صدرت رواية «أيام الإنسان السبعة» للكاتب «عبد الحكيم قاسم» للمرة الأولى عن «دار الكتاب العربي» عام 1969، وتدور أحداثها في سبعة فصول، عن رحلتين متداخلتين، الأولى هي رحلة تكوين الشخصية الرئيسية (عبد العزيز) منذ الصغر وحتى الكهولة، بإحدى القرى المصرية، والثانية هي الرحلة السنوية المعتادة من أهل القرية لزيارة مقام السيد البدوي للاحتفال بمولده. ومن خلال هاتين الرحلتين تبرز العادات اليومية لأهل القرية ومعتقداتهم الروحية، والهيكل الاجتماعي المحدد لدور كل فرد، وطرق وأساليب التفاعل.

مكان وزمان الرواية

يتلاعب قاسم بعنصر الزمن في الرواية، فينقلنا بقفزات في حياة (عبد العزيز)، لنرى التطور الذي يطرأ عليه، ووجهات نظره المتغيرة في العالم من حوله، فنصطحبه في مرحلة طفولته، مرحلة افتتانه بجلسات الذكر الأسبوعية التي يقوم بها الأب والأصدقاء، ونلاحظ صدى التسامح والتدين الشعبي مطبوعًا على روحه، فيأتي اشتياقه إلى الرحلة السنوية إلى مولد السيد البدوي قويًا صافيًا، تشبّهًا بأبيه، مثله الأعلى.

ثم نراه بعد ذلك مراهقًا، ونتابع هوسه بالمرأة وحكايات الحب الأول، ونجد أن نفسه ما زالت ممتلئة بحب الحياة بشكل عام، بالرغم من أنه قد خطا خطوته الأولى بعالم الحيرة والتشتت، نتيجة لانفتاحه على عالم آخر غير عالم أبيه المحدود، ثم نراه شابًا وحيدًا ضائعًا وسط التناقضات، رافضًا ومُنتقدًا تقاليد أهله، ثم كهلًا فاقدًا للأب وفاقدًا للمركز، وهنا نهاية رحلته ورحلة جيل أبيه، فيذهب عقله إلى الاستسلام التام، بينما يبدأ حوله عصرٌ جديد.

تدور أحداث الكتاب في مكانين: الأول هو الريف المصري، والمكان الثاني هو المدينة؛ مدينة طنطا بمحافظة الغربية بمصر. يُصوِّر المكان الأول الحياة اليومية لأهالي قرية ما، الحياة التي يتخللها العمل الجاد المُضني للرجال الذين يجدون مشقة في السيطرة على الأرض وزراعتها، والسيدات بالمنازل اللواتي يجدن مشقة كل يوم في متابعة شئون الدار ورعاية الأبناء، ثم يأتي الليل وينتهي اليوم بالنقيض التام؛ السكون والصمت القابض.

المكان الثاني هو المدينة. فعند الارتحال إليها للاحتفال بمولد السيد البدوي، نرى حياة أخرى غير حياة القرية، حياة يتخللها الدعة والراحة والصخب والمرح، فسبل الراحة بالمدينة متعددة، المساكن مُجهَّزة تجهيزًا أفضل من منازل الأرياف، الشوارع أنظف، وسائل الترفيه متعددة، هناك ضوضاء تصم الآذان، وهناك أيضًا أنوار توصل الليل بالنهار. كل هذه الملحقات تضيف للمدينة إشراقًا وبهاءً في عيون الزائرين من الريف، بالإضافة إلى خوف وعزلة وحسرة بقلوبهم.

لغة الرواية

لغة الرواية تعكس تناقضات البيئة الريفية، فمثل الأرض الفتية، التي يسيطر عليها الإنسان بمشقة، جاءت المفردات صلبة خشنة، ومثلما كان جمال البيئة الريفية من أراضٍ خضراء وسماء زرقاء، جاءت التعبيرات جميلة متناسقة، نافذة البصيرة، كاشفة للمشاعر، مرتفعة بالوجدانيات خارج نطاق المحسوس.

