرة حقائق اجتماعية/ ثقافية/ سكانية «إن جاز التعبير»، وكانت الأفكار الرئيسة تنتج في الأساس في مصر.

وعليه، فإن التباينات بين واقع الحركات الإسلامية كانت مجرد تفاوتات «رقمية» لا تنعكس في «مسار تدفق»، وهنا أحد وجوه أهمية التوجه التونسي بالفصل بين «السياسي» و«الدعوي»، وقد تخفق التجربة – لا قدر الله – بسبب معطيات واقعية تونسية أو إقليمية أو دولية، لكن التوجه يظل إيجابيًا وتظل نتائجه المرجحة إيجابية. فالحركة الإسلامية حقيقة يصعب تجاوزها، والتراتب بين: القيمي، والشرعي، والسياسي، يحتاج إلى بصيرة ويقبل الاجتهادات المختلفة، طالما لم تنطوِ على تنكر لأيٍّ من الأصول، وردود فعل المنتقدين من الإسلاميين والعلمانيين تتشابه في بنيتها الاتهامية. وهي بنية تغلب عبء التجربة التاريخية، على ممكنات المستقبل الإيجابية، وربما لم يشهد التاريخ فكرة كبيرة لم يكن رأي البعض فيها مصداقًا لهذه القاعدة الراسخة. وكل فكرة تتحول إلى مؤسسة وتتخلص من الخوف من «الجماهير» مرشحة لأن تفتح آفاقًا للأفضل، فالجماهير رصيد وقيد في آنٍ واحدٍ.