إهداء إلى روح دكتور أحمد خالد توفيق: منذ ثلاث سنوات عندما فكرت أن أبدأ في كتابة هذه السطور عن سلسلة ما وراء الطبيعة كنت أخطط أن أرسلها لك بعد أن أنتهي منها لتكون أول من يقرؤها لكن القدر كان له رأي آخر!
إلى أن نلتقي ثانيةً وحتى تحترق النجوم …

كان من المفترض أن يكون عنوان العدد القادم في فانتازيا «هكذا تكلم عفيفي»، وفيها كان سيتحدث الراحل عن الساخر العظيم «محمد عفيفي»، أحد كُتَّابه المفضلين، والذي تحدث عنه كثيراً في مقالاته وذكر عدة مرات أنه تأثر به لدرجة كبيرة. توفي دكتور أحمد خالد توفيق قبل أن يرى هذا العدد النور، وللأسف سيظل أحد الحكايات التي لم ولن