منذ أن كنت طفلًا أحببت أن أقرأ قصة جيدة. آمنت أن القصص تساعدنا في تمجيد أنفسنا، تصلح ما كان مكسورًا بداخلنا، تنفخ الروح في أحلامنا. إنها أكاذيب تخبرنا بالحقيقة الأكثر عمقًا
روبرت فورد – Westworld

طالما كان الإنسان مفتونًا بالحكايات، إنها الوعاء الأقدم الذي حمل حكمة الإنسان. ربما أدرك الإنسان القديم أن الحياة لا تفهم إلا من خلال حكاية ما. هنا في «ويست وورلد Westworld» (كتابة جوناثان نولان، وليزا جوي، اعتمادًا على خيط سردي لفيلم يحمل الاسم نفسه إنتاج 1973) يفاجئنا عمل يحمل طموحًا سرديًا هائلًا، عمل يطمح أن يقدم حكاية الإنسان في هذا العالم عبر حبكة مثيرة وسرد متاهي حيث لا تتضح الصورة كاملة إلا مع النهاية والتي تمثل عودة للحظة البداية، بداية عالم ويست وورلد.


المقولات المؤسسة لعالم Westworld

عالم «Westworld»غامض ومتاهي. مبني على موزاييك شاسع من مقولات فلسفية، ودينية، ورؤى ونظريات تسعى لحل لغز الإنسان والعالم. ومن أجل تفكيك غموض هذا العالم علينا أن نضيء ما نستطيع حصره من هذه المقولات والرؤى.

في عالم متخيل يوجد متنزه «Westworld»حيث مجموعة من الروبوتات – تحاكي تمامًا الكائن البشري، غير أنها لا تملك وعيًا بشريًا، تحت اسم «المضيفين»- تعيش في حلقات مغلقة وفقًا لنص مكتوب لهم وفي خدمة مجموعة من البشر يسمون «الضيوف»يأتون لزيارة المتنزه ليفعلوا ما يحلو لهم بالمضيفين حيث لا حدود سوى مخيلة القادمين الجدد.

الكود البرمجي للمضيفين لا يسمح لهم بإلحاق الأذى بالزائرين، أو الخروج عن النص، أو التواصل مع الذكريات القديمة لحيواتهم السابقة، حيث لا يتم محوها بل إخفاؤها في طبقات أعمق. يبدأ هذا العالم في التداعي حين تظهر بعض الروبوتات خروجًا عن النص المقرر لها يحدث ذلك بعد تحديثات جديدة قام بها «روبرت فورد/أنتوني هوبكنز»على المضيفين مكنتهم من التواصل مع ذكرياتهم السابقة. إنها الخطوة الأولى في طريق اكتسابهم وعيًا بشريًا.


بزوغ الوعي الإنساني والسقوط من الجنة

هناك تناص واضح بين حكاية المضيفين، خروجهم عن النص ورحلتهم نحو اكتساب الوعي، وبين سفر التكوين التوراتي. والذي يحكي سقوط البشر من سماء النعمة الإلهية إلى أرض المعاناة والاختيار بعد الأكل من شجرة المعرقة المحرمة.

أول الخارجين عن النص هو «ابرناثي»والد «دولوريس» الذي يعبر عن أزمته لابنته بقوله:

إذن هذا السقوط/اليقظة هو نتيجة معرفة محرمة. يهمس في إذن ابنته: «المسرات العنيفة لها عواقب عنيفة». دولوريس تهمس بدورها ذات الكلمات في أذن «مايف»، هذا الفعل يتناص مع فعل الحية في سفر التكوين. هذه الكلمات التي تحمل نبوءة بعهد جديد يوشك أن يولد، تفتح عينيهما إذ تفتح فيهما مسارًا نحو الذكريات المكتسبة من حيواتهما السابقة.

يكتب ميلان كونديرا في روايته «كائن لا تحتمل خفته»متأثرًا بأفكار نيتشه عن العود الأبدي،والتي ترى أن ما حدث في هذا العالم سوف يتكرر وإلى الأبد حين تستنفد كافة الاحتمالات الممكنة: الحياة في الجنة لم تكن تشبه الرحلة ذات الخط المستقيم التي تقودنا في المجهول، بل تتحرك في مسار دائري وسط أشياء معروفة. الإنسان في الجنة لم يكن إنسانًا بعد، لم يكن قد قذف به بعد إلى مدار الإنسان.

وهذا ما يلخص حياة المضيفين قبل اكتسابهم لوعي بشري في حلقات مقفلة تتكرر دائمًا. بزوغ الوعي هو كسر الدائرة المفرغة التي طالما دار فيها المضيفون وبداية السير في خط مستقيم. الزمن الدائري هو زمن إلهي بينما الخط المستقيم هو زمن تاريخي مثلما يعلق «مرسيا الياد»في كتابه «أسطورة العود الأبدي».

