كثير من العناصر التي تعرف السينما كما أعرفها توجد في أفلام مارفل، ما لا يوجد هو الإلهام، الغموض أو الخطر الشعوري  الصادق، لا يوجد شيء على المحك، الأفلام مصنوعة لتلبية مجموعة محددة من الطلبات، تم تصميمها كتنويعات على مجموعة محدودة من الموضوعات.
مارتن سكورسيزي

في عام 2019 قبل ما تضرب العالم موجات من الوباء القاتل، قبل أن تهدد دور العرض السينمائي بالإغلاق التام، وقبل ما يتغير شكل الحياة الاجتماعية كما نعرفها، صرح المخرج الأمريكي الشهير مارتن سكورسيزي بأن أفلام مارفل يصعب تصنيفها تحت بند السينما، بل هي أقرب إلى الحدائق الترفيهية Theme Parks، فُتحت النار على سكورسيزي وتم اتهامه بأنه عجوز خرف يريد للزمن أن يتوقف وأن يعود التطور للخلف، بعدها بأيام كتب سكورسيزي مقالًا يوضح به تصريحه الناري، بلطف وهدوء بل ورقة ومسحة من الحزن، فصل السينمائي الشهير أسباب رؤيته التي تبدو قاسية، منها كون تلك الأفلام معدة سلفًا لتلبية بعض النبضات الشعورية المتوقعة، وانعدام الرؤية الشخصية بها، وإن وجدت تلك الرؤية يتم سحقها، كما توسع نقده لنظام الأستوديوهات وطبيعة الإنتاج نفسه واحتكار دور العرض واقتصارها على مجموعة محددة جدًا من الإنتاجات السينمائية.

مع مرور الوقت وبعد ثلاثة أعوام على ذلك المقال في جريدة «نيويورك تايمز»، أصبح تأثيره أعمق وأكثر تأثيرًا وكأنه نبوءة مبكرة عن سقوط استوديو مارفل المحبوب من جنة النجاح التي تربع على عرشها، أصبحت كلمات سكورسيزي أكثر دقة وأسهل تطبيقًا على إنتاجات مارفل الجديدة التي لحقت تصريحه، مع الوقت اضمحلت الرؤية في الأفلام والمسلسلات، وقلت جودة المؤثرات البصرية، أصبحت القصص أكثر نوعية وتكرارًا، وتم تفريغ الشخصيات من كل دافع شعوري صادق أو خطر ضخم يحدق بهم، فقد الموت معناه وفقد المرض جديته، أصبح الحب كلمة خاوية والشر يمكن علاجه بكلمة طيبة.

يمكن تطبيق مقال سكورسيزي أكثر من أي شيء آخر على الجزء الرابع من سلسلة ثور، ثور: الحب والرعد، Thor: Love And Thunder، أخرج الفيلم النيوزيلاندي المرح الشهير تايكا واتيتي وهو مخرج الفيلم السابق من السلسلة: ثور راجناروك، والذي وصف بأنه أضفى روح مرحة ومغامرة على السلسة التي طالما وصفت بالمملة، في الحب والرعد يمتد المرح لكن لا توجد مساحة لأي شعور حقيقي أو خطر يمكن أن يحرك من يشاهده، كل دافع شرير أو طيب، كل مزحة وكل جملة تعبر عن الحب أو الكراهية، الخير والشر تبدو مولدة رقميًا وكأن لم تلمسها يد إنسان.    

ميم مدته ساعتان

كثير من الأفلام الآن هي منتجات مثالية مصنعة للاستهلاك الفوري، كثير منها مصنوع بعناية على أيدي فرق من الأفراد الموهوبين، لكن مع ذلك، تفتقد تلك الافلام شيء جوهري يميز السينما، وهو الرؤية الموحدة للفنان الفرد، لأن، بالطبع الفنان الفرد هو العنصر الأكثر مخاطرة بين كل العناصر.
مارتن سكورسيزي

