لقراءة الحلقة السابقة


كنت طالبًا في كلية الآداب، وكنا نقيم في شقة رخيصة فقيرة في حي شعبي قريب من الجامعة. طعامنا هو ما نأتي به من القرية أو هو الفول وعلب السردين. كنت أحب مطالعة رواية الأيام لطه حسين؛ لأنها تعطيني بعض الأمل أن هذه البداية قد تقود لنهاية طيبة. كان معنا طالب حقوق وطالب طب ومعظمهم من قريتي..

لم تقع أحداث مهمة طيلة سني الكلية إلا أنني قابلت طالبًا اسمه سيد الدرهيبي. كان هذا اسمًا عجيبًا غير مألوف، وقد أخبرته بأن له قريبًا مدفونًا في قريتنا اسمه عزت الدرهيبي. اندهش جدًا ووعدني بأن يسأل أهله عن هذا الجد، وأعتقد أننا صرنا صديقين حميمين ..

بعد أسبوعين التقينا فكررت سؤالي عن جده غريب الاسم، فقال في عصبية:

«لقد سألت الكبار .. هناك تفاصيل كثيرة، لكن أنصحك أن تنسى هذا الرجل. هناك أشياء إن تبد لكم تسؤكم. من مصلحة الجميع أن ينسوا هذا الرجل، وأبي يذكر القصة بشكل ضبابي، لكنه أوصاني ألا أتعمق في الأمر ..»

تساءلت في فضول:

«أنت أشعلت تطلعاتي ولم تطفئها .. بعد كل هذا الذي قلته لا أحسبني سأفكر في أي شيء غير عزت الدرهيبي وقبره»

قال الفتى وهو يبتعد:

«وأنا أعرف الآن أنه قريبي .. وأنصحك أن تنساه تمامًا إذا أردت الاحتفاظ بصداقتي!»

كان الأمر يفوق قدراتي على التحمل.

انتهت سنوات الدراسة .. أرجو ألا تتحرك كثيرًا فهذا يشتت ذهني فلا أستطيع استكمال القصة. هل ترغب في لفافة تبغ؟. لا بأس … هذا يريح أعصابك قليلاً وإن كان يسبب لي مشكلة. سيكون الأمر عسيرًا.

أقول إن سنوات الدراسة انتهت ووجدت نفسي معلمًا في مدرسة صغيرة في بلدة مجاورة، وقد تمكنت بكثير من الجهد والوساطة أن أعمل في مدرسة ببنها. تعلمت التدخين كما ترى، ومعه تعلمت أشياء كثيرة. الإقامة وحدك في مدينة مع أصدقاء تدفعك لتجربة عدة أشياء .. ليس كلها مستحبًا …

بالإضافة لهذا كنت قد وقعت في حب «مي» المدرسة الحسناء زميلتي في المدرسة، وقد عرضت عليها حبي فلم تبد معترضة. لكنها كانت تنتظر اللحظة التي أتقدم لها طالبًا يدها من أبيها، وكنت أخشى هذه الخطوة جدًا لأنني أدرك أنني مفلس تقريبًا .. لا أحتكم إلا على راتبي. إن مقابلة أبيها براتبي هذا نوع من الإهانة للرجل بلا شك.

في النهاية تشجعت وذهبت لأقابل أباها ومعي أخي الأكبر، وكانت جلسة ناجحة لأنني بذلت الكثير من الوعود المالية .. وعود لا أملك قرشًا منها، وكان أخي ينظر لي في دهشة وحيرة عاجزًا عن الاعتراض .. لا يريد فضائح هاهنا ..

عندما غادرنا الدار بعد قراءة الفاتحة، كان موشكًا على فقدان الوعي وقال لي:

«أنت تورطت وورطتني معك في وعود مستحيلة»

قلت في غموض إنني سأعرف كيف أتصرف ..

لكني في النهاية جربت الاقتراض من كل أصدقائي ومن كل جهة يمكنها أن تقرضني .. لا جدوى هنالك .. لا أحد يعطيك مالاً في هذا العالم .. كنت أشعر باختناق وازددت عصبية.

لابد من طريقة لصنع المال في هذا العالم. هناك السرقة وهناك الميراث وهناك الزواج من حيزبون ثرية وهناك الذهاب للعمل في الخليج.. وكلها خيارات غير متاحة لي. واضح أنني سأعود إلى مي لأخبرها أني عاجز وأطلب منها أن تعتذر لأبيها على ضياع وقته.

على أنني في تلك الليلة نمت مهمومًا، وفي المنام رأيت رجلاً فارع الطول يصعب أن أميز وجهه، وكان يتقدم نحوي عبر مقابر مظلمة يغطي الضباب شواهدها، وكان يمد يده لي. يردد بصوت عميق:

«عد إلى الدرهيبي .. أنت تعرف الجواب».

شعرت بحاجة شديدة إلى أن ألحق به وأمد يدي له. في الوقت نفسه كنت أتهيب اللقاء. عندما صحوت من النوم كنت غارقًا في العرق البارد وشفتاي كانت جافتين كالقش. أمسكت بكوب الماء جوار الفراش وجرعت منه.

سيد الدرهيبي .. يجب أن أجده وأعرف ما يعرفه .. لكن كيف ألقاه ثانية؟ هو ليس من قريتي. على الأقل أعرف أنه مدرس وأنه خريج نفس كلية الآداب. كنا صديقين أيام الكلية كما عرفت، لكن بشرط ألا أذكر سيرة قريبه الغامض.

حان الوقت لإعادة التجربة. أنا ناضج اليوم وأعرف أنها هراء على الأرجح، لكني في ظروف تجعلني أجرب كل شيء.

هكذا عدت لقريتي فقضيت يومًا عاديًا مع الأصدقاء والأقارب .. عندما جاء المساء أخذت الكشاف ومشيت وحدي نحو المقابر. لم يكن من داع للكشاف لأن قمرًا حزينًا باهتًا كان يطل على المكان، ويراقب كل شيء. جواره ذلك النجم الذي يسمونه (أخت القمر). وكانت بعض الذئاب تعوي من بعيد بصوتها الكئيب الباعث للرهبة. أحفظ جيدًا الطريق إلى قبر عزت الدرهيبي الذي ألهب خيالي في الماضي، ولو جئت أنت قريتنا فلسوف تعرفه على الفور من طابعه المخيف وخلو المساحة حوله من أي نبات.

سوف أجرب حظي مرة أخرى. لا تلمني فقد أخبرتك بالمأزق الذي أمر به.

يُتبع…