خلال عشرة آلاف سنة من تاريخه، لم ينتج هذا البلد ما هو أعظم من قن الديوك، بوسع الديوك رؤية وشم رائحة الدماء، مع علمها أنها التالية، ولا تتمرد، أو تحاول الهرب، ولقد جرى تدريب الخدم هنا لكي يتصرفوا بنفس الطريقة، فإخلاصهم قوي جداً، بحيث إنه يمكنك وضع مفتاح التحرر في يد المرء، فيرميه عليك ويشتمك!
بالرام من فيلم The White Tiger

قدمت شبكة «Netfleix» في إصداراتها للعام الجديد، فيلماً هندياً بطولة مجموعة من ممثلي بوليود ذوي الشهرة التي تحقق للعمل نجاحاً تجارياً، فالفيلم من بطولة راجكومار راو (أشوك) والممثل الصاعد آدراش جوراف (بالرام)، والحضور الأهم لوجه بوليود الجميل بريانكا شوبيرا (بينكي)، ولكن لم تطغَ تجارية الفيلم على كونه يقدم قضية مهمة بالفعل وإن لم تكن بالجديدة، ففي السنين الأخيرة تم تناول الفقر في صوره الأقبح كثيراً، ولعل أبرز تلك الصور جاء في فيلم «Parasite» الكوري الذي استطاع أن يحصد العديد من جوائز موسم 2019، ولكن تعد أصالة فيلم النمر الأبيض في كونه يناقش الفقر في مجتمع معقد ومتنوع النسيج كالمجتمع الهندي، وتاريخه دوماً يلقي بظلاله على الحاضر، الفيلم عن رواية الكاتب الهندي آرافيند أديغا «النمر الأبيض» التي حازت «البوكر» عام 2008، يتبع الفيلم نمط السرد الروائي من خلال شخص يروي لنا الأحداث، هو بالرام بطلنا في هذا الفيلم، وتأتي قصته في شكل إيميل أرسله إلى رئيس الوزراء الصيني، يقص عليه فيه قصة النجاح، في مجتمع يغرق في فساده الاجتماعي والسياسي.

عفن اجتماعي مثير للسخرية

يتبع الفيلم أسلوب تراجيكوميدي في تقديم الحكاية، فعلى الرغم من مأساوية الواقع الذي يناقشه، وجدية القضية التي يتحدث عنها، وصور الفقر والأزمات الأخلاقية لأبطال الفيلم، فإنه يقدم كل تلك المأساة بشكل كوميدي رشيق.

ويبدأ أصلاً بالسخرية من بنية القصة الهندية نفسها، وتلك السخرية هي منهاج بالرام لتشريح مجتمعه في قصته، فهو إضافة إلى كونه يثور على البنية السياسية والاجتماعية في بلاده، يثور أيضاً على البنية العقلية الميتافيزيقية المتخلفة التي تحكم أكثر من مليار إنسان في الهند بمعتقداتهم وأديانهم الغريبة، خصوصاً فيما يتعلق بمراسم الزواج وحرق الموتى والقرابين، ويعبر عن هذا بتعداده للآلهة الموجودة في الهند التي يجب أن يصلي ويخضع لها المرء، فللمسلمين إله، وللمسيحيين 3، وللهندوس 36 مليون إله، وسطوة الديني تلك نجدها حين يبدأ بالرام بالتعريف بعائلته، فيشير إلى الأفراد الأكثر تغذية فيها وهم «البقر» لرمزيتهم الدينية المقدسة، فبإمكان البقر أن تأكل حتى تمتلئ، وليس بإمكان أفراد العائلة من البشر أن يأكلوا البقر حتى إذا برزت عظامهم من الجوع.

تلك السطوة الدينية ينطلق منها للتأكيد على دور الدين أو غيابه لتشكيل رجل أعمال هندي حقيقي فيقول:

في بلدي من النافع مسايرة الجانبين، المؤمن والكافر، يجب أن يكون رائد الأعمال الهندي شريفاً وفاسداً، ساخراً ومؤمناً، ماكراً وصريحاً، وكل ذلك في نفس الوقت!

