أكثر ما يعلق بالذاكرة عقب مشاهدة الفيلم الجديد للمخرج التركي نوري جيلان «شجرة الكمثرى البرية – The Wild Pear Tree»، والذي يمتد لما يزيد على الثلاث ساعات، هو لحظات الصمت والتأمل القليلة فيه. تتبخر معظم الحوارات الطويلة والثرثارة في بعض الأحيان، ويبقى أثر حفيف أوراق الشجر، هبوب الرياح، نظرة تحد، دمعة رضا، وقبلة ممتدة كتب عليها أن تكون وحيدة، تمامًا كثورة كتب عليها الهزيمة قبل أن تبدأ.

لم ينجح الفيلم في حصد أي من جوائز مهرجان كان 2018 والذي عُرض الفيلم ضمن مسابقته الرسمية، وهذا أمر جديد على جيلان الذي حصدت أفلامه جوائز كان في كافة مشاركاته السابقة. لكن الجوائز ليست كل شيء خصوصاً حينما نتحدث عن صانع سينما بحجم جيلان، الذي يعتبره الكثيرون واحداً من أمهر السينمائيين الذين لا يزالون على قيد الحياة.

يحتفظ جيلان بجملة حوارية تحمل رمزية الفيلم ليخبرنا بها قرب نهايته. يخبر الأب ابنه عن شجرة الكمثرى البرية، التي دائمًا ما تكون وحيدة، غير متماشية مع ما حولها، وغير مهندمة الشكل أيضًا. هكذا يشعر بطلا الفيلم، وهكذا يشعر بعض مشاهديه أيضًا.


الآباء والأبناء: عن الجذور والآبار

تدور الحكاية عن شاب، يسمى سِنان، قد أنهى دراسته وهو الآن في مفترق طرق لاختيار مستقبله. يتمنى سِنان (الذي يقوم بدوره الممثل التركي الشاب دو ديمركول) أن يصبح كاتباً روائياً، فيما يبدو أن مساره الطبيعي سيكون بالعمل كمدرس ابتدائي عقب تأدية الامتحان المؤهل لذلك، وهي وظيفة والده الحالية (الذي يقوم بدوره مراد شمشير) والتي يقضي فيها شهوره الأخيرة قبيل وصوله لسن التقاعد.

يبدأ الفتى الطريق الذي ينهيه والده. ويبدو للجميع أن العائق الأهم أمام هذا الفتى وأسرته هو أن والده لم يعد جديراً بالثقة ولا الاحترام، خاصة بعد أن أصبح مدينًا للجميع نتيجة إدمانه على المقامرة في سباقات الخيول.

دو ديمركول هو في الأساس مؤدٍ للعروض الكوميدية، ومراد شمشير هو ممثل تليفزيوني كوميدي، لكن جيلان قرر أن يختارهما هنا ليؤديا دورين دراميين مركبيّن، ويبدو أن رهانه عليهما لم يكن خطأً.

تبدأ أحداث الفيلم بكادر نرى فيه سِنان من وراء زجاج تنعكس عليه جزئياً صورة البحر. يفضل جيلان هذا الكادر ويكرره. نتذكر هنا كادر البداية في فيلمه الشهير «حدث ذات مرة في الأناضول»، نبدو وكأننا نستعد لبدأ حكايتنا بالتلصص على سِنان، وشيئًا فشيئًا نصبح ملازمين له، يدخلنا بيته، حجرته، ويطلعنا على الأسرار التي لا يعرفها غيره.

نرافق سِنان في رحلته، التي يتلخص معظمها في ثلاثة مشاهد طويلة، نرى من خلالها علاقته المضطربة بجذوره الاجتماعية والدينية، شغفه الشديد بالكتابة الأدبية المختلط بشكه في جدواها وصدقها، وأخيرًا حبه الذي اكتفى باعتصار قطرات منه قبل أن يتركه مهزومًا ومستسلمًا.

وفيما يتنقل سِنان في هذه الرحلة يرافقه كثير من الجمل الحوارية وكثير من الثرثرة المرهقة لنا ولشخوص الفيلم. يظهر والده كشخص متصالح مع خيبات عمره ولكنه كما يصفه ابنه «ثائر دائم ضد سخافات الحياة». رجل متعب ولكنه غير مؤذ، يملك أثرًا من وسامة انتهى زمانها، وقليلًا من خفة الدم التي تتحول لسخرية من نفسه والآخرين في بعض الأحيان.

يتشاجر الفتى في صخب مع جذوره طوال أحداث الفيلم، فيما يبدو الأب متصالحًا متجاهلًا لكل هذا، يخرج ما لديه من طاقة في محاولة حفر بئر تبدو جافة بلا مياه. وفي لغة التحليل النفسي للأحلام (التي نشاهد شذرات منها خلال أحداث الفيلم) يبدو من يحفر بئرًا كمن يحلم بأن يصبح لحياته مغزى. وهكذا يفنى المرء عمره على أمل أن تخرج المياه من الآبار التى يحفرها، إما هذا وإما تصبح الحياة بلا معنى وحينها يظهر الانتحار كوسيلة وحيدة ليشعر المرء بقدرته على الفعل.


سينماتوغرافيا الخريف ولحن غير مكتمل

كان كما لو كان في مكان قد نسيه العالم بأكلمه، كما لو كانت تثلج قبل نهاية الدنيا.

الروائي التركي أورهان باموق – رواية ثلج

الصورة عند جيلان لاعب أساسي رغم تكدس الحوار في أفلامه الأخيرة المأخوذه عن نصوص أدبية، ومنها فيلمه هذا المأخوذ عن ثمانين صفحة كتبها «أكين أقصو». يسخر البعض من طول الحوارات التي تنتقل لنا عبر عشرات السطور من الترجمة، لدرجة يمكننا معها أن نتفهم جملة «لقد قرأت هذا الفيلم بدلاً من مشاهدته».

يبدو جيلان نفسه مدركًا لهذه الحقيقة فنشاهد أحد الشخصيات تنام من فرط الممل وسط أحد هذه المشاهد، فيما ينتهى مشهد آخر بصراخ أحد الشخصيات نتيجة ضجرة من طول الحوار وكثرة الأسئلة. لكننا وعقب نهاية الفيلم ونهاية لحظات الضجر والملل ينتقل إلينا مغزى الرحلة التي مر بها سِنان والتي انتقلت به من فتى مزعج وثرثار، لرجل مدرك لخيبات الحياة، أكثر هدوءاً وأنضج تعبيراً.

سِنان أيضا يتشابه كثيرا مع جيلان نفسه، وحينما يتقابل الفتى مع رجل أعمال متثاقف يدفعه دفعًا للكتابة عن بلدته بشكل سياحي يمكننا دون شك أن نشعر بنفس الثقل على كاهل جيلان وهو أشهر مخرجي بلاده، يسخر الفتى من الجانب السياحي كما يسخر جيلان نفسه من الدراما التركية التليفزيونية ذات الأداء المصطنع والذي يرينا لمحة منها على التلفاز في أحد المشاهد.

تنقل لنا الصورة هذه الرحلة أيضًا، بكل ما تحمله في باطنها من مشاعر الوحدة والعزلة وعدم الانسجام، كادرات جيلان في أغلبها تحوي شخصًا واحدًا، يظهر صغيرًا في كادر بعيد تملؤه الطبيعة، الجبال، الطرق، الأشجار، والثلوج حينما تصل الرحلة لنهايتها.

يأتي الشتاء ويذهب سِنان في تتابع النهاية ليزور والده في عزلته، تندف السماء ثلجًا، يتملك الصمت من الجميع، يغلف العزلة والنسيان كل شيء، يتصالح الفتى مع أبيه فيتصالح مع ماضيه ويرى فيه مستقبله، ليضعنا جيلان في النهاية في اختيار صعب بين نهايتين، كادر داخل البئر من زاوية علوية، ونحن من نختار أيهما حلم وأيهما حقيقة.

على عكس هذا تظهر الصورة دافئة ومضيئة حينما يقابل سِنان في مشهد سابق وبشكل مفاجئ هاتسى، الفتاة التي نعلم أنه أحبها في يوم ما من خلال حوار ذكي ومليء بالإشارات، والتحدي الذي يحمل في باطنه الرغبة، ينتقل الحوار بين الضحك والبكاء والغضب والرضا.

تثور هاتسي قبيل أيام من زواجها بكهل يملك الذهب، ثورتها تمتد لدقاثق تدخن فيها سيجارة برفقة سِنان، ثم تنتقل كاميرا جيلان لتنقل لنا قبلتهما الوحيدة المسروقة من زاوية كاميرا علوية، كاميرا «عين الطائر» أو كما يسميها البعض «عين الإله»، تحرك الرياح شعر الفتاة تحت أوراق شجر القيقب الذهبية، تضغط شفتيها على شفتي سنان فتجرحه، وكأنها تأخذ حقها من الحياة عنوة قبل أن تضع حجابها وتعود لأسرتها التي ستزوجها بعد يومين وهي ترتدي غطاء يخفي وجهها وليس شعرها فقط.

طوال الحكاية يختار جيلان أن تصحابنا موسيقى بسكاليا باخ في لحظات قليلة، فيما تحدث معظم المشاهد دون موسيقى تصويرية. نستمع للموسيقى فقط حينما تتوقف الثرثرة، وحينما يتوقف أيضًا صوت الطبيعة.

بسكاليا باخ هنا غير مكتملة، نستمع دائمًا لمقدمة اللحن دون أن نصل للحظة الذروة فيه، وهذا ما يقدمه لنا جيلان في فيلمه، إيقاع هادئ لحياة تسير على مهل، بشر تضغطهم بيئتهم، في عالم قاس تبدو القاعدة فيه ألا أحد يعمل ما يحبه، لا تتحقق الأحلام، تتحطم رءوس الثائرين تحت هراوات من لم يجدوا عملًا رائجًا آخر سوى القمع، ويتباهى المتدينون بأن وجود الإله ضرورة بينما يأكلون من شجرة محرمة. هذه هي الحياة، إما أن تتكيف معها وإما أن تتركها أو تنعزل، تمامًا كشجر الكمثرى البرية.