يمكن وصف تايكا واتيتي بالمخرج المؤلف، لسهولة تمييز عناصر متكررة وأنماط يتبعها في صناعة أفلامه حتى الأكثر كوميدية وهزلية منها، مقاربته للشر والخير على الرغم من سطحيتها في كثير من الأحيان فإنها تعمل داخل العوالم التي يخلقها، يملك حس دعابة وقدرة على السخرية من الأنواع الفيلمية بل والسخرية من أكثر الشخصيات التاريخية رعبًا وشرًا مثلما فعل بهتلر في فيلمه جوجو رابيت Jojo Rabbit ، في ثور: الحب والرعد يكثف واتيتي كل اهتماماته فيفقد كل ما يميزه، كل شيء يتحول لمزحة فلا يبقى ما يضحك في النهاية، كل المشاعر مصنعة ومعلبة لكي تحرك الحبكة للأمام، حتى البصريات تبدو رخيصة وكأنها جزء من مشروع صغير طلابي وليس فيلمًا صادرًا من شركة بمليارات الدولارات.

(974) Marvel Studios’ Thor: Love and Thunder | Official Trailer – YouTube

مشاهدة ثور الحب والرعد هي تجربة أشبه بمشاهدة ميم مدته ساعتان على الإنترنت، هو تجميع لكل الملاحظات الساخرة على الأساطير القديمة الإغريقية منها والاسكندنافية،  وكل المزحات التي تسخر من الأبطال الخارقين وقوتهم، يحول واتيتي كل شيء في فيلمه إلى بارودي (محاكاة ساخرة)، لكنه ليس بارودي ناجح لأنه لا يملك الذكاء ولا الطزاجة التي يجب أن تميز المحاكاة الساخرة، فكل مزحة في السيناريو فكر فيها من عدة سنوات شخص مجهول على الإنترنت وأصبحت قديمة الآن، كلنا سخرنا من شبق الإله زيوس وهوسه بالجنس، ومن كمال ثور (كريس هامزوورث) الجسدي وغبائه الاجتماعي.

بجانب الكوميديا التي لا تحقق مبتغاها، يتم التسويق للفيلم على أنه حكاية تدمج ما هو نسوي مع ما هو تقليدي ورجولي، قبل عرض الفيلم نشرت صور ناتالي بورتمان في دور جين فوستر بعدما تحولت إلى بطلة خارقة ذات عضلات مفتولة باسم ثور العظيم Mighty Thor، وتم بالطبع التسويق لتمثيل الأقليات في شخصية فالكيري (تيسا تومسون) فهي ملكة ومقاتلة وامرأة ملونة ذات توجه جنسي غامض، لكن عند مشاهدة الفيلم يمكن بسهولة التقاط التكاسل والميكانيكية التي تم تطوير تلك الشخصيات بها لبيع فانتازيا متنوعة عرقيًا وجندريًا.


يبدأ خط جين بمفاجأة أنها مريضة مصابة بسرطان في المرحلة الرابعة، ويتم بالطبع إلقاء المزحات على المرض وخطورته، ثم ومن دون أي مقدمات يتم مناداتها من سلاح الميولنير الذي فقده ثور، فتصبح بطلة خارقة في خمس دقائق، لديها مهارات قتالية وعضلات ذراع فاتنة وشعر أشقر طويل ولامع، يستخدم الفيلم المرض لكي يعطي نهاية بطولية غير مستحقة أو محضر لها لشخصية جين التي طالما تم انتقادها بسبب هوسها بثور القوي الضخم وضعف كتابة شخصيتها وسذاجتها، فبدلًا من تطوير تلك الشخصية تم إلقاء بعض العضلات ومرض مميت عليها، فأصبح التعاطف معها ضروريًا لكنه ليس حقيقيًا أو صادقًا.

أما شخصية فالكيري فهي مجرد وعاء رمزي للتنوع المقحم، تؤدي تيسا تومسون شخصيتها بثقل وتكاسل وربما حتى عدم اقتناع وكأنها تؤدي وظيفة تتعجل للخروج منها، لا روح حقيقية ولا اهتمام بما تمثله شخصيتها، ينطبق ذلك على معظم الممثلين في الفيلم مرورًا بالاسم الأكبر والأكثر شهرة كريستيان بيل الذي يؤدي دور الشرير المتعطش للدماء والانتقام “جور”، يختفي بيل تحت طبقات من مستحضرات التجميل والمؤثرات البصرية وتضيع عليه فرصة لعب شخصية مثيرة للاهتمام تملك طبقات من الأداء، فهو أب مكلوم وشخص يفقد إيمانه في لحظة فيقرر الانتقام من كل إله على الأرض، لكن تأتي الشخصية متوقعة ومبتذلة، شرير ضاحك ونحيف، غامض لكنه ليس مؤثرًا أو متميزًا.