نبعت من تلك السطوة الدينية أيضاً مشكلة الفيلم، فكتاب «مانوسمريتي» يعد المرجعية القانونية الأبرز التي شكلت النظام الاجتماعي الطبقي الهندوسي، فقد برر هذا الكتاب النظام الطبقي كأساس لنظام المجتمع وشكله وآليات عمله، حيث يقسم المجتمع الهندوسي إلى أربع فئات رئيسية من الأعلى شأناً في المجتمع إلى الأحط! وعززت السياسة الكولونيالية البريطانية في الهند تلك العقيدة الطبقية التي أنتجت أسياداً وعبيداً، فقد أسندت بريطانيا المناصب الإدارية المهمة إلى الهنود وفقاً لطبقتهم التي ينحدرون منها، واستبعدت الطبقات الدنيا إلى الهوامش وأحط الوظائف، ورغم خروج بريطانيا من الهند فيما بعد، وجهود حكومات اشتراكية هندية في محاربة ذلك التفكير الطبقي، فإن المجتمع لم يقضِ على تلك الآفة، التي سببها سطوة النظام الديني على العقل الهندي، ما جعل هناك أسياداً، وعبيداً مخلصين ومسلمين إلى مصيرهم دائماً.

وحينما يتعلق الأمر بالفساد السياسي، تأتي «الاشتراكية العظيمة» وهي شخصية تقوم بدور رئيسة وزراء الهند، وهي رمزية على العفن السياسي الذي يشوب النظم السياسية في الهند، فتلك المرأة التي تزور القرى وسكانها وتكفل تعليم بعض الأطفال، لا تفعل ذلك إلا غطاءً لها ولما يدور في نيودلهي، فالاشتراكية العظيمة أو الحكومة نفسها تشكل سلطة أعلى من الخدم والأسياد، كما أنها تلعب دور السيد للأسياد، فهي تأخذ منهم الأموال الطائلة لمصلحتها الشخصية، من أجل تمرير فسادهم دون عقوبة، ولا تخطئ العين تمثال المهاتما غاندي، الذي نجد عملية رشوة تتم تحت أنظار عينيه للحكومة، إنها سخرية من تناقضات وتبجح الفساد السياسي في الهند، وبين وطأة السياسي في الحكومة، ووطأة الديني في الأعراف والتقاليد، ينزح مجتمع فقير، بطونه ضامرة، والفساد الاجتماعي بمنظومة السيد والخادم ليست إلا نتيجة لاحقة عليه، وتتجلى تلك الصورة الساخرة من المجتمع، في مشهد لبالرام يمر في أحد الطرق الواقعة خلف المباني الشاهقة، في صورة عن تجاور الغنى والفقر بكل تبجح، ورضا، يجد أحد المجانين الذي يستدعيه ليجلسا معاً أمام بعضهما، ويتبرزا في الشارع ضاحكين، يتبرزان على ذلك الواقع الأليم، الذي لا يمكن تناوله إلا بسخرية.

للمجتمع نفسه ثلاثة وجوه نرى الواقع من خلالها، نيودلهي الوجه الجميل للهند، بنغالور مجتمع الأعمال الحرة المنفتح على العولمة ووسيلة التسلق والارتقاء، أو كما يسميه كسيليكون فالي الهند، وقرية لاكسمانغار التي تعيش في الظلام، دون أضواء العاصمة المبهجة، والتي تغرق في فقر وجهل حقيقيين، وتلك القرية هي الوجه الحقيقي للهند، التي لا يتأكد فيها 300 مليون بشأن تناولهم وجبة غذائهم التالية أم لا! وحيث إن هناك 400 مليون من الهنود لا يتعدى دخله اليومي دولاراً، يعلق بالرام على ذلك الواقع قائلاً:

الهند بلدان في بلد واحد، هند النور، وهند الظلام.

