الحلقة الأولى

اتصل بي صفوت يطلب لقائي.

كنت في مكتب الجريدة الصغير في شارع القومية، أحاول كتابة تعليقي على الحادث، عندما اتصل بي. رشفت شرفة من كوب الشاي الثقيل وسألته في ملل عما هنالك. صفوت أحمق ولا يفعل شيئًا سوى أن يضيع وقتي.

جاء صوته القلق الملوث بالعرق (لا يوجد خطأ لغوي هنا) يقول:

-ـ«جلال .. هل تعرف مقهى (…) قرب كوبري الصاغة ؟.. سوف نلتقي هناك بعد العصر».

كالعادة .. بعد العصر .. هذا قد يكون بعد ربع ساعة، وقد يمتد حتى المغرب .. بل إن المغرب والعشاء ينطبق عليهما تعبير (بعد العصر) كذلك. قلت له في نفاد صبر:

-ـ«في تمام الثالثة .. نفس المقهى».

ووضعت السماعة .. أعرف ما سيحدث وما سيُقال. هو يملك رغبة عارمة في خيانة زوجته، ويعتقد أنه واقع في حب لمياء. ولسوف يصدع رأسي بكلامه الفارغ الذي يروق له جدًا. لا حول ولا قوة إلا بالله.

*******************

بحذر ليحافظ على (الوش)، صب القهوجي السائل الأسود زكي الرائحة في الكوب، فأشعل صفوت لفافة تبغ استنشقها في تلذذ، ثم وضع لي ثلاث ملاعق من السكر في الشاي دون أن يسألني، كأنه يحسن ضيافتي بزيادة كمية السكر. ثم قال:

-ـ«عواطف .. أنا أشك في عواطف».

عواطف إن كنت لا تعرف هي زوجته. ابنة عمه القروية الساذجة التي جاءت معه مؤخرًا من قريتها، وتقيم معه في شقة رخيصة ضيقة على بعد أمتار من هنا. عمارة بها عدة عيادات للأطباء.

قلت له في غيظ:

-ـ«تشك؟ … هل تعتقد أنها تخرج ليلاً للسطو على المارة؟ هل تبيع الحشيش؟».

امتقع وجهه وقال:

-ـ«دعك من السخف .. أنت تعرف معنى الشك عند الذكر الشرقي.. إنه يتعلق فقط بالخيانة الزوجية والشرف .. إلخ».

تلك السيدة المسنّة اسمها نجوى. سيدة في الستين من عمرها متغضنة كتفاحة ذابلة، وتلبس الأسود .. ثوبًا طويلاً أسود.. تتوكأ على عكاز من الألوميتال يشبه حامل الكاميرا. جاءته في مكتبه لتقول له إنها تمقت الحال المائل، وإن كتمان الشهادة خطيئة.

-ـ«اسمي نجوي علام .. أسكن في البناية المواجهة لبيتك. هذا شارع مزدحم وهناك عدة عيادات أطباء في بنايتك مما يجعل دخول الناس وخروجهم أمرًا لا يلاحظه أحد. لكني أتلصص كثيرًا وقد رأيت ذلك الرجل يدخل للبناية مرارًا .. ثم بعد هذا كنت أراقب شرفة دارك فأراه هناك مع زوجتك، لاحظت أنه لا يأتي إلا عندما تخرج أنت، أحيانًا يخرج ثم تلحق به زوجتك بعد دقائق .. ثم تعود وحدها.. أجريت تحرياتي وعرفت أنك تعمل هنا».

كان يصغي وهو يفتح القداحة ويغلقها في شرود .. يراقب اللهب الوليد ثم يدفنه. حالته النفسية تتجسد في هذه الشعلة. سمع المرأة تشهق وتقول:

-ـ«أطفئ هذه وكلمني».

سألها صفوت وهو يجفف عرقه:

-«ومن أدراك أنه ليس أخاها؟».

اهتز صدرها المسنّ بضحكة مكتومة .. قالت:

-ـ«ابن أختي يجيد استعمال كاميرا الهاتف الجوال .. لا أفهم هذه الأمور (المسخمطة) بحكم سني، لكنه قد استطاع التقاط بعض الصور عندما لمح العاشقين من الشرفة…».

ثم عبثت في حقيبتها وأخرجت لصفوت هاتفًا جوالاً صغيرًا… أنامل طويلة شبيهة بالمخالب وخاتم ضخم شبيه بثمرة التوت .. وقالت:

-ـ«قطيعة … لا أعرف كيف أبحث عن الصور فيه .. يمكنك أن تنظر بنفسك».

بيد مرتجفة ملوثة بالعرق أمسك صفوت الهاتف وراح يفتش فيه .. حلقه يجف .. يحتبس صوته … يوشك الهاتف على السقوط فيلتقطه …

تقول العجوز وهي تنهض:

-«لا أريد أن تتهور يا بني ..لا أريد أن تجن. فقط أردت أن أقول لك كُن حذرًا، يمكنك أن تطلّقها فلا تضيع مستقبلك…».

لكنه لم يرد .. كان ينسخ الصور من هاتفها إلى هاتفه بخاصية البلوتوث .. وعندما انصرفت العجوز تتوكّأ على عكازها، كان الكون قد سقط فوقه، كأن أعمدة السماء قد تآكلت ..

قال لي صفوت وهز يناولني الجوال ويشعل لفافة تبغ أخرى بيد ترتجف:

-ـ«هكذا .. هكذا ترى الصور.. لا أطيق ألا أقتلها .. أريد أن أتحامق وأندفع للحد الأقصى. التعقل والحكمة يبدوان لي خاليين من الرجولة فقيرين في النخوة. الرجل الحق يذهب لتلك المرأة ويذبحها».

كنت أتأمل الصور، ثم قلت له في حذر:

ـ -«لا أعرف مدى صحة هذا الدليل. نحن في عصر الفوتوشوب حيث يمكن أن ألفق لك صورة وأنت تقتل يوليوس قيصر، لابد من خبير تصوير ممن تستعين بهم المحاكم ليفحص هذه الصور. ثم اسمح لي بحقيقة لا تخفى على أحد .. زوجتك قبيحة جدًا وبائسة وشاحبة، ولا تغري صرصور حقل على إقامة علاقة معها. العلاقة الجنسية تحتاج ببساطة إلى أن تكون هناك جاذبية جنسية .. زوجتك يمكنها أن تمشي بالمايوه في زقاق مليء بالمخمورين ومدمني المخدرات، ولن يضايقها أحد.. سوف يعتبرونها مجرد سحلية تمر مصادفة. أنا آسف على وقاحتي لكني أرى الدليل على شرف زوجتك في وجهها الخالي من الأنوثة».

ابتلع ريقه ولم يتكلم .. عليه الاختيار بين إهانة شرفه وبين إهانة جمال زوجته. اختار أقل الخطرين.

قلت وأنا أعيد له الهاتف:

-ـ«أرى أن تحكم الرقابة وتتريث .. من الحلول الممتازة أن تزعم أنك سافرت ثم تقبع هناك تراقب. فتش عن الأرقام في هاتفها الجوال».

قال في حزم:

-ـ«ليس لديها جوال».

-ـ«حسن .. لا تقنعني أن زوجة ما زالت تعيش في عصر الكهف قادرة على خيانة زوجها».

كنت أعرف ما سيحدث في الأيام القادمة، سوف يقنع نفسه أنه تعيس .. سوف يقنع نفسه أنه بحاجة لحضن دافئ.. سوف يبحث عن لمياء الحسناء. هذه هي الذريعة النفسية التي ستروق له.

*******************

اختفى صفوت في الأيام التالية .. لم يعد يظهر كثيرًا، وعندما كان يظهر كان يتكلم عن لمياء الحسناء الرشيقة الفاتنة التي جاءت لتعيد له الثقة بنفسه..

-«هل راقبت زوجتك أو على الأقل طلقتها أو قتلتها؟».

-ـ«لم أتأكد بعد».

-ـ«كنت متحمسًا».

عرفت منه حقائق غريبة. لمياء من أب وأم ليبيين.. لمياء تزوجت مرة برغم صغر سنها ورزقت بطفل ثم توفي فتركها زوجها. إنها تقيم قرب شارع عبد العزيز علي .. تعيش وحدها وتمارس العمل الصحفي كما قلنا. بدا لي الأمر ممهدًا .. سيطلق صفوت زوجته ويفوز بلمياء. لن أحسده كثيرًا لأنني أحب عائشة كما قلت لك. عرفت مع الوقت أنه لا يعود للبيت تقريبًا .. يمضي أكثر وقته في مكتبه أو يخرج مع لمياء. إنه غارق في الحب لأذنيه كما ترى.

مرت فترة لم أسمع فيها عن صفوت، ثم دخلت بيتي ذات يوم فوجدت الجوال يدق في إلحاح. كان هذا صوت أحد رفاقي الصحفيين يقول في ارتباك:

-ـ«جثة جديدة ممزقة في المستنقعات … لقد ضرب السفاح مرة جديدة ..»

وضعت الهاتف بين كتفي وجذور عنقي لتظل يداي حرتيْن أصب بهما بعض الماء البارد في كوب، ثم قلت:

-ـ«حالاً .. سوف أذهب هناك بالمواصلات .. سأبحث عن صفوت لأنه ………….»

قاطعني في حذر:

-ـ«هذه هي المشكلة .. الجثة هي جثة صفوت نفسه !».

سقط الهاتف على الأرض ….

وعلى الفور تداعى أمام عيني شريط من المعطيات .. لمياء .. ليبيا .. طفل مات … صفوت لم تعد له علاقة بأحد سوى لمياء .. هل يمكن استخلاص شيء من هذا؟.

لاميا ….!

الحلقة الثالثة

يمكن قراءة كل أجزاء القصة من (هنا)