التشكيك في أصالة أعمال الكاتب الإنجليزي «وليام شكسبير» جدل لا ينتهي منذ زمن طويل، رأى بعض النقّاد أنه سارق ماهر بنى مجده، وانتحل كل مسرحياته وشخصياتها من كتب وقصص الآخرين، بينما رأى بعضهم أنه يعيد كتابة التاريخ والقصص بطريقته وأسلوبه الخاص الذي يتمكن من خلاله من تبديل كل شيء في القصة الأصلية، ورأوا أن ذلك أمر كافٍ للتأكيد على عبقريته وتفرده وتمكّنه من صنعته.

وفي ظل هذا الجدل الأدبي والتاريخي الذي أثاره الباحثون وكبار الأدباء، تبرز مجموعة من الأسئلة التي نحاول الإجابة عليها: هل وليام شكسبير سارق أم مقتبس؟ أم كاتب بارع يستوحي أعماله من الآخرين؟ ومن هم – أصلاً – الذين استقى شكسبير منهم مسرحياته؟


هل أعظم كاتب في العالم هوأفضل منتحل في التاريخ؟

خصّص الكاتب الكبير «عباس محمود العقاد» فصلين كاملين في كتابه «التعريف بشكسبير» لتناول قضية مصادر مسرحيات شكسبير، وفنّد حجج وأسانيد واستدلالات كل طرف، ليصل إلى نتيجة مفادها أن شكسبير ليس سارقًا؛ لأنه وفقًا لعصره «لم يخالف العُرف المتفق عليه».

يروي العقادفي كتابه ما ذكره الزعيم السياسي الإنجليزي «جون هامبدن» في حق شكسبير الذي عاصره:

إن شكسبير لم يخترع موضوعات رواياته، بل كان يأخذ القصص والشخوص والحوادث حيثما اتفقت له وراقت لديه، ومنها على سبيل المثال روايات سابقة، وتراجم من بلوتارك، وحكايات من الإيطالية يُعلَم أنها معروفة بين النظارة، ولكنها في عصرنا تحسب في عداد السرقات التي لا تطاق.

يوضح العقادهذه الإشكالية بشكل تفصيلي، فيروي قصة على لسان الشاعر الإنجليزي «جون ماسفيلد»، بخصوص اتهام مبكر وقع ضد شكسبير بشأن سرقته لمسرحية «تيتوس أندرونيكس»من مؤلف آخر، إذ قيل في الاتهام إن شكسبير «لم يزد عليها غير بعض التنقيحات في تصوير الشخصيات الهامة».

ويرد ماسفيلدعلى هذا الاتهام، قائلاً:

لا يساورنا الشك في أن شكسبير كتب قليلاً من هذه الرواية، لا ندري أين ومتى، غير أن الشاعر لا يقترف الخطيئة في حق فنِّه ما لم تقسره الضرورة، وما كان شكسبير ليزاول هذا العمل حبًا وكرامة عن طيب خاطر… ويجوز أن الرواية وصلت إلى شكسبير بوصاية من مدير مسرحه وهو يقول له كلمات بهذا المعنى: لدينا قطعة رديئة، رديئة جدًا، لولا أنها قد تنجح، وأود أن أعرضها وأبدأ بتوزيع أدوارها توًا. ألا تستطيع أن تعالجها؟ أرجو أن تجتهد فيها اجتهادك، ولو أنشأت لها كلمات هنا وفقرات هناك عند الحاجة، ومهما يكن من أمر فأرجو أن أتلقاها منك يوم الاثنين.