نجد مجتمعاً تأقلم على تلك الحياة، حتى إن العبد يقبل عليه بابتسامة، بل إن بالرام يفرح كثيراً حين يرى شخصاً تبدو عليه مظاهر الأبهة والحضارة، فيقرر أنه سيفعل كل شيء ليكون عبداً لهذا السيد (آشوك)، إننا نجد كثيراً من المحركات للأحداث في الفيلم تعبر عن مشكلة معينة في الواقع، فحيلة بالرام لأن يكون العبد رقم 1 لسيده، تعتمد في الأساس على فضح كون السائق الأقدم مسلماً، ولكنه دأب على إخفاء تلك الحقيقة عن أرباب عمله الذين يكرهون المسلمين، وهنا تتضح لنا إحدى صور الطائفية التي تحرك الأحداث في المجتمع الهندي.

ونجد ذلك المجتمع المقسم بين أسياد وعبيد، أوجد له الأسياد آلية عمل للتحكم في خدمهم، فالسيد يستطيع ضمان ولاء عبده دائماً حتى لو أمره أن يموت من أجله، سيقبل على حبل المشنقة راضياً مستسلماً.

فالهند تخضع لنظام إقطاعي بشكل غير رسمي، فلكل قرية سيد يجبي ضرائب من سكانها ويكنز ثروة منهم، وتوظيف الخادم عنده لا يتم إلا بعد أن يلم بمعلومات عنه وأفراد أسرته، تمكنه من إحكام قبضته عليه، حتى إن أسرة الخادم تتعرض للإبادة الجماعية في أي وقت يخرج فيه عن طاعة السيد، وذلك ما يجعل الديوك لا تحاول أن تهرب من القفص، حتى وهي ترى أقرانها تتعرض للذبح والسكين على رقابهم.

آثار استعمارية

في المشاهد الافتتاحية للفيلم نجد عقدة بالرام الاستعمارية في كلمته لنظيره رئيس الوزاء الصيني قائلاً:

اعتقاداً مني أن مستقبل العالم يعتمد على ذوي البشرة الصفراء والسمراء، بعد أن قام أسيادنا السابقون من ذوي البشرة البيضاء بإهدار حياتهم في المثلية وتناول المخدرات واستخدام الهواتف النقالة، أعرض عليك إخبارك الحقيقة عن الهند من خلال قصة حياتي.

وتجد كثيراً من عبارات الخطاب بين بالرام ورئيس الوزراء على تلك النبرة التي شكلتها عقدة استعمارية لها العديد من الآثار الاستعمارية شكلت هويات أبطال الفيلم.

يستعمل الفيلم لغتين، لغة محلية هي اللغة الهندية الأم، والتي نلاحظ أن المجتمع (الخدم) في القرى النائية يستخدمونها فيما بينهم، والخدم من سائقي سيارات الأسياد في مساكنهم في مرآب الفنادق المظلمة- ما أشبهها بعيشة الجرذان- يستخدمونها أيضاً بينهم، واللغة الثانية، هي اللغة الإنجليزية، وهي لغة يجب أن يكتسبها الخادم الجيد حتى يستطيع التواصل مع أسياده، رغم أنهم هنود.

ونلاحظ أيضاً أن الأسياد ورئيسة الوزراء يستخدمون الإنجليزية كلغة للحديث بينهم على الرغم من هنديتهم، ولغة التعليق الصوتي على الفيلم هي لغة إنجليزية أيضاً، يستخدمها بالرام بصفته «رجل أعمال» وهي تدل على ارتقائه الطبقي، والنقلة التي تعرض لها.

إن اعتماد الإنجليزية كلغة للإنتلجنسيا الهندية، واستخدامها في الفيلم تعبيراً عن الواقع، يعود بنا إلى مشروع بريطانيا الاستعماري في الهند، المعروف باسم «أبناء ماكولي» نسبة إلى توماس ماكولي أحد أعلام السياسة البريطانية في القرن التاسع عشر، والذي رأى أن الأفضل من قمع الهنود هو محو هنديتهم من خلال إذابتهم بتعليم اللغة الإنجليزية وجعلها لغتهم الرئيسية، فنتجت عن ذلك طبقة منفصلة عن أبناء مجتمعها ومشاكله، تتعلق بذيول بريطانيا، وتتحدث لغتها، فلا عجب إذن أن نراها لغة الأسياد من رجال الأعمال والساسة في الفيلم، ونفهم إيحاءها بكونهم منفصلين تماماً عن مشكلات واقعهم.

