يكتب «روبرت مكي» في كتابه الأيقوني «القصة»:

الحبكة أو الشخصية؟ أيهما أكثر أهمية؟ هذا الجدل قديم قدم الفن.

بالنسبة لمحمد خان الذي تنتمي سينماه بامتياز إلى سينما الشخصية، كان هذا الجدل محسومًا من البداية ومنذ اللحظة التي قرر فيها أن يصير مخرجًا.

حين شاهد خان أثناء إقامته في لندن ستينيات القرن الماضي – وهي الفترة التي شكلت إلى حد بعيد ثقافته السينمائية الواسعة- فيلم الإيطالي مايكل أنجلو أنطونيوني، «المغامرة – L’Avventura»، الفيلم الذي يعد إحدى أيقونات الحداثة السينمائية، تأكد له وعلى نحو نهائي رغبته في أن يكون مخرجًا سينمائيًا.

يحكي خان أن ما أثاره في فيلم أنطونيوني هو معرفته أن السينما لم تعد مجرد «حدوته»، يقصد خان بالحدوته هنا الحبكة بمعناها الكلاسيكي: حكاية تترتب أحداثها في شكل محدد بداية، ووسط، ونهاية.

رغم هذا الانحياز المبدئي من خان لسينما تتجاوز الحبكة فإنه ظل خلال أفلامه الأولى معتمدًا في سرده على حبكات تقليدية، مع إبدائه اهتمامًا خاصًا بالتفاصيل الصغيرة للسرد والرسم المتقن لشخصياته. هنا تأتي أهمية فيلمه الحريف في هذا السياق، فهذا الفيلم الذي يرصد فيه خان الحياة اليومية للاعب كرة شراب وعامل في ورشة أحذية يسمى فارس، وهو الفيلم الذي تخلص فيها خان تمامًا من سطوة الحبكة التقليدية، وجسد فكرته عن السينما. إنه الفيلم الخاني في صورته الأكثر نقاء. نستطيع أن تقول أيضًا إن فارس بطل فيلمه هو الشخصية الأنسب لتحقيق هذا التحرر.

هنا نحاول أن نكتب بورتريهًا سينمائيًا لشخصية فارس الحريف متتبعين كيف استطاع خان أن يأسر ملامح بطله، وأن يجسد هزيمته وانكساره عبر شريطه السينمائي.


فارس: التمرد ضد الحكاية التقليدية

في سينما الشخصية، والتي ينتمي لها بجدارة فيلم «الحريف»، يصبح كل شيء تابعًا للشخصية الرئيسية ويكتسب قيمته فقط من قدرته على إضاءة ملامح الشخصية ورصد الأفكار والمشاعر التي تسيطر عليها، وتحدد طبيعة الشخصية الرئيسية مسار السرد.

على الحكاية إذن أن تشبه صاحبها وشخصية كشخصية فارس/عادل إمام بطبيعتها النفسية هي ضد فكرة الحبكة التقليدية، وحكايته لا يمكنها أن تنتظم داخل حبكة من هذا النوع، بمعنى أن تمرده وعدم امتثاله، وقلقه، ونوبات غضبه، ورغبته في أن يظل حرًا، كل ذلك يجعل كل حبكة ممكنة مبتورة.

تمرد فارس في الأساس هو ضد الحكاية التقليدية (الزواج المستقر، العمل الدائم..إلخ) . رغم محبته لزوجته دلال/فردوس عبد الحميد وابنه، ورغم كونه أفضل عامل في الورشة، يحدث الطلاق ويترك عمله. حتى موهبته الكروية التي كانت لتمكنه من أن يصبح نجمًا (حكاية صعود تقليدية) فإنه يقوم بضرب مدربه في أشبال الترسانة لتصير حكاية صعوده أيضًا حكاية مبتورة من حكاياته التي لا تكتمل.

من ملامح فارس النفسية التي تعزز ذلك أيضًا ملمح السلبية وانتهاجه مبدأ اللافعل. فهو يريد استعادة زوجته وابنه من جديد إلا أنه لا يفعل شيئًا من أجل ذلك. يعرف أن رزق/عبد الله فرغلي يقوم باستغلاله خلال مباريات الكرة الشراب ولا يفعل شيئًا أيضًا لمواجهة ذلك.

يأتي لم شمل الأسرة في النهاية مع وعد بحكاية صعود ورحلة مقبلة مفتوحة على كل الاحتمالات قربنا باستسلام فارس وامتثاله.


فارس: البطل الخاني من التمرد إلى الامتثال

فارس «الحريف» هو ثاني أبطال خان الذين يحملون نفس الاسم بعد أحمد زكي في فيلمه «طائر على الطريق»، يليه أيضًا فارس آخر يغلق الدائرة محمود حميدة في فيلم «فارس المدينة». وكأن خان يتتبع أبطاله عبر الزمن، تتغير المظاهر الخارجية لحياتهم لكنهم يحملون تقريبًا نفس الملامح النفسية والمزاج العاطفي.