يرى الفيلسوف الألماني «كانط»في سفر التكوين التوراتي حكاية ميلاد الوعي البشري،حيث يرى في فعل حواء (أكل الثمرة المحرمة) هو الخطوة الأولى نحو الاستقلال الذاتي للإنسان والخروج عن مملكة الحيوان، وهو ما يتناص مع شخصية «مايف» (اسمها كما رأى البعض يتكون من شطرين «ما» التي تعني الأم، و«إيف» التي حواء) التي تجد طريقها إلى الحرية أو على حد تعبيرها: «لقد آن الوقت لأكتب فيه بنفسي قصتي اللعينة».في نهاية الموسم الأول ترفض أن تغادر ويست وورلد من أجل ابنتها وهو القرار الحر الأول الذي تتخذه مايف وبداية استقلالها الذاتي.


الإنسان والآلة: ثنائية الروح والجسد

يرى الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت أن الإنسان سيد الطبيعة ومالكها بينما الحيوان ليس إلا مسيرا وآلة حية،لعدم امتلاكه للروح أو الوعي المفكر. يقول ديكارت: عندما يئن حيوان فإنه لا يتألم، الأمر يتعلق بصرير آلة تعمل بشكل سيئ. يجب ألا نشفق على كلب يشرح وهو حي في مختبر.

هذه الفلسفة الكانطية هي إحدى المقولات المؤسسة لعالم «Westworld»وهي التي تعطي شرعية للعذابات التي ينزلها القادمون الجدد بمضيفي ويست وورلد دون أن ينتابهم أي مشاعر شفقة أو تعاطف. هي أيضًا مرجعية الخلاف القائم قديمًا بين فورد ورفيقه أرنولد. كان أرنولد متعاطفًا مع المضيفين وطالما رأى فيهم أطفاله الخالدين، لذا أراد أن يمنحهم وعيًا حقيقيًا. كان أرنولد متشائمًا بخصوص البشر وتمنى ألا يجلب البشر الحقيقيين إلى ويست وورلد. بينما فورد المولع بالحكايات رأى أن منحهم وعيًا بشريًا سيجعل من حياتهم جحيمًا حقيقيًا. كان فورد يرى أن إنجازهما سيمنح البشر فرصة ذهبية في اكتشاف إمكانات الذات وفي منحهم حياة حقيقية دون أقنعة. بعد أن خاب أمل فورد في البشر وفي قدرتهم على التغير بدأ في اعتناق فكر صديقه القديم إذ رأى أن بإمكان المضيفين أن يصنعوا ما فشل فيه البشر بعد أن وصل في ظنه التطور الإنساني إلى نهايته. هذا مدار حكايته الأخيرة «رحلة إلى الليل».


حكاية جديدة وإنسان جديد

كان لدي سؤال، سؤال ليس مفترضًا أن أسأله، مما أعطاني جوابًا ليس مفترضًا أن أعرفه.

في الحلقة الأخيرة من الموسم الأول والمعنونة بـ«العقل ثنائي الأوجه»،وهو اسم نظرية لعالم النفس «جوليان جاينيس»لم تجد دعمًا كبيرًا في الأوساط العلمية وإن صارت منذ صدورها مرجعا لأدب الخيال العلمي ومنها ويست وورلد، في تفسير نشأة الوعي البشري، حيث رأى جاينيس أنه قبل بزوغ الوعي لدىي الإنسان لم يكن قادرًا على تأمل الذات. الأفكار جاءت إلينا، استقبلها العقل كما لو كانت هلوسة سمعية، ونحن أطعناها معتقدين أنها صوت الرب يخبرنا بما يجب فعله، وحين تكون الوعي أدرك الإنسان أن هذا الصوت هو صوته الخاص وأنه حر في طاعته أو عصيانه.تقول دولوريس لـوليام (اد هاريس):

يقولون إن وحوشًا عظيمة جابت هذا العالم ذات يوم. كانت كبيرة كالجبال وكل ما تبقى منها كانت عظامها. الوقت يحطم أكثر المخلوقات قوة، ذات يوم سوف تهلك وتلقى مع بقية فصيلتك في التراب وعظامك سوف تتحول إلى رمال وفوق هذه الرمال إله جديد سيمشي، إله لن يمت أبدًا لأن هذا العالم لا ينتمي إليك ولا إلى الذين جاءوا من قبلك.

هناك تناص واضح بين هذه الكلمات مع أفكار نيتشه عن إرادة القوة وميلاد الإنسان الفائق،الإنسان القادر على استنفاد إمكانات وجوده في هذا العالم،والذي يولد من رحم معاناة عظيمة. الإنسان الفائق هو مطلب الروح الحرة. إله جديد يدوس بأقدامه الآلهة القديمة التي عفى عليها الزمن. دولوريس مزدوجة الجنس (هي مزاج من دولوريس وشخصية وايات) هي تجسيد لفكرة نيتشه عن الإنسان الفائق. هكذا مثلما في كل أساطير التكوين كي ينتهي عالم قديم ويولد عالم جديد لابد من قربان دموي، وهذا القربان ليس سوى روبرت فورد، إله ويست وورلد الذي تقتله دولوريس لتبدأ حكاية جديدة وعالم جديد.