«القادمون من الخلف» هو أحد التعبيرات التي صكها المعلق الرياضي الشهير ميمي الشربيني، وعكف المعلقون الرياضيون من بعده على استخدامه للتعبير عن محاولات لاعبي الخطوط الخلفية لاختراق صفوف المنافس والتصويب على مرماه، في مهمة استثنائية يقومون فيها بأدوار المهاجمين على خلاف تصنيفهم.

مع انتعاش حركة إنتاج الدراما التلفزيونية بدأت شركات الإنتاج تولي اهتماماً أكبر للعروض الأولى خارج الموسم الرمضاني العتيد. وعلى امتداد السنوات الماضية شاهدنا عدداً كبيراً من الأعمال التلفزيونية التي قدمت عروضها الأولى خارج الموسم التقليدي. كان الموسم الرمضاني الأخير قد شهد تراجعاً كبيراً في عدد الأعمال الكوميدية المعروضة والتي انحصرت في عملين هما «أحسن أب» بطولة علي ربيع، و«فارس بلا جواز» بطولة مصطفى قمر، وكان من المقرر عرض مسلسل «عالم موازي» بطولة دنيا سمير غانم قبل أن يتم الإعلان عن تأجيله بعد إصابة بطلته بعدوى فيروس كورونا.

وفي مقابل هذا الفقر الكمي والنوعي في الأعمال الكوميدية بالموسم الرمضاني، فقد شهدت الأشهر القليلة السابقة عليه عدداً من الأعمال الكوميدية خارج الموسم، وهي مسلسل «اللعبة» من بطولة هشام ماجد وشيكو، ومسلسل «حلوة الدنيا سكر» بطولة هنا الزاهد، ومسلسل «أبلة فاهيتا دراما كوين» إنتاج شبكة «نتفليكس» العالمية. أما أبرز هذه الأعمال مسلسل «في بيتنا روبوت» أول التجارب التمثيلية للمنتج والمؤلف الموسيقي هشام جمال، والتي كانت تجربة موفقة للغاية في ظل التراجع الواضح في مستوى الأعمال الكوميدية في الفترة الأخيرة، ولهذا قررنا التوقف عندها.

خارج التصنيف

من الظواهر المصرية المثيرة للتأمل في صناعة الفن، وضع حدود فاصلة بين صناع الأعمال الكوميدية وصناع الأعمال التراجيدية أو الميلودرامية سواء في السينما أو التلفزيون، وبناء عليه يتم تصنيف العمل ابتداءً من خلال الرجوع لتصنيف صناعه من الممثلين والمخرجين والكتاب. ولهذا تمثل الاستثناءات النادرة ظواهر صغيرة لدى الجمهور كأن يقدم ممثل كوميدي التصنيف دوراً درامياً مثل محمد سعد في فيلم «الكنز»، أو أحمد مكي في مسلسل «الاختيار2».

في الوقت نفسه تبقى عملية التصنيف هي المسوغ الوحيد أحياناً لاعتبار عمل ما كوميدياً حتى وإن لم يقدم أي كوميديا حقيقية. على مدار المواسم الرمضانية الأربعة الأخيرة، قدم الممثل علي ربيع أربعة مسلسلات من بطولته، إضافة إلى عدد من الأفلام والمسرحيات في الفترة نفسها. تكاد كل هذه الأعمال تتطابق إذ إنها تعتمد بالأساس على الشخصية أو البرسونا التي اشتهر بها علي ربيع في «مسرح مصر» والتي يظهر بها إعلامياً، غير أن الشاهد أن كل هذه الأعمال تخلو تماماً من أي كوميديا حقيقية، وتعتمد بشكل كبير على النكات اللفظية وطريقة الأداء الثابتة التي لا يخرج عنها علي ربيع مع اختلاف الأعمال والشخصيات.

أحد أبرز الأعمال التلفزيونية الكوميدية في الموسم الرمضاني لعام 2020 مسلسل «100 وش» الذي حقق نجاحاً كبيراً واعتبره الجمهور مفاجأة سارة للغاية، والسبب في ذلك أنه جاء خارج التصنيف المعتمد. المسلسل من بطولة نيللي كريم وآسر ياسين ومجموعة من الوجوه الحديثة نسبياً، ومن إخراج كاملة أبو ذكري. مثل التعاون بين كاملة أبو ذكري ونيللي كريم إحدى أنجح الثنائيات الفنية في السنوات الأخيرة عبر مجموعة من الأعمال الناجحة مثل «بنت اسمها ذات»، و«سجن النسا»، والتي تنتمي إلى التراجيديا الاجتماعية، ومن ثم أسهم خروج «100 وش» عن التصنيف المقرر لصناعه، في تعظيم أثره على الجمهور.

مسلسل «في بيتنا روبوت» هو عمل شبابي بامتياز، فجميع صناعه بدأوا مسيرتهم الفنية قبل أعوام قليلة، بداية من المخرج وليد الحلفاوي في ثالث أعماله، والمؤلفين أحمد محيي ومحمد المحمدي اللذين اشتركا في كتابة عدد من الأعمال التي تفاوتت في جودتها ونجاحها. أما طاقم التمثيل الرئيسي فلا يضم من الأسماء المعروفة سوى شيماء سيف وعمرو وهبة، إضافة إلى بطل العمل هشام جمال الذي اشتهر من خلال عمله كمؤلف للموسيقى والأغاني في عدد من الأعمال الكوميدية مثل «لهفة»، و«نيللي وشريهان»، و«في اللالا لاند».

حداثة التجربة الفنية لأغلب صناع المسلسل وضعتهم خارج التصنيف، ومنحتهم قدراً أكبر من الحرية في التجريب والخروج عن المتبع والتقليدي بداية من فكرة المسلسل غير التقليدية ومعالجته الذكية لعدد من القضايا الاجتماعية، مروراً باختيار طاقم تمثيلي من الشباب والأسماء غير المعروفة، وانتهاء بالتنفيذ التقني المتقن لعدد من المشاهد الصعبة. يأتي كل ذلك على خلاف من هم داخل التصنيف ولا يمتلكون شجاعة الخروج عن مساحتهم الآمنة، ولا يتورعون عن تكرار الأفكار السطحية والشخصيات المبتذلة والأحداث المفتعلة لتكون المحصلة أعمالاً غير مستساغة ولا تمت للكوميديا بصلة.

كوميديا الخيال العلمي

يدور المسلسل حول شخصية المهندس يوسف الذي يقوم بابتكار تقنية للذكاء الاصطناعي واستيراد مجسم لإنسان آلي لتطبيق هذه التقنية. تفشل المحاولة الأولى مع الروبوت الأنثوي «زومبا» فيقوم يوسف باستيراد مجسم جديد ويطلق عليه اسم «لذيذ». التباين ما بين درجة الاستجابة والذكاء بين زومبا ولذيذ تخلق كثيراً من المفارقات الكوميدية الجيدة، وتعطي مساحة واسعة للمزيد من كوميديا الموقف التي يمثلها تفاعل الروبوتين مع الشخصيات المختلفة من حولهم. 

أجاد الكتاب رسم الشخصيات الثانوية المختلفة بالشكل الذي يزيد من جرعة الكوميديا في أبسط المواقف. فهناك هدير سكرتيرة يوسف التي تقع في حب لذيذ دون علمها أنه إنسان آلي، وهو ما يعطي مساحة مختلفة وجديدة لمعالجة قضايا العلاقات العاطفية، وهناك أيضاً زوجة يوسف التي تحاول النجاح في أي مشروع تجاري عن طريق استغلال الروبوت «زومبا» بعد استغناء الزوج عنها لضعف استجابتها، وكل هذه المواقف والشخصيات تنتظم في حبكة رئيسة مستمرة تدور حول سعي يوسف لتوفير مبلغ من المال لاستعادة شركته بعد استيلاء شريكه عليها.

تجدر الإشارة هنا إلى أن ثنائي الكتابة، أحمد محيي ومحمد المحمدي، كانت لهما تجربة مثيرة من نوع الفانتازيا في أول أعمالهما الفنية المسلسل الكوميدي «فيس أبوك» الصادر عام 2014، والذي تجسد شخصياته منصات وتقنيات تكنولوجية حديثة مثل محرك البحث جوجل، أو شخصيات أخرى مثلت تقنيات تكنولوجية مثل لايك، وإنبوكس، وبرايفاسي. تجربة جديدة ومتقنة إلى حد كبير لكن للأسف لم يكتب لها النجاح.

على المستوى البصري، قدم مسلسل «في بيتنا روبوت» العديد من الأفكار المبتكرة جيدة التنفيذ، بداية من الأداء الجسدي الرائع لكل من عمرو وهبة وشيماء سيف، والاعتماد على الكتابة على الشاشة للتعبير عن أفكار زومبا ولذيذ، كما أن تنفيذ بعض المشاهد على المستوى التقني أضفي طابع الواقعية على شخصيات الروبوت، من ذلك مثلا مشهد الحادثة التي تتعرض لها زومبا والذي ظهر بشكل يوحي بثقل كتلة زومبا في مواجهة السيارة المسرعة. كلها عناصر كفلت التماهي مع الشخصيات بما يعظم من أثر الكوميديا.

الفكرة الجديدة والمعالجة الذكية كفلت المزيد من مساحات الكوميديا الطازجة، منها على سبيل المثال عجز الروبوتات عن فهم المجاز اللغوي، والتعامل مع اللغة بشكل حرفي، وهو ما تسبب في الكثير من المواقف الكوميدية. كما أجاد كتاب المسلسل معالجة القضايا الاجتماعية في شكل كوميدي في حلقات مثل الخيانة الزوجية، أو عبر التفاصيل الدقيقة لنشاط شركة يوسف ومحاولة توظيف الذكاء الاصطناعي في مختلف الأنشطة التجارية بشكل مقنع إلى حد كبير وغير بعيد عن روح العصر.

على مستوى الأداء التمثيلي واختيار طاقم التمثيل، وفق صناع المسلسل إلى حد كبير بما يجعل من عنصر التمثيل أحد العناصر البارزة والمميزة في المسلسل. ممثلين مثل طه دسوقي (قام بشخصية علاء) في أول أدواره التمثيلية، ودنيا سامي في دور هدير، ومي دياب في دور خادمة الأم، ومحمد أوتاكا في دور عرفة، فضلاً عن بطل المسلسل هشام جمال الذي قدم أداء مقبولاً إلى حد كبير، إضافة إلى شيماء سيف التي أجادت الأداء الصوتي بشكل مبهر، وعمرو وهبة الذي أتقن الأداء الجسدي، جميع أبطال المسلسل أجادوا أدوارهم وشابهوا شخصياتهم إلى حد كبير، وهو ما مثل إضافة كبيرة أسهمت في نجاح العمل ككل.

جيل جديد وكوميديا جديدة

شهدت بداية الألفية الجديدة بزوغ نجم جيل جديد من نجوم الكوميديا استأثروا بنسبة كبيرة من المشهد السينمائي وأطلق عليهم النقاد تعبير «المضحكون الجدد». نجوم أمثال محمد هنيدي، وعلاء ولي الدين، ومحمد سعد، وأحمد حلمي، تصدروا المشهد لسنوات طويلة نسبيا. ثم جرت المياه في نهر الكوميديا وبدأت موجة جديدة سيطر فيها شكل البارودي من خلال تجربة أحمد مكي، والثلاثي أحمد فهمي وشيكو وهشام ماجد. ثم توقفت المياه عن الجريان على مدار السنوات الماضية، مع استمرار الجيل الأقدم في الوجود لكن من خلال أعمال مترهلة واصلت الفشل في شباك التذاكر، ومحاولة الجيل الأوسط في التجديد التي قد تنجح أحيانًا وتفشل كثيرًا. وعلى الهامش استمرت أسماء جديدة في الظهور من خلال أشكال تقليدية يغلب عليها السطحية.

في الشهور القليلة التي سبقت موسم رمضان لهذا العام شهدنا عدداً من التجارب الجيدة، عودة هشام ماجد وشيكو بالجزء الثاني من مسلسلهما الناجح «اللعبة»، والذي يعتمد على فكرة فانتازية جديدة وإن افتقرت إلى البعد الاجتماعي المكمل لفن الكوميديا. ودخلت شبكة «نتفليكس» العالمية إلى المعادلة من خلال مسلسل «أبلة فاهيتا دراما كوين»، مسلسل قصير من 6 حلقات يغلب عليه الطابع البوليسي ويقدم كوميديا الشخصية بشكل جيد. أما مسلسل «في بيتنا روبوت» فيغرد منفرداً ويقدم تجربة طازجة من نوع كوميديا الموقف التي اختفت لسنوات طويلة من الأعمال المصرية، اعتماداً على نوع شديد الصعوبة وغريب على المنتج المحلي والمشاهد المصري هو الخيال العلمي، وعبر مجموعة من الوجوه الجديدة في الإخراج والكتابة والتمثيل، يأتون من خارج التصنيف التقليدي، وينطبق عليهم تعبير الكابتن ميمي الشربيني الأثير، «القادمون من الخلف».