يوضح العقادفي بحثه الذي قدمه عن شكسبير وأعماله في هذا الكتاب، أن هذا ما كان عليه التأليف المسرحي وقتذاك، وهو أن يسأل الناس أنفسهم كلما قرأوا قصة جديدة أو قديمة أو تعرضوا لحادثة تاريخية: «كيف تكون هذه القصة إذا شاهدناها على المسرح؟ وكيف تبدو إن كتبها ذلك المؤلف أو مثّلها ذلك الفنان؟ وكيف تتراءى مناظرها وتقع كلماتها وراء الستار في هذا المسرح أو ذاك؟»

ويضيف في هذه النقطة بالتحديد:

هذا ما كان عليه معنى التأليف المسرحي ومعنى التجويد فيه، فإن التجويد فيه قد كان يستدعي إعادة النظر فيما كتب للمسرح ولم يظفر بالرضا والاستحسان من النظارة والنقاد، ومن صنع ذلك فقد لبّى الطلبة ولم يخالف العرف المتفق عليه.

وهذا إذا كان يعني شيئًا، فهو يعني أن وليام شكسبير كان لا يتردد في الاستعانة ببعض الحبكات الثانوية من أكثر من مصدر ويضيف عليها وأحيانًا يبدلها تمامًا، مع ذكر المصدر أو الإشارة إليه سريعًا أحيانا. ويقول البروفيسور الإنجليزي كينيث ميور، في كتابه «مصادر مسرحيات شكسبير»المنشور عام 1977، إن شكسبير تأثر كثيرًا بمن قبله، وأن هناك كثيرًا من التشابهات سواء في الصورة أو الجملة أو فكرة المشاهد أو حتى في المحادثات العارضة، بينه وبين سابقين.

وذكر ميورفي دراسته التفصيلية داخل هذا الكتاب المصادر وقصص الآخرين التي استقى منها شكسبير حبكات مسرحياته، مع ترتيب زمني تقريبي لكل مسرحية كتبها، لتتبع مراحل نموه ومهاراته في صنعة الكتابة الشعرية والمسرحية.


من أين استقى شكسبير مسرحياته؟

يؤكد البروفيسور ميور أن المصادر التي استمد منها شكسبير حبكات مسرحياته مختلفة، تتنوع ما بين الأحداث التاريخية، والروايات الرومانية، وأساطيرها والأحاديث الشعبية، وقصص الكتّاب الذين سبقوه، وأنه كان يعتمد على أكثر من مصدر في حبكته حتى يخرج بالشكل النهائي الخاص به، وقد يحذف شخصيات رئيسية من الأحداث التاريخية المعروفة، وقد يغير فيها، وأحيانًا يقلبها تمامًا، لا لشيء إلا لأنه قد يرى أنها لن تخدم حبكته وقصته.

عطيل

تعتبر مسرحية «عطيل» من أشهر الأعمال التي قدمها وليام شكسبير، من نوعية المسرح التراجيدي، ويجمع الباحثون على أنه اقتبسها من قصة وردت في مجموعة من مائة قصة طويلة «Hecatommith» لكاتب إيطالي يدعى جوفاني باتستا سنثيو. ويرجح الباحثون أن شكسبير قد اطلع عليها بالإيطالية بدليل وجود «أصداء لفظية» مباشرة في النص كما ذكر ميور.

أما عباس العقاد، فيرجح أن شكسبير قد قرأها بالفرنسية، وقال إن هذه القصة قد كتبها سنثيو بالفعل ضمن قصته المئوية على منهاج «ألف ليلة وليلة»، ويرجح العقاد أن اسم عطيل إذا ترجم إلى العربية مع تحريف قليل سيقابله اسم «عبد الله»، فيما يرى آخرون ومنهم جبرا إبراهيم جبرا في ترجمته للمسرحية أن ما روج له العقاد ليس دقيقًا، وأن اسم عطيل موجود في اللغة الإيطالية ويعني «الحذر».

وقارن الدكتور محمد العناني، مترجم المسرحية عن طبعة الهيئة العامة المصرية للكتاب، بين حبكة القصة الإيطالية ومسرحية شكسبير، وتبين أن شخصية «ياجو» لا تكنّ – في القصة الأصلية – للمغربي أي كراهية، وأن دافعه الأول هو اشتهاء «دزدمونة» في البداية ثم كراهيته لها في النهاية، فهو يبغي هلاكها لا هلاك زوجها، أما شكسبير فقد حوّل الحبكة إلى محور صراع آخر بين عطيل ودزدمونة.

