تجري الصحفية الأمريكية «آن» مقابلة مع مدير متحف للفن المعاصر في «ستوكهولم» عاصمة السويد ويدعي «كرستيان»، وهو رجل أنيق في بدايات عقده الخامس، تستفسر منه عن معنى إحدى عباراته العميقة -الموجودة في كتيب أحد المعارض- التي لم تفهمها، وكانت العبارة شديدة الصعوبة والتعقيد، ومن بواعث السخرية أن كريستيان لم يفهمها هو الآخر، وبدأ في ارتجال معنى للجملة.

ذلك هو المشهد الافتتاحي لفيلم «The Square»، افتتاحية ساخرة لفيلم كوميدي اجتماعي له رسالة أخلاقية واضحة. حققت تلك الافتتاحية بعض أهداف الفيلم، فنعرف منها شخصية كريستيان والذي يقوم بما يقوم به بعض المثقفين الأوربيين، حيث يلقي مجموعة كلمات وجمل غير مفهومة للآخرين، وربما لا يفهمها هو نفسه، ولكنه اعتاد على هذا الحديث الثقافي؛ عن العالم المفتقد لروح التعاون، والإيخاء، ومساعدة الغير، ومحاربة الفقر، ومساندة اللاجئين.

وفي عمق المجال (depth of field) نرى لمحة من الفن المعاصر الذي يقدمه المعرض، وهو كومة مكدسة من الحصى الأبيض على أرض بيضاء لامعة، مع مرور أحداث الفيلم يعبث بها أحد عمال النظافة بالخطأ، هكذا يتحول أي شيء مؤخرًا لفن معاصر، حتى الحصى الذي لا يستحق سوى المسح، يتحول لمعرض فني عن البيئة والمناخ والتربة.


قوة قهرية

يبدو أن فيلم «The Square» للمخرج والكاتب السويدي «روبن أوستلاند» يختلف كثيرًا عن فيلمه الدرامي السابق «Force Majeure» في النوعية وطريقة السرد، فالأخير قصة درامية واحدة عن هزة عنيفة تحدث بين زوج وزوجته، فلا يتناول سوى تأثير تلك الهزة وتطورها خلال خمسة أيام بين الزوجين، بينما في «The Square» هناك أكثر من خط درامي تسير الأحداث فيه، نشهد خلالها الكثير من التغيرات والالتواءات.

فهناك خط الترويج لعرض «المربع» في المتحف، وخط حادث السرقة الذي يتعرض له كريستيان في أول الفيلم، بالإضافة لمشهد الحيوان البشري والذي قدمه أوستلاند كدعابة سريالية منفصلة إلى حد كبير عن أحداث الفيلم ولكنها تعبر عن فلسفته.

ولكن هناك تشابهًا رئيسيًا بين الفيلمين وهو تدخل الصدفة العبثية، ففي فيلمه السابق يكشف الانهيار الجليدي سلوك الزوج الأناني، الذي فر ناجيًا بنفسه وترك أولاده مع أمهم، وفي «The Square» يتعرض كرستيان لحادث سرقة صدفة، يكشف ذلك الحادث عن حقيقته، وعن سلوكه المضاد لأقواله، في عوالم أوستلاند البدايات دائمًا تسببها قوى خارجية عبثية.


مربع القيم الأوروبية

كريستيان

على جانب موازٍ يعرض أوستلاند رؤيته النقدية للمجتمع السويدي بصفة خاصة، وللمجتمعات الأوروبية بالتبعية، ينتقد انعزالهم وفردانيتهم التي أصبحت سمة غالبة، ففي مشهد تأسيسي يطلب أحد الأشخاص في بداية الفيلم المساعدة من السائرين الذاهبين لأعمالهم وأشغالهم بملابسهم الأنيقة المهندمة، ولكن لا أحد يلتفت له.

ثم ينتقل الفيلم لعرض فكرة المربع وهو معرض فني لا يزيد عن كونه مربعًا مرسومًا على الأرض، ولكنه يمثل مساحة الأمل في تغيير هؤلاء المواطنين، ففيه ينتبه الجميع لبعضه ويتشاركون المساعدة والحقوق والواجبات. وللسخرية طوال الفيلم لم يقف أحد بداخله (خلال أحداث الفيلم) سوى ابنتا كرستيان.