كما أن أبناء ماكولي هؤلاء في الفيلم في شكلهم الحديث، نجدهم متمثلين في جيل جديد، صورته «السيد آشوك» وزوجته «بينكي»، وهو الجيل الذي تخطى الثقافة البريطانية، وتحلى بثقافة وريثتها الولايات المتحدة، فنجد أن بينكي وآشوك في ظهورهما في الفيلم كشخصيتين لهما رابط الاسم والشكل مع المجتمع الهندي، ولكنهما منفصلتين عنه وعن ثقافة أسياده البائدة أنفسهم، ويتشدقون بطرق «الأمريكان لايف ستايل» وهو ما يسبب لهم، ولبينكي بالأخص مشاكل في الانخراط مع هذا المجتمع، ومن خلال نظرة بينكي للمجتمع يمكننا أن نرى مشكلة الخدم الحقيقية، في أنهم عبيد دون صفة العبودية الرسمية، متنكرون تحت وظيفة الخدم والسائقين.

ثقافة السيدة بينكي والسيد آشوك الأمريكية، رغم أنها محاطة بسياج من الوهم يفصلها عن الانخراط في مشكلات المجتمع، إنها تكسب بالرام نوعاً من الصدمة الثقافية تساعد في اتساع حدقتي عينيه في رؤية الأشياء والمجتمع من حوله، ورغم أن تلك الثقافة تحمل في طياتها مبادئ إنسانية تنال احترامنا، مثل لا يحق لك أن تضرب الخادم، والخادم إنسان مثلك، وهو صديق لك، ولا تناديني بسيدي نادني باسمي، ومن خلال بالرام نستطيع أن نرى نظرة الاستهزاء التي يواجه بها مجتمعاً يقبع في فقر مدقع وجهل، فيتحول السادة في نظرهم إلى مجموعة من السذج الغفل بثقافتهم الغربية، فنجد بالرام يقوم بمجموعة من الحركات الدينية التي لا معنى لها على الإطلاق بوصفها طقساً محلياً، لتلك الشجرة التي استراح عندها بوذا، ونجد وراءه السيد آشوك وبينكي يقومان بنفس الأمر، بمتعة استشراقية وكأنهما يخوضان مغامرة في غياهب الماضي.

وسرعان ما تكشف تلك الثقافة عن استعلائيتها وتنهار، فنجد السيدة بينكي تفقد أعصابها حين يقدم بالرام مشروباً إلى صديقتها ويتصرف تصرفاً شعبياً بحك شعر عانته، فتبدأ باحتقاره وتوبيخه، لكنها تعود إلى صوابها، ونجد أن تلك الثقافة عند آشوك أيضاً تنهار عند حد ما، فسرعان ما يتكشف له عطب الوسائل الاقتصادية والمعادلات التي درسها، والتي لن تساعده على حل مشكلات أسرته، ما دام هناك طريق أقصر وأنجع في الهند، هو الرشوة.

أما بينكي نفسها فتنهار في النهاية بثقافتها الغربية أمام الطريقة التي تسير بها الأمور في الهند، وتقرر الهرب، بعد أن نفخت روح الحياة في بالرام الخادم، فهي لا تستطيع أن تستمر في العيش في الهند بعد أن تكشَّف لها زيف منظومتها الأخلاقية، واستعلاءها عن مجريات الأمور في الشارع الهندي، فعند أول اصطدام بالواقع، بمعناه الحقيقي والمجازي، تجد بينكي أن بالرام سيسلك مساره الطبيعي كعبد ليحمل الجرم عن أسياده، وهو ما يجعلها تنهار تحت ثقل وطأة ضميرها، وتهرب عائدة إلى أمريكا، لتستمر في عيشة الحلم الأمريكي، ما دام الواقع الهندي كابوسياً.