ومن الاختلافات أيضًا التي أدخلها شكسبير على القصة الأصلية، إضافة شخصية «رودريجو»، فهذه الشخصية لم يكن لها نظير في القصة الأصلية، ويقول العناني إن شكسبير استفاد من القصة الأصلية في كل شيء ما عدا هذه المحاور.

مكبث

تعتبر مسرحية «مكبث» من أقصر التراجيديات عند شكسبير، وهي تحكي عن قائد أسكتلندي يقتل الملك ليجلس على عرشه. يؤكد الباحثون والدارسون أن المصدر الرئيسي لهذه المسرحية هي سجلات المؤرخ «رفائيل هولينشيد». فشخصية مكبث حقيقية وليست من وحي خياله، إنما لها جذور تاريخية ومصادر عديدة اعتمد عليها شكسبير ليخرج في النهاية أشهر مسرحياته.

يقول البروفيسور ميور في كتابه، إن هناك عدة مصادر أخرى ثانوية اعتمد عليها شكسبير لتعزيز الموقف الدرامي والتاريخي لمسرحيته، وهي اكتشافات المؤلف «ريجنالد سكوت» للسحر وعلم الشياطين؛ إذ اعتمد عليها شكسبير لإثراء الموقف الدرامي للمسرحية.

بينما يذكر العقاد في كتابه عدة مصادر أخرى لهذه المسرحية، فيقول:

ولكن يرى عديدون أن هناك الكثير من التعديلات الدرامية التي أجراها شكسبير على ما استند إليه من مصادر القصة الحقيقية وكتابات المؤرخين؛ إذ أضاف أبعادًا أكثر إثارة مما هو موجود في المصادر، وخلق موضوعًا بوصف معقد لشخصية ماكبث. كما أن هناك تعديلات عديدة أجراها لأغراض سياسية، إرضاء لمعتقدات ملك إنجلترا وقتها، وهو الملك جيمس الأول، وهذا ما يتضح في المسرحية التي نقل فيها مشاعر واضحة تخص العرش؛ إذ أكد خلالها أن العرش حق إلهي للملوك وأن التعدي عليه أو محاولة اغتصابه بمثابة جريمة شنعاء ضد البشرية.

ترويض النمرة

تعرف هذه المسرحية لشكسبير بأكثر من اسم: «ترويض النمرة»، «ترويض الشرسة» و«ترويض السليطة»، وهي من أبسط روايات شكسبير، التي تتحدث عن رجل لديه ابنة شرسة، تقوم بأفعال جنونية كلما تقدم أحد لخطبتها.

ويذكر البروفيسور ميور أن هناك ثلاث نظريات بشأن مصادر هذه المسرحية التي كتبها شكسبير في فترة مبكرة من حياته: النظرية الأولى تقول إن هذه المسرحية من وحي خيال شكسبير الخالص، وأنه المصدر الرئيسي لها. وتقول النظرية الثانية إنه انتحل بعض حواراته داخل المسرحية من شعر أبو التراجيديا الإنجليزية «كريستوفر مارلو». بينما ترجح النظرية الثالثة أنها مأخوذة من مسرحية مفقودة.

لكن ميور، يرجح أن شكسبير قد استعان بالعديد من المصادر لكتابة هذه المسرحية، ومنها قصص ألف ليلة وليلة، ومجموعة من القصص المفقودة لريتشارد إدوارد، واقتبس بعض الخيوط من قصة للإيطالي ريتراتو أريستو، بعنوان «I suppositi». وهو نفس ما ذكره العقاد في كتابه، إذ قال إنها تشبه قصة للإيطالي أريستو، لكن العقاد لم يذكر اسم القصة، وقال إن شكسبير يصف المرأة العصية المتمردة، كاترينا، بنفس الوصف الذي وصفه أريستو في قصته.

وأضاف العقاد أن مصدر هذه المسرحية أيضًا يعود إلى قصة مجهولة ظهرت سنة 1549، وبعض شخصياتها كشخصية السكير التائب منظور فيها إلى قصص ألف ليلة وليلة.

