ما يجعل الناس يكملون الحكايات هي قدرتها على مفاجأتهم، لا أريد أن أستمع لحكاية قديمة أو مكررة، أخبرني بشيء لا أعرفه، فاجئني لأظل منتبهًا لما تقول، هذا تمامًا ما يريده غالبية مشاهدي السينما، إذن نحن نبحث أولاً عن عنصر المفاجأة في الحكاية، الطزاجة والمفاجأة.

ماذا بعد الحكاية، ماذا سيبقى في ذهني منها، هذا هو العنصر الثاني، القدرة على التأثير، تأثير قد يكون عاطفيًا، فكريًا، أو كليهما.

يبدو أن «مارتن ماكدوناه» الكاتب والمخرج المسرحي الأيرلندي حاول في فيلمه الجديد «Three billboards outside Ebbing, Missouri» أن يصنع حكاية توفر لمشاهده هذين العنصريين. نحن إذن أمام واحد من أكثر سيناريوهات العام طزاجة ومفاجأة، وأكثرها تأثيرًا وتوريطًا للمشاهد أيضًا. كل هذا يقدم من خلال فريق تمثيلي يبدو وكأنه يؤدي أدوارًا كُتبت خصيصًا لتناسبه، هكذا تتحقق المتعة والقيمة الفنية في آن واحد.

لم يكن مفاجئاً إذن أن يصبح الفيلم الفائز الأكبر في حفل جولدن جلوب 2018. حصد الفيلم أربع جوائز هي، جائزة أفضل سيناريو لمارتن ماكدوناه،جائزتي أفضل ممثلة للخبيرة «فرانسيس ماكدورماند»، وأفضل ممثل مساعد «سام ركويل»، وأخيرًا جاءت المفاجأة بشكل ما في اقتناص الفيلم أيضًا للجائزة الكبرى وهي جائزة أفضل فيلم درامي. ليدخل الفيلم أجواء ما قبل الأوسكار وهو مرشح وبقوة لحصد المزيد.


ملحمة إنسانية بنكهة أيرلندية

تدور حكاية مارتن ماكدوناه عن أم فقدت ابنتها منذ عام تقريبًا، قُتلت الفتاة بعد أن تم اغتصابها، لم تصل شرطة مدينة إيبنج بولاية ميتسوري لأي شيء، تقرر الأم أن تجلب الاهتمام لقضيتها والعار لشرطة المدينة، فتقوم بتأجير ثلاث لافتات إعلانية كبيرة على الطريق الذي وقعت عليه جريمة القتل/ الاغتصاب، تكتب عليها بخط أسود عريض على خلفية حمراء دموية ثلاث جمل قصيرة وصادمة، «اغتُصبت وهي تحتضر»، و«لم يتم القبض على أحد»، «كيف ذلك أيها القائد ويلبي؟»، ويلبي هو قائد شرطة المدينة، صادم، أليس كذلك؟

بهذه البداية الصادمة التي يخبرنا مارتن ماكدوناه أنها بنيت بالفعل على أحداث حقيقية، تذهب بنا الحكاية في رحلة متداخلة الأحداث، وفي كل مرة نتوقع فيها أن يتخذ الفيلم مسارًا كليشيهيًا آمنًا، يفاجئنا ماكدوناه بتطور مفاجئ وحقيقي في آن واحد.

هكذا تتحول الحكاية من حكاية انتقام تسير في خط واحد، لحكاية إنسانية عن الشعور بالذنب، البحث عن العدالة، التسامح، لتنتهي بنا الرحلة بورطة أخلاقية وسؤال متجدد عن أخلاقية ممارسة العنف حينما تتعطل منظومة العدالة.


زهرة الصيف الأخيرة

تصحبنا موسيقى كارتل بوريل طوال الفيلم، بين موسيقى كلاسيكية هادئة أحيانًا، وسريعة وملحمية ومنتمية لأفلام رعاة البقر في أحيان أخرى.

يظهر بشكل خاص إعادة استخدام «مقطوعة زهرة الصيف الأخيرة» للشاعر الأيرلندي «توماس مور» والموسيقي الأيرلندي «جون أندرو ستيفنسون». زهرة الصيف الأخيرة التي تم تأليفها في أوائل القرن التاسع عشر، ولعبت طوال ما يزيد على القرنين من الزمن، تعود الآن لتصحب ملحمة إنسانية تدور في الجنوب الأمريكي بنكهة أيرلندية.

يبدو أن ماكدوناه ما زال وفيًا لمشواره المسرحي ولإرثه الأيرلندي وبينما نتذكر كلمات «زهرة الصيف الأخيرة» بكل ما فيه من فقد وشجن: «زهرة الصيف الأخيرة، تُركت لتزهر وحيدة، كل رفيقاتها ذبلن ومضين»، يصدمنا حوار ماكدوناه الذي لا يخلو من البذاءة وحس الفكاهة السوداء، كما لا يخلو أيضًا من لمسات عاطفية مؤثرة للغاية على ندرتها.