نمر أبيض لكل جيل

يظهر بالرام في المشاهد الأولى في الفيلم كرجل أعمال، ويستخدم المخرج تقنية التعليق الصوتي على الأحداث، ليؤكد لنا تجرد بالرام من تلك الشخصية التي يحكي عنها، وعلينا أن نتابع قصته بحذر وتركيز، لتكتمل أمامنا سيرة التحولات التي شكلته على هذه الصورة في النهاية.

من المشاهد الأولى يتبدى لنا بالرام كطفل مميز وسط أقرانه في الفصل، لأنه يجيد الرطانة بالإنجليزية أفضل منهم، ونرى ملمح التميز الذي يجعلنا نرى لماذا هو العبد الذي سيتم اصطفاؤه ليكون محوراً لرواية الفيلم، لأنه يمتلك ثقافة فطرية وذكاءً سيمكنه من التعامل مع الأسياد، سيصبح له الشأن لأنه يعرف الحيوان الذي يظهر مرة واحدة في الأدغال كل جيل.

بالنظر إلى بالرام، لا تجد أنه نموذج يمكنك التعاطف معه، وإن كنت تتعاطف مع قضيته، حتى في هيئته الشكلية، فبقصر قامته يؤدي دور العبد البهلواني ممحو الكرامة، ولهجته الآلية الطيعة في مخاطبة أسياده يتلفظها دون أي أثر لكرامة كانت تجري في دمائه يوماً ما، بالرام لا يمثل لنا نموذج الفقر المكافح الذي نحب أن نراه، فهو ليس شخصية محبوبة ولا يفعل أي شيء من أجل أسرته، ويضرب طفلاً لا ذنب له سوى أنه نقل إليه خبراً غير سار، ويمارس عليه نوعاً من أنواع السيادة المعكوسة، أو يصرخ في وجه سيدة عجوز تطلب منه إعطاءها صدقة، فيوحي لنا بأننا نتعامل مع إنسان فقد آخر ذرة من مشاعر العطف والنبل، التي يتسم بها الفقير الطبيعي في الحياة، وفي السينما التقليدية.

ولا يتسنى لبالرام أن يشعرنا بالرثاء تجاهه أيضاً، فهو يمتلك الذكاء والثقافة اللذين يجعلانه يحاول الخروج من إطار العبودية، وتتهيأ له يد المساعدة لفعل ذلك من السيدة بينكي، ولكنه لا يفعل ذلك في الفترة الأطول من الفيلم، فيتحول إلى شخصية مستفزة، فيصبح متخلفاً عن العالم، ليس بوصفه ضحية الظروف، كما أنه صاحب موهبة لا تنضب حين يتعلق الأمر بإيذاء فقير آخر مثله واستفزاز مشاعره، كأن يتسبب في طرد رفيقه من العمل ليصبح العبد رقم 1، أو أن يستفز العامة الذين هو منهم لأنه أصبح سائق سيارة وهم مكدسون في أتوبيس، وبالرام في رأسه يمتلك خطة على الدوام لفعل شيء ما، ولكنه لا يحاول فعل شيء أبداً يتسبب بإيذاء أسياده، بل إنه يراعيهم بما أزيد مما هو مطلوب منه، ويسهر على راحة السيد آشوك، لدرجة تجعله يشكك في ماهية ولائه، هل هو مصطنع أم حقيقي؟ ويواجه نفسه بهذه الحقيقة قائلاً:

هل نكره أسيادنا بينما نتظاهر بمحبتهم؟ أم نحبهم بينما نتظاهر بكرههم؟

تتكون لدينا صورة باردة عن بالرام، فنحن نعلم أنه مهما تعرض للإهانات ومحق الكرامة فلن ينفعل، لن يبدر منه أكثر من هزة كتف تستخف بعثرة حظه، ويتابع طريقه ويمضي، ربما تخونه دمعة من عينه وتترقرق في مآقيه، ولكنه يكبح ذلك الشعور الإنساني فيه، وينقذ عبوديته قائلاً: «حاضر سيدي».

أحياناً يعجبنا ثباته، والهدوء الروحي الذي يغمره في وجه المحنة، فخفة خطوته ورشاقته التي لا تهتم إلى درجة اللامبالاة، تجعله ينفذ أمام أي مسار وعر يتعلق بمحق كرامته دون أن يصدر عنه أدنى دلالة خرقاء على الخوف أو الشعور بالمهانة، بل إنه يتراجع إلى مصاف العبد دوماً حينما يحاول أسياده: السيدة بينكي والسيد آشوك أن يعاملاه كإنسان له فردانيته، يذهلنا بمواقفه المتراجعة أمام إنسانيته، والتفافاته المفاجئة السريعة التي تعيده إلى مصاف العبيد، يعطينا بالرام طيلة الفيلم شعوراً بأن إمكانات نجاحه وارتقائه ليست مشجعة على الإطلاق، وهو أيضاً لا يعطينا انطباعاً بالفشل، لا يمكننا أن نتوقع له أكثر من مسار عادي، ولهذا فهو فخور بنفسه وواثق بقدراته على أن يكون عبداً مثيراً لإعجاب الأسياد.

وتلك السمات التي يظهر بها بالرام أمامنا على الشاشة في أغلب الفيلم تجعلنا نكتسب بلادة أمام توقع المسار الذي اتخذه طريقه في الحياة، تجعلنا مستسلمين أمام بلادته ولا نروم إلى رؤيته ينفجر أمام إهانة ما مهما بلغت قسوتها، لذلك نظل في حيرة أمام تلك الصورة التي رأيناه عليها في البداية، ونتساءل: ما الذي مكن هذا العبد الذي يجد كينونته في عبوديته، من أن يكون رجل أعمال؟

عند لحظة ما من لحظات الفيلم نبدأ بالإيمان أن بالرام يعاني من حالة تماهٍ بالمعتدي، وتلك إحدى الأوليات الدفاعية التي تستخدمها الأنا لمجابهة القلق، فتلك العدوانية التي نخشاها أيما خشية، ونخشى خطرها علينا عند إحساسنا بالعجز عن التصدي لهذا الخطر بقوانا، نبدأ في لعب دور عدواني، ونتمثل العدوان لحسابنا ونصبه على ضحية أخرى، على كائن أضعف منا في حالة من نفي خوفنا وضعفنا وإسقاطه على الآخرين، وهذا ما يفسر تلك القسوة غير المبررة التي يتعامل بها بالرام مع أي إنسان يتبدى له أنه أضعف منه.

ولكن يصر المخرج عند مشاهد معينة أن يجعلنا نتوقع أن بالرام لم يتكشف لنا حتى الآن، وأننا لمَّا نتمكن من شخصيته بعد، ففي بعض المشاهد يأتي بسلوكيات غير متوقعة أمام أسياده، كأن يدفع السيد آشوك ويصرعه أرضاً، أو يبدأ في الاحتيال عليه، وعند تلك النقطة من الفيلم يصبح سلوك بالرام غير متوقع، ومفعماً بالدوافع والرغبات المتناقضة، وبالنظر إلى كل ما سبق وما أصبح عليه الآن، تصبح شخصية بالرام مرسومة بتعقيد مفرط بالنسبة إلينا، تعقيد ينتجه مجتمع معطوب كالذي أتى منه، ولا نتعجب، وعند لحظة ما نبدأ في الشعور بعدم الارتياح إلى تصرفاته وعواقبها، ويخرج من قالب الشخصية النمطية المألوفة المتراجعة أمام قوة السيد إلى شخصية قادرة أفعالها على إرباك حساباتنا، ويصبح شخصاً ذا طموح حينما تغادره السيدة بينكي، بل إنه تصبح لديه الرغبة في أن يكون شخصاً مرموقاً، ورغبة في كسر نير عبوديته، ولكن تظل نقطة من الغموض أمامنا، فليست لبالرام تراتبية هرمية ثابتة لخياراته والمراحل التي يجتازها، ولا سبيل لمعرفة الخطوة التالية التي سيقدم عليها، حتى تأتي ذروة التحول الأخير في شخصيته.

لأن رابطة العبد والسيد المفعمة بالولاء الشخصي بدأت تتراجع بينهما لعلاقة موظف برب عمله، والقشة التي ستقصم ظهر البعير هي حين يشعر بالرام بأنه يفقد ميزته كعبد لصالح عبد جديد، لأن سيده ينوي استبداله، وهنا تتجمع كل مشاعر بالرام بالإنسانية من جديد حين يشعر أنه على وشك فقدان ما يميزه كشخص، في أن يكون عبداً مختاراً.

من هنا يبدأ بالرام في استعادة وعيه بإنسانيته، حين تنظر عيناه في عين النمر الأبيض، فتعاد مشاهد من حياته، لأبيه تحديداً، الذي مات وهو لم يمت، ولكنه تقدير طبي خطأ بسبب افتقار الريف النائي لمؤسسات طبية، فكان أبوه يحترق أمامه في جنازته دون أن يموت، وصورة أخرى لجدته التي تمثل في تراتبية هرم العبودية، أَمَة سيدة للعبيد، فهي عاشت تستنزف مجهودات أبيه، وأخيه من بعده، وكأنها تمثل رمزاً للأرض، للهند القاسية التي لا تموت، ولكنها تعيش على استنزاف مجهودات أبنائها دون مقابل، ومشهد للسيدة بينكي التي نفخت فيه من روح الليبرالية الأمريكية ومبادئها المدعاة، ومشهد للسيد آشوك الذي انهار أمام قيمه التي يؤمن بها وقرر أن يصفع بالرام، في مشهد يعبر عن جوهر تلك الثنائية الذي لن يموت، فحتى لو كان آشوك يحاول أن يأنسن سيادته برباط صداقة مع عبده، فذلك لن يمنع من انهيار سد قيمه الليبرالية حينما يحاول عبده أن يعامله كند له.

ويفقد بالرام الوعي من تتابع مشاهد حياته، ويفيق، ويبدو كأنه استعاد إنسانيته من جديد، والتي لا مفر من تحقيقها إلا بتطهير أرسطي له وللمشاهد.

التطهير الذي نراه من خلال فعل القتل، ولا يمكننا أن نتعاطف مع القاتل ولا المقتول، هو الثيمة السينمائية الجديدة، التي تتحقق من خلالها ثورة الفقر بوجهه القبيح، الفقر الذي زاد وتمادى، وفي مجتمع العولمة ورأس المال أصبحت له أشكال جديدة وسَّعت الهوة، كل ذلك جعل الفقر متعطشاً للدماء، وتخلى عن اعتناقه القديم لعدالة الخير والشر، فالمهم الآن هو أن تقتل، ليس من أجل الانتقام فقط، بل من أجل العبور، فجاز لنا أن نسميه فقيراً ميكيافيلياً، لا يقتل لأن القتل في ذاته يمثل انتصار قضيته العادلة، لكنه يقتل للاستيلاء، وللارتقاء.

فبالرام لا يسعى إلى إحداث ثورة اجتماعية، بل يبحث عن أن يوجد مكاناً له في المجتمع، لن يتحقق إلا بالمال، وسيصعد درجات السلم معتمداً على الفساد الذي ينخر المجتمع كالسوس، فرغم أنه قاتل مطلوب، فإن دفعة من الأموال كرشوة للشرطة في ولاية أخرى كفيلة بأن تجعل الضابط وكأنه لم يره، ولمَ لا؟ فوجوه جميع الهنود تتشابه!

سيصعد بالرام ليكون رجل أعمال، ليكون سيداً، ويبني مملكة النمر الأبيض بقوانين أكثر عدلاً، للسائقين الذين يعملون في شركته، وينتهي الفيلم في تلك المنطقة الرمادية، لسيد فقير قاتل فاسد، ولكنه عادل، فلو أن الهروب من قن الديوك له ثمنه، فذلك الثمن لا يتحقق، إلا بالانغماس في فساد المجتمع حتى النخاع.