يحل الفيلم  معضلاته الأساسية ويتخلص من الشر بقوة الحب، فالحب كما يظهر من العنوان هو تيمته الرئيسية، ينهزم الشر بقوة الحب ويعود للأبطال أرواحهم الحية بفضله، لكن مثل كل شيء في الفيلم وبحسب كلمات سكورسيزي فإن ذلك الحب مصنع ومفصل تحديدًا لخدمة متطلبات محددة للغاية دون أي سعي لجعله مستحقًا أو مؤثرًا.

ماذا يبقى بعد الحب؟

بالنسبة لي، وبالنسبة للسينمائيين الذين أحبهم وأحترمهم، وبالنسبة لأصدقائي الذين بدأوا بصناعة الأفلام في الوقت ذاته معي، كانت السينما عن الإلهام- الجمالي، العاطفي والروحي، كانت عن الشخصيات، عن تعقيد هؤلاء الأشخاص وطبيعتهم المتناقضة بل والمتراكبة، كيف يمكن أن يجرحوا بعضهم البعض ويحبون بعضهم البعض، ويواجهون أنفسهم فجأة.
مارتن سكورسيزي


لا يجب على الأفلام أن تكون جدية مئة في المئة لكي تكون شخصياتها معقدة ومتكاملة، لكي تكون مشاعرهم حقيقية ومشاعر كاتبيها صادقة، أفلام مارتن سكورسيزي نفسها غالبًا ما تكون مرحة، تملك لحظات من الكوميديا التي لا تنسى وتدمج الخفة مع الثقل والكوميديا مع التراجيديا، فيلم ثور: الحب والرعد وأفلام تايكا واتيتي عمومًا تتسم بخفة واضحة، بنزعة نحو نزع القداسة عن المشاعر وعن الأحداث التاريخية، ينجح ذلك المنهج أحيانًا مع وجود بعض التحفظات عليه، لكن في فيلمه الأخير لا يوجد منهج، يوجد استخدامات عملية واضحة وسريعة للمشاعر البشرية.

في بداية الفيلم تظهر شخصية بيتر كويل (كريس برات) بطل فيلم حراس المجرة – وهو فيلم آخر يستخدم أداة المحاكاة الساخرة لأفلام الأبطال الخارقين لكن يملك الحد الأدنى من الاهتمام الذي يجعلنا نتورط في مشاعر الأبطال – ينصح كويل ثور بفتح قلبه، بأن يختبر أسوأ المشاعر في مقابل الحب بدلًا من أن يشعر بها في الفراغ، يتبع ثور نصيحته، يسعى إلى الحب، إلى العودة لحب حياته، ينقذ العالم بكلمات الحب، يتخلص من الشر بالحب، لا يوجد صعوبات أو تناقضات أو تعقيدات، الشرير بعدما قتل عدة آلهة وحبس مجموعة من الأطفال وعرضهم للموت يتأثر بكلمات رقيقة، لا يوجد في الفيلم أو في أجوائه ما يجعل الشرير بتك الخفة فهو ليس شريرًا ساخرًا أو هينًا بل هو خطر مظلم محدق، يصبح كل فعل يدل على الحب خاوي واستهلاكي، وموت أو حياة الأبطال غير مفاجئ ولا يعني أي شيء غير الوصول للنهاية المكتوبة، وهي انتصار الحب واستعادة ثور لروحه.

كان من الممكن بسهولة لثور: الحب والرعد أن يصبح رحلة ممتعة مليئة بالروك والرول، بالبصريات الملونة والأفكار السردية الجريئة، أن يكون فيلمًا خفيفًا، مضحكًا،  نسويًا، ضخمًا وحميميًا في الوقت نفسه، لكن النتيجة النهائية تشبه الوجبات السريعة المكدسة بالمكونات الرديئة التي تستمتع بها أثناء اختبارها ثم تشعرك بالندم بعد الانتهاء منها الفرق هنا أن اختبار الفيلم تجربة غير ممتعة.