فرانسيس ماكدورماند: دموع في عيون وحش غاضب

«ميلدارد هايس»، هذه هي الأم الغاضبة التي تجسدها الممثلة الأمريكية الخبيرة فرانسيس ماكدورماند، فرانسيس هنا تتوحد مع دورها لدرجة أنني شعرت أن من حضر حفلة الجولدن الجلوب وانتزع جائزة أفضل ممثلة هي ميلدارد هايس نفسها.

هذه أم غاضبة وعنيفة وعلى استعداد للوقوف أمام الدنيا كلها من أجل الانتقام لابنتها الراحلة، كُتب الدور خصيصًا لماكدورماند، التي يمكننا بالفعل لمس غضبها الذي يفيض من عينيها طوال الفيلم، هايس/ ماكدورماند تتجول في أنحاء إيبنج بشعر محلوق من الخلف – يخبرنا المخرج أنها كانت تفكر في حلاقته تماما – محاربة في زي العمال الأزرق، لا تتردد في سب الجميع، لا يعيدها عن طلبها ابتزازات دينية، أو أخلاقية، أو مجتمعية.

لا نعاين ملامح رقيقة لهذا الوحش الغاضب إلا في لحظات قليلة، منها لحظة بديعة ونادرة في أفلام ماكدوناه حينما تفاجئ هايس/ماكدورماند بغزالة صغيرة أمام لافتاتها الغاضبة، تضع الأم بعض الزهور لتخليد ذكرى ابنتها، فإذا بهذه الغزالة أمامها، تجلس هايس وتبتسم، تخاطب الغزالة قائلة «أنت لا تحاولي إقناعي بتناسخ الأرواح، أليس كذلك؟ لأنك جميلة ولكنك لستِ هي».


دراما الشخصيات في درس تمثيلي

ماكدوناه يهتم بممثليه للغاية، لكل شخصية تفاصيلها الصغيرة والفريدة من نوعها، لكل شخصية طريقتها في الحديث وطريقتها في الحركة واختيار الأزياء، خلفية ماكدوناه المسرحية تبدو واضحةً تمامًا هنا.

نرى هنا وودي هارليسون في دور قائد الشرطة «ويلبي»، هذا دور جديد نسبيًا على هارليسون، نرى هنا ملامح رقيقة وصادقة لرجل محبوب للغاية في مدينته، يمكننا رؤيته كرجل عائلة أكثر من كونه شرطيًا، يمثل ويلبي بشكل خاص نقطة انطلاق المعضلة الأخلاقية الخاصة بالفيلم، كما يمثل حتى وهو غائب عن الأحداث سببًا لتطورها.

ولكن بالتأكيد يبقى سام روكويل في دور الشرطي «ديكسون» هو النموذج التمثيلي الأوضح في صراع انتقام أمام هايس/ماكدورماند.

ديكسون/ روكويل يبدأ الحكاية كشرطي متهم بالاعتداء على مواطن أمريكي أسود، يبدو للوهلة الأولى أننا نشاهد صورة نمطية لشرطي أبيض عنصري وغبي، ولكن كعادة ماكدوناه يذهب بنا لما وراء ذلك، كيف أصبح عنصريًا، هل يدرك ذلك فعلًا؟

يبدو ديكسون كرجل عنيف تعرض لتربية عنيفة، غير قادر على التحكم في تصرفاته وغير مُقدر لكونه رجل أمن وقانون. تسخر هايس من ديكسون بشكل مستمر، لا تأخذه على محمل الجد، ويبدو أنه لا يدرك هذا حتى، تقابله في أحد المشاهد أثناء تواجده ليلاً في أحد بارات المدينة فتخبره ساخرةً بأن الوقت قد تأخر وعليه العودة لأمه، يرد ديكسون بشكل آلي وساذج للغاية بأنه استأذن من أمه بالفعل للبقاء حتى الحادية عشرة مساءً!

تتطور شخصية ديكسون بشكل سريع، ويقدم السيناريو مبررًا غير متماسك لهذا، وقد تكون هذه ثغرة الفيلم الوحيدة، لكننا في النهاية نشهد ديكسون بشكل مختلف مما يقودنا لمعضلة أخلاقية جديدة تتعلق برؤيتنا الأحادية لخصومنا.

سام روكويل ممثل مجتهد للغاية، لم يحظ بالكثير من الفرص في هوليوود مؤخرًا، لم يُرشح لأي جائزة عن دور تمثيلي كبير منذ فيلمه المميز Moon في عام 2009. ولكن يبدو أن هذا الزمن قد ولى بعدما وجد روكويل ضالته في التعاون المستمر مع مارتن ماكدوناه. اقتنص سام روكويل جائزة الجولدن جلوب في فئة أفضل ممثل في دور مساعد، ويبدو مرشحًا أيضًا بقوة لنفس الجائزة في حفل الأوسكار المقبل.