ولأن فيلم المربع يمكن وصفه بأنه وجبة دسمة من الرسائل والانتقادات للمجتمع، ينتقد الفيلم أسلوب الدعاية الرأسمالي، حيث يستعين كرستيان باثنين من مسؤولي الدعاية، وتحدث جدالات بينهم وبين كرستيان ومسؤلي المعرض حول أهمية دعاية مواقع التواصل الاجتماعي، وأن النجاح يقاس بعدد الإعجابات والمشاركات وغيرها من أمور مواقع التواصل، ولذلك معرض المربع الإنساني يجب أن يحصل على دعاية قوية جذابة، حتى لو كانت تلك الدعاية لا تناسب قيمة المعرض الثقافية، وحتى لو كانت دعاية «غير أخلاقية».


بين الوعظ والسريالية

سوف نقدم الفنانة الأرجنتينية «لولا أريس»، ومعرضها «المربع»، المربع هو الملاذ الآمن للثقة والرعاية، فيه نتشارك حقوقًا والتزاماتٍ متساوية.
مرحبًا بكم في الغابة، ستهاجمون الآن من قبل حيوان بري، وتعلمون أن غريزة الصيد يعززها الضعف. خوفكم سيشعر به الحيوان، إذا حاولت الهرب الحيوان سيصطادك، ولكن إذا بقيت دون حركة متخفيًا وسط الآخرين، ربما لن يلاحظك الحيوان.

المربع فيلم رسالته الأخلاقية مباشرة تصل لحد الوعظ أحيانًا، فأوستلاند يعبر عن أفكاره المباشرة؛ عن ضرورة التواصل ومساعدة الآخرين، وعن مشاركة جميع الحقوق والواجبات، وتحمل المسؤلية الأخلاقية والاجتماعية تجاه الآخرين، وعن عدم الاستعلاء الثقافي والنصب باسم الفن.

وربما هذه إحدى خصائص الفيلم التي ستثير خلافات كثيرة أثناء تقييمه، فالرسالة المباشرة ربما تصيب البعض بالنفور. ومن أجل هذه الرسالة صنع أوستلاند نهاية ليست الأفضل على الإطلاق. فقد كان هناك فرصتان عظيمتان لنهاية الفيلم؛ أولاهما هي مشهد الحيوان البشري السريالي وثانيتهما هي مشهد دفع كرستيان للطفل، فعند هذين المشهدين كان الفيلم وصل لقمته الفنية، ولكن النهايتين سوداويتان، ويبدو أن أوستلاند أراد منح رسالة إيجابية، وهو ما أثر على جودة الفيلم في أغلب عناصره، تقريبًا في آخر ربع ساعة، لصناعة نهاية أكثر تفاؤلاً.

ارتبطت السينما السويدية كثيرًا بالسريالية، فقدمت السويد أحد أعلام السينما السريالية في النصف الثاني من القرن الماضي «إنجر بيرجمان» والذي ألهم الكثير من المخرجين العظماء كـ«ستانلي كوبريك»، و«مارتن سكورسيزي»، و«وودي آلن»، و«ديفيد لينش»، بالإضافة للمخرج «روي أندرسون» والذي يقدم السريالية بأسلوب ساخر، وقد تأثر أوستلاند بالأخير، خصوصًا في طريقة تصوير بعض المشاهد، ونوعية الموسيقى التصويرية المستخدمة، واستخدام الألوان المشبعة الزاهية، خصوصًا في مشاهد المتحف.

وتوجت سريالية أوستلاند بمشهد الحيوان البشري، وهو مشهد سريالي مميز، يحمل هذا المشهد الكثير من المعاني المركبة، فهو يمثل لحظة خروج عن الحضارة وتمادٍ في العنف، بالإضافة لحالة استسلام وخضوع كاملة من قبل جميع الحضور. وهذا المشهد الطويل صوّر بعدد لقطات قليلة وطويلة، فكما في فيلم أوستلاند السابق، يظهر قوة عالية في إخراج اللقطات الطويلة وتحكم كامل في حركة الممثلين (ميزانسيه)، وحركة الكاميرا.

رغم رسالته المباشرة ولكنه فيلم سينمائي بامتياز؛ أي أنه يحتوي على الكثير من المغامرات في أساليب السرد والتصوير وهذا ما يجعل مباشرته مبررة بل وربما محببة.