لابد من هدأة كل مساء، يحكون فيها، ويبسطون قلوبهم كالأكف المعطاءة، يدور الكلام وتتفتح الحكايا، ففي كل صدر قلب، وفي كل قلب همه الفريد، وهو في رحلة الحياة يرى ويسمع، ويتألم أو يرضى.
قاسم، 1996، صـ11.
لم يعرف عبد العزيز بعد لماذا تُثقِل هذه الساعة من النهار قلبه بالكآبة حينما تشحب الشمس وتمتد رقائقها الذهبية على الأشياء.
قاسم، 1996، صـ187.

تتخلل لغة العمل مفردات وتراكيب لغوية ريفية خالصة، كما أن أغلب الحوارات مكتوبة بالعامية، مما أكسب العمل أصالة وصعوبة في آن واحد.

وتزقطط البنات فرحات، وتطير المطارح في الهواء، وتتشقلب الأرغفة عليها في خفة.
قاسم، 1996، صـ73.
مالناش في نفسنا حاجة… نعمل إيه… نعمل إيه…
قاسم، 1996، صـ186.

إشكاليات ريفية

بالرغم من صغر حجم الرواية، فإنها تثير عددًا من الإشكاليات، أولها وضع أهالي الريف في النصف الأول من القرن العشرين، الوضع المُزري اجتماعيًا وثقافيًا وماديًا. نلاحظ من خلال الرواية النظرة الدونية والمعاملة العنصرية الواقعة على الفلاحين عند احتكاكهم بعالم المدينة المفتوح، فنرى العنف اللفظي والجسدي الذي يتعرضون له منذ نزولهم من محطة القطار بالمدينة وحتى رحيلهم. يتسبب هذا العنف الصادر من أهل المدينة بتحجيمهم وعزلهم في عالم خاص بهم.

الثقافة التي وُلدت في عزلتهم هي ثقافة نابعة من البيئة الخشنة القاسية التي يحيون بها، ثقافة تركت بصمتها على نمط التدين لديهم، وجعلت له شكلًا خاصًا، فالتدين لديهم يتخلله نزعة روحية خالصة، بالإضافة إلى إيمان عميق بالخزعبلات والأساطير والجن والعفاريت وقوة عالم ما وراء الطبيعة. تعطيهم هذه الثقافة قليلاً من الدفء، وقليلاً من الإحساس بالعدالة الغائبة بواقعهم، الواقع الذي يستشعرون فيه أنهم الطرف الأضعف.

نرى أيضًا الجهد الذي يبذله كل فلاح بالأرض التي يعمل عليها، ونرى أعمارًا كاملة في العمل الشاق، وبالرغم من ذلك لا يملك أحد منهم حق العلاج عندما يمرض أو حتى ثمن التغذية السليمة، لأن الأراضي التي يعيشون عليها ويفنون أعمارهم بالعمل على ترويضها، لا يمتلكون فيها قيراطًا واحدًا. عزّز هذا الفقر المادي المُدقع الثراء الروحي، وارتباطهم بالروحانيات وسِير الأولياء وأخبار الصالحين، اعتقادًا بذلك أنهم يبنون قصورًا في أراضي الآخرة غير الزائلة.

سأتنهد وأنا أقول هذا
في مكان ما بزمن ما
طريقان تشعبا بالغابة، وأنا
أخذت الطريق الذي لا يسلكه الكثير
وهنا مربط الفرس
من قصيدة «الطريق المهجور» للشاعر الأمريكي «روبرت فروست».

تتمثل القضية الثانية في الأجيال الأولى من المتعلمين من أهالي القرى، والتشتت الذي يُغز قلوبهم وهم يحاولون أن يستنكروا التدين الشعبي الذي تشرّبوه في صغرهم، بينما يطّلعون على علوم جديدة وعوالم أخرى خارج حدود عالم قريتهم المحدود المنعزل.

نجد هذا التذبذب الواضح في شخصية (عبد العزيز)، كأنه يرقص على سلالم متحركة، لا يستطيع أن يترك أفكار ومبادئ القرية المغروزة في كيانه، ويتمنى في لا وعيه أن يرجع لأمان الاعتقاد مثل باقي أهله، ولكنه في الوقت ذاته يحتقر هذه الأفكار والروحانيات، بل يُعاديها ويُعادي أهله، فنجده يُشبهِّهم بالبهائم.

مش عارفين رايحين فين… مش عارفين جايين منين.
قاسم، 1996، صـ171.

صورة المرأة في الرواية

تتمازج صورة المرأة عند (عبد العزيز)، وعالم السيدات الريفيات في هذه الحقبة من الزمن. عند الإبحار في الفصل الثاني المُعنوَن بـ «الخبيز»، يمكن استشفاف وضع المرأة الريفية بوضوح والأدوار التي تقوم بها، فهي ملحق للرجال، وأدوارها لا تتخطى الخدمة والإمتاع وإنجاب الأطفال، وهذا محور تفكيرها، الذي لا تتعداه.

أم عبد العزيز متكومة على نفسها، وغارقة في النوم، إذا لم تجد ما تشغل به يديها، أغرقت في النوم. لم يرها أبدًا سارحة تفكر.
قاسم، 1996، صـ277.

حتى (سميرة) المثال الوحيد للجيل الأول من النساء المتعلمات في القرية، عند زواجها وإنجابها، ارتدّت إلى عالم نساء القرية، بأفكارهن ومشاعرهن، ولم تستفد بأي شيء من تعليمها الذي تعلمته.

وبالرغم من تصوير المرأة على أنها كائن لا يفكر في المجمل، إلا أنها كائن يشعر وبقوة، والشعور غالبًا يدور حول الخوف: الخوف من المجهول… الخوف من المستقبل… الخوف من الحسد… الخوف على رجال البيت… الخوف على الأولاد.

والخوف شعور خبيث مصاحب للمقهور، فنرى السيدات يتمنعن عنه بعالم خاص بهن، إمّا بالانشغال أمام الأعمال المنزلية الشاقة طوال اليوم، وإمّا بالتداوي بالسحر والأعشاب والطلاسم ووصفات الرُقى، وإمّا بـ «حمى الخبيز» الناتجة عن التجمع النسائي المشروع، فيُزِحن الخوف مؤقتًا جانبًا، ويطلقن العنان لضحكات مُرّة.

أمّا عن علاقة (عبد العزيز) مع المرأة فهي علاقة معقدة. نلاحظ منذ بداية الرواية علاقته المشوهة بأمه، فهي لم تكن رمز الأمومة والحنان، فكبر وهو يشعر بافتقاد للعواطف الدافئة، هذه العلاقة أثّرت فيه طفلًا ومراهقًا وشابًا، فروحه الباردة أصبحت جائعة ومشتهاة للمرأة بجميع أحوالها وجميع سنونها:

أحيانًا يتمنى عبد العزيز لو كانت الحاجة «شوق» هي أمه… حينما كان طفلًا يذهب مع أبيه إلى دارها لتضمه إليها، ما زال يحس حنان ضمها له، لا يذكر أن أمه ضمته أو دلّلته كطفل، طول عمرها جهمة منهمكة في شغل الدار، وبالليل تنام كالحجر من فرط التعب.
قاسم، 1996، صـ61.
لا شيء يشبع جوعه أبدًا، جوع يجعله يبكي، يريد قبلةً وعناقًا.
قاسم، 1996، صـ77.

يحاول (عبد العزيز) الامتزاج بالمرأة طوال الرواية، ربما لتعويض جوعه للحنان، ربما للهروب من وحدته وانعزاله، وربما لأن اتحاده مع ضعيف آخر يعطيه قليلًا من الهدوء والراحة.

الصورة تتلاشى

عالم يهوى… تتساقط لبناته كبناء قديم.
قاسم، 1996، صـ207.

تأتي نهاية الرواية، فنرى عالمًا متغيرًا، بأفراد جدد، بعادات مغايرة، بمشاعر معاكسة لمن سبقوهم. نرى (عبد العزيز) وهو يحاول أن ينتمي، بعد أن فقد كل شيء، ولكن لا سبيل إلى هذا الانتماء. يحاول الانسجام مع أهالي قريته، ولكنه ملفوظ، لا مكان له، فيرضى في النهاية بنصيبه في الظلال بالعالم الجديد.

بينما القوى الجديدة ذات الأفكار الأكثر جرأة والصوت الأكثر جسارة والمشاعر الأكثر حدية والأفعال الأكثر دأبًا، صارت تمسك بزمام الأمور. على عكس جيل أبيه، المنعزل في روحانيته وتصوفه، وجيله نفسه، المنخرط بمخراط الحيرة والتشتت وعدم الانتماء، فتُؤرِّخ هذه النهاية -حتى آخر مشهد- حالة الضياع والوحدة والوحشة لحيوات مضت.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.