يمثل التمرد ملمحًا أصيلًا لدى البطل الخاني مهما كان السياق الذي يوجد فيه البطل. يرفض البطل في أفلام خان الأولى الامتثال مهما بدا تمرده عبثيًا ومصيره مظلمًا. نجد ذلك في فارس «طائر على الطريق»، شكري ونوال في «موعد على العشاء»، إنهم يقاومون حتى النهاية المريرة.

فارس الحريف هو البطل الخاني الأول الذي يدرك قانون الزمن الجديد ويرى حتمية أن يتغير. يحسم الصراع الدائر في قلبه بين زمنين: زمن الأحلام الكبيرة، وزمن مغرق في ماديته. خان يعبر خلال فيلمه عن زمنين أحدهما ينهار على نفسه (تأمل مصير شخصية كابتن مورو الذي يمثل هذا الزمن، أو شخصية الأب الذي يعمل في مهنة تكاد تنقرض)، وزمن آخر يمعن في تغيير كل شيء ممثلًا في شخصية شعبان صديقه القديم الذي يعرض عليه عملًا جديدًا مرتبطًا بزمن الانفتاح.

يحضر حليم دائمًا في سينما خان ممثلًا لزمن الأحلام وتجسيدًا لرومانتيكية أبطاله التي يدهسها الزمن الجديد. هذا حاضر على نحو واضح ومثالي في فيلمه «زوجة رجل مهم». هنا في «الحريف» يظل حضوره الأبرز كملصق على حائط في غرفة فارس المتداعية. الملصق نفسه لحليم في سن متقدمة وملامح يغلب عليها الحزن. ويأتي امتلاك فارس لسيارة في نهاية الفيلم ملمحًا من ملامح امتثاله.

في فيلمه الأول «ضربة شمس» كانت سلوي/نورا حبيبة شمس/نور الشريف تلح عليه أن يبيع دراجته البخارية ويشتري سياره بحيث يمكنها أن تجلس إلى جواره وليس خلفه، وهو ما رفضه شمس طيلة الوقت، وبالتالي في هذا السياق يصير امتلاك فارس سيارة ملمحًا لتخليه عن تمرده. يقرر فارس أن يتوقف عن اللعب مع الخاسر، إنه أول بطل خاني يترجل عن فرسه ويكف عن محاربة طواحين الهواء.


اللهاث كلحن رئيسي

أغضب سيزيف الآلهة فعاقبته بأن يحمل صخرة من أسفل الجبل إلى أعلاه، فإذا ما وصل إلى القمة تدحرجت الصخرة إلى أسفل الجبل فيعود إلى رفعها من جديد، ويظل هكذا إلى الأبد. يمكننا أن نتخيل اللهاث لحنًا رئيسيًا لشخصية سيزيف الذي يقضي الأبدية في تعب غير مثمر ولا طائل منه.

يبدأ فيلم الحريف وينتهي بلهاث شخصية فارس، والذي يبدو مثل سيزيف عالقًا في دائرة مفرغة من اللاجدوى. يفتتح خان فيلمه بمشهد يمثل كابوسًا متكررًا لفارس، نرى فارس في لقطة واسعة وحركة كاميرا مبطأة يعدو في طريق يبدو بلا بداية ولا نهاية، بينما صوت أنفاسه المتقطعه/لهاثه يملأ شريط الصوت. هذا مشهد يصنع مجاز الفيلم ككل وينفذ عميقًا إلى جوهر شخصية فارس.

نستمع إلى لهاثه حتى قبل أن نراه، هذا اللهاث هو صوت اختناقه تحت وطأة الواقع القاسي الذي يحياه وتحت ضغط سلبيته. هذا اللهاث الموجود منذ بداية المشهد أيضًا يدل على أن فارس يعدو منذ زمن، ومع ذلك يبدو الطريق أمامه بلا نهاية كأنما قدره أن يظل هكذا في تعب دون طائل، يعدو دون أن يصل كأنما يجري في مكانه أو حول نفسه.

يتحول اللهاث إلى موتيفة صوتية تتكرر عبر الفيلم بعيدًا عن كوابيس فارس لتعزز من فكرة الاختناق والضياع التي يعاني منها. ربط خان في البداية فكرة اللهاث بالكابوس ثم أدخلها بعد ذلك في مشاهد واقعية وكأنه يعبر هنا عن دخول الواقع نفسه في زمن الكابوس.

في مشهد قرب نهاية الفيلم، وبعد أن قرر فارس العمل مع صديقه شعبان، يضيع فارس بسيارته الجديدة داخل حواري متداخلة بإحدى المناطق الشعبية. يتوقف فارس بسيارته للحظات بدا خلالها ضائعًا تمامًا، ثم يعلو صوت لهاثه ليملأ شريط الصوت. فكرة ضياع فارس بسيارته التي تمثل امتثاله، والطريق الجديد الذي سيسلكه، يمكن قراءتها وكأن فارس أضاع طريقه بهذا الاختيار. لكن أي طريق؟ إنه كان ضائعًا من البداية. إنه مشهد أقرب إلى نبوءة حزينة باستمرار حالة الضياع التي يحياها البطل، وأن اللهاث سيظل رفيقه الدائم الذي يصاحبه كقدر لا فرار منه.