هاملت

تعد مسرحية «هاملت» أهم مسرحية لدى شكسبير وأطولها وأشهرها، لكن يجمع الباحثون أنها مستمدة من مصادرة عدة. ووثق العقاد في كتابه مصادر هذه المسرحية، إذ قال إنها مأخوذة من رواية ضائعة كتبها «توماس كيد»، والذي أخذ أحداثها من كتاب فرنسي بقلم «فرانسوا بلفورست»، لكن البروفيسور ميور يقول إن الترجمة الإنجليزية لهذا الكتاب الفرنسي لم تظهر قبل 1608، وأن شكسبير كتب هاملت في 1600، ومعنى ذلك أنه اطلع عليها بالفرنسية، وهذا يعني أنه كان يتكلم الفرنسية بطلاقة أو أنه استخدم مصدرًا آخر.

وتقول مصادر أخرى إن شكسبير استند على أسطورة شمالية من تأليف «ساكسو جراماتيكس» في اللاتينية حوالي عام 1200 ميلادي، تتحدث عن صعود وسقوط حكام الدنمارك، وفي إحدى هذه القصص قصة الملك روريك من الدنمارك الذي يضع ثقته في شقيقين، ويتم تعيينهما في سلطة عليا بالبلاد، يتزوج أحدهما ابنة الملك، لكن الثاني يشعر بالغيرة، فيقرر قتله بعد أن أنجبا ابنهما، الذي بدوره يكبر ويخطط للانتقام من عمه.


مصادر مسرحيات أخرى

لا يبعد أن شكسبير أخذها من المصدر اللاتيني الذي اعتمده هولينشيد، وهو تاريح أسكتلندا، تأليف هكتور بويس، العالم الأسكتلندي الذي تولى تدريس التاريخ زمنًا بجامعة باريس، وقد ترجم كتابه إلى الإنجليزية سنة 1563، ولكن شكسبير مزج القصة بطرف من أخبار الملك داف، التي اشتملت على خبر مفصل عن مقتل الملك بيد نبيل من زعماء دولته، ومرجع الرواية التي كتبها شكسبير بعنوان تيموني الأثيني، إلى عدة مواضع من سيرة مارك أنتوني وسيرة ألسبيادس في كتاب بلوتارك.

يقول عباس العقاد إن جميع مسرحيات شكسبير لها مصادر عديدة، وكل مصدر منها في الواقع إنما هو جزء صغير من مصادر منوعة يحيط به من طرق الاطلاع أو من طريق السماع، وأنه لا يخلو عمل له من إلمام بالحكايات الشعبية والأساطير المروية عن السحرة والأرواح الخفية.

وهناك مسرحيات شهيرة مثل «روميو وجوليت»، فهي مأخوذة بحسب ما ذكره العقاد عن قصة شعرية للأديب الإنجليزي «أرثر بروك» المتوفى سنة 1563، وكتاب «قصر المتعة» لوليام بينتر، وقد جمع فيه طرائف منوعة من القصص والأخبار الإيطالية الحديثة والرومانية القديمة.

وكذلك رواية «الملك لير»، إذ يعتبر العقاد أنها تعود إلى مصادر متعددة وملاحم شعرية، ومنها مسرحية لمؤلف مجهول بعنوان «الملك لير وبناته الثلاث» التي كتبت سنة 1594، ولم تنشر قبل سنة 1605، واستعان شكسبير أيضًا بملحمة وارنر، المنظومة في وقائع التاريخ بالجزر البريطانية.

وليس ما عرضناه هي فقط المسرحيات التي اقتبسها شكسبير، لكنها مجردة أمثلة، فأغلب مسرحياته لها أصل ومراجع عديدة، ويمكن الاطلاع على كتاب «التعريف بشكسبير» للعقاد، أو «مصادر مسرحيات شكسبير» لكينيث ميور، اللذين اعتمدنا عليهما، وهناك مراجع عديدة أخرى بحثت في ذلك الأمر باستقصاء شديد المنهجية.