إنه لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمارة، ولا إمارة إلا بطاعة.

بهذه الكلمات صّدر «حسين بن محسن بن علي جابر» أطروحته لنيل شهادة الماجستير من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة بالمملكة العربية السعودية، في ثمانينيات القرن الماضي، والتي نُشرت لاحقًا في كتابٍ بعنوان: «الطريق إلى جماعة المسلمين»، وعُدّ واحدًا من أهم الكتب المؤسسة لفكر جماعة الإخوان.

حظي «الطريق إلى جماعة المسلمين» باهتمام لافت، داخل الأوساط التنظيمية للإخوان، منذ طباعته للمرة الأولى في مصر عام 1987 عن «دار الوفاء» المملوكة لأحد قيادات الجماعة البارزين، بتصريح من ورثة مؤلفه الذي تُوفي بعد فترة وجيزة من مناقشة رسالته العلمية، لكن تأثيره تجاوز حدود الاحتفاء المجرد، إذ تحول الكتاب إلى واحدٍ من أهم الروافد المشكلة للعقل الإستراتيجي لجماعة الإخوان.

ويكشف التدقيق في صفحات الكتاب البالغ عددها (467 صفحة) -طبعة دار الوفاء المعروفة بالطبعة الشرعية الأولى، عام 1987- أن منهجية العمل والحركة التي اتبعتها جماعة الإخوان في العقود التالية لصدوره، تكاد تكون تطبيقًا حرفيًا للأفكار التي دونها حسين بن محمد جابر في رسالته، قبل سنوات طويلة.

بيد أن تلك الأفكار لم تكن أطروحاتٍ خالصة ابتكرها جابر بل مثلت في جوهرها إعادة إنتاج للأفكار التقليدية التي أطلقها «منظرو الإخوان» -وفي مقدمتهم مؤسسها حسن البنا، ومسؤول نشر الدعوة الأسبق بمكتب الإرشاد سيد قطب، والذي يظهر تأثيره جليًا على صاحب «الطريق إلى جماعة المسلمين»- لكن في ثوب جديد يتناسب مع طبيعة التحولات التي مرت بها الحركة خلال العقود الثلاث السابقة.

 بين قطب وجابر

ففي ستينيات القرن الماضي، كتب سيد قطب كتابه المثير للجدل «معالم في الطريق» الذي استهله بقول:

إن البشرية تقف على حافة الهاوية.. لأن العالم كله يعيش في جاهلية تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله في الأرض وعلى أخص خصائص الألوهية وهي «الحاكمية»، ولإنقاذ البشرية يجب أن تمضي عصبةٌ مؤمنة على الطريق مسترشدةً بالمعالم التي توضحه وتجليه.

ومن الفكرة السابقة، انطلق حسين بن محمد جابر في مقدمة «الطريق إلى جماعة المسلمين» الذي جعل هدفه، كما يقول، أن يبين للأمة الإسلامية أن جماعة المسلمين غير موجودة وأن عليهم جميعًا العمل على إقامة «الدولة الإسلامية» التي تكون الحاكمية دستورها وشعارها.

على أن «عودة الدين» -من منظور جابر- لا تتم إلا بعصبة/ جهد بشري منظم في إطار جماعة المسلمين، غير الموجودة الآن، وبناء على ذلك، يبدو المنطلق الأساسي لقطب وجابر نابعًا من النقطة ذاتها، فتعدد الحكومات بالنسبة لكليهما اعتداء على الحاكمية الإلهية، ودليل على غياب «جماعة المسلمين» التي لا تعترف بالتعدد ولا تقر إلا حاكمًا بشريًا واحدًا لأنها مأمورة باتباع «خليفة واحد» وقتل من ينازعه الملك والسلطان، على حد تعبيره.

البحث عن الخلافة الضائعة

وطالما كان «الخليفة المنشود» غير موجود على أرض الواقع، فالأمة آثمة ومقصرة وعليها أن تسير في الطريق الموصل لإيجاده وإعلان «الخلافة الراشدة» من جديد -كما يوضح جابر- ولا يتم ذلك إلا ببناء الفرد المسلم ثم الأسرة والمجتمع المسلم تليهما الحكومة المسلمة فالدولة الإسلامية فالخلافة التي تُوصل إلى «أستاذية العالم» بتعبير حسن البنا.

وفي هذا السياق، مثلت فكرة البحث عن الخلافة الضائعة مرتكزًا أساسيًا في عقل جماعة الإخوان، تمامًا كما شغلت حيزًا كبيرًا من البحث الذي أعده حسين بن محمد جابر، والذي سعى فيه لمقارنة الجماعات الإسلامية التي نشطت منذ إعلان سقوط الخلافة العثمانية (1924) للوصول إلى نتيجة تفضيلية عبر عرض مميزات كل جماعة وعيوبها.

وبمقارنة 4 نماذج جماعتية (أنصار السنة المحمدية، وجماعة التبليغ والدعوة، وحزب التحرير، وجماعة الإخوان)، يقرر جابر أن الإخوان هي الجماعة الوحيدة التي تتعاطى مع الدين بمفهومه الشمولي، أي أنها ليست حزبًا سياسيًا أو جماعة وعظية أو جمعية خيرية فقط، بل جماعة شاملة، كما وصفها حسن البنا سابقًا.

غير أن تلك المقارنة متعددة الجوانب، لم تهدف في أصلها إلى تفضيل جماعة الإخوان -من وجهة نظر الكاتب- فحسب، بل هدفت لصك قاعدة حركية جديدة، أصّل لها جابر في كتابه، تحظر تكوين جماعات جديدة طالما وجدت جماعة إسلامية تدعو للخلافة، لأن وجود العديد من التنظيمات والحركات سيؤدي إلى الصراع والصدام بينها، ومن ثم فالواجب على أعضاء الجماعات الأخرى أن ينضموا للجماعة الكبرى/ الإخوان، ويحاولوا إصلاح ما يرونه خللًا من الداخل.

الطريقة الشبكية في الاستقطاب

وعلى نفس الجهة، يحث كتاب الطريق إلى جماعة المسلمين على اتباع الطريقة الشبكية في الاستقطاب والتجنيد داخل الجماعات، في إطار ما يسميه بـ«الجانب التنظيمي في نشر الدعوة»، ويعني بذلك أن يقوم كل عضو بتجنيد عضو آخر وضمه للحركة، ويتولى الأعضاء الجدد ضم آخرين، بنفس فكرة «التسويق الشبكي» المعروف حاليًا.

وبعد ضم أعضاء تنظيميين، يتولى جهاز/ قسم التربية داخل الجماعة تلقينهم الأفكار الخاصة بها لـ«تحويل عقولهم» وإكسابهم المعرفة الضرورية من وجهة نظر الحركة، على أن يتم اتباع الأسلوب السري والعلني في عملية التربية، وفقًا لوضع الجماعة.

وبحسب الكتاب، تتم عملية التربية/ التكوين في الحالة السرية عبر توزيع الأعضاء على خلايا صغيرة/ أسر، يتراوح أعضاؤها ما بين الثلاثة إلى خمسة، وتجتمع الخلايا بصورة دورية في أماكن وأزمنة مختلفة، وفي المرحلة العلنية يتم التكوين بطرق مختلفة تشمل الرحلات الجماعية والمعسكرات التدريبية.. إلخ.

ويمكن إدراك التطابق في وسائل التربية والتجنيد التي يحث عليها مؤلف الكتاب، وبين نظيرتها التي تستخدمها جماعة الإخوان خلال عملية الاستقطاب والتكوين التي تهدف إلى صبغ العضو الجديد بصبغة إخوانية بحتة للحفاظ على حالة «النقاء الأيديولوجي» المتخيل داخل الجماعة.

علانية الدعوة وسرية التنظيم

إلى ذلك، يضع «الطريق إلى جماعة المسلمين» حدودًا فاصلةً للتفريق بين العمل السري والعلني، مبينًا أن كل ما يتعلق بأمور التنظيم يبقى سرًا غير معلن، أما الدعوة والأفكار فينبغي أن تكون معلنةً للناس ضمن خطة مدروسة، وبهذا يتحقق مبدأ «علانية الدعوة وسرية التنظيم» الذي يعتبر من المبادئ الأساسية لجماعة الإخوان.

وعلى صعيد الجانب السري، يحصُر مؤلف الكتاب معرفة خطة العمل على أفراد القيادة العامة/ العليا فقط، ويشدد على أن لا تكون هناك معرفة بين عموم الأفراد المنخرطين في العمل السري وبعضهم البعض، بل يتم إعطاء كل واحد منهم معلومات تتناسب مع طبيعة الدور المنوط به، تطبيقًا لمبدأ «المعرفة على قدر الحاجة».

كما يتم التركيز، خلال مرحلة العمل السري، على اختراق أجهزة الإعلام والتعليم، والاقتصاد وغيرها من مؤسسات الدولة، ليتم تكييفها مع التوجه العام للجماعة، في وقت محدد، وتتشابه هذه التوجيهات، إلى حد كبير، مع ما ورد في «خطة التمكين» التي كانت ضمن أحراز قضية «سلسبيل» الشهيرة التي اتُهم فيها عدد من قيادات الإخوان البارزين عام 1992.

وتنص خطة التمكين، كما عُرفت إعلاميًا، على انتشار أعضاء جماعة الإخوان في مؤسسات الدولة وتوظيف أجهزتها المختلفة لتحقيق أهداف الجماعة، وإيلاء تركيز خاص للمؤسسات الفاعلة والمنصات الإعلامية والدعائية.

المواجهة الشاملة في مقابل حرب العصابات

غير أن المنعطف الأخطر في «الطريق إلى جماعة المسلمين»، ليس خطة التمكين بل خطة العمل المسلح التي يسميها الكتاب بـ«إعلان الجهاد» الذي سيكون إجراءً موجهًا ضد كل من يخالف الحركة/ الجماعة، خلال مسيرتها.

ويُعلق مؤلف الكتاب إعلان العمل المسلح على وجود عوامل القوة التي تسمح للجماعة بالانخراط فيه، لأن هذا الإعلان لا ينبغي أن يتم قبل التأكد من وجود القوة والعدة اللازمة، لذا فالقيادة العليا مكلفة باتباع أسلوب «المهادنة»، طالما كان في مصلحتها.

لكن المهادنة البراجماتية، لا تسلب الجماعة حقها في الانخراط في أعمال حروب العصابات والمناوشات الفردية، بعد دراسة الجوانب والأبعاد اللازمة لها، وفقًا لتعبير علي بن حسين جابر، إلى أن تمتلك المقومات والأرض اللازمة لإعلان الحرب الشاملة بعد اكتمال العدة وتكوين الأفراد.

وتُجسد العبارات السابقة، بشكل واضح، مفهوم «العنف المؤجل» الذي يلقى رواجًا واسعًا داخل قواعد الإخوان التنظيمية، كما يمكن في ضوئه إدراك جزء من دوافع التحول إلى خيار العمل المسلح الذي انتهجته مجموعات شبابية من جماعة الإخوان، منذ الإطاحة بحكم الرئيس الأسبق محمد مرسي في يوليو/ تموز 2013.

ولعل مخزون الأفكار المتعلق بالعمل المسلح واستخدام القوة، ساهم في تحفيز وتسريع حالة الصيرورة الاجتماعية والتنظيمية لدى شباب الإخوان، وسهل إيجاد التبريرات اللازمة للعمل المسلح من داخل المنظومة الأيديولوجية للجماعة، دون الحاجة إلى استدعاء مفاهيم الكفر والردة التي تمثل إطارًا فكريًا جهاديًا بعيدًا إلى حد ما عن الإطار الفكري التقليدي للإخوان.

الخروج من ساحة المعركة

وفي حين انخرطت جماعة الإخوان وشبابها في مواجهة صفرية مع الحكومة المصرية، منذ صيف 2013، آثر عددٌ من أعضاء قيادتها العليا، الخروج من مصر والاستمرار في توجيه الحركة من الخارج، لكنهم صاغوا، في هذه الأثناء، سردية خاصة بهم قائمة على فكرة أن الخروج من مصر ليس هروبًا من المعركة بل هجرة إلى أرض جديدة وملاذ آمن يسمح لهم بمواصلة العمل لأجل «الدعوة»، مشبهةً هذا الخروج بهجرة النبي محمد من مكة إلى المدينة.

ومع أن هذه السردية تعرضت لنقد متواصل -كان آخره ما نشره الأكاديمي المصري وعضو المكتب السياسي للإخوان سابقًا خيري عمر عبر حسابه الشخصي على موقع فيسبوك للتواصل الاجتماعي- فإنها جسدت في ثناياها اقتناع قيادة جماعة الإخوان بأنها: «قيادة ملهمة ربانية تُنصر بأخطائها إن حدثت..» وأن خروجها من مصر، ليس سوى تلمس لـ«طريق جديد إلى جماعة المسلمين»، الموعودة بالنصر الإلهي حسب أطروحة حسين بن محمد بن علي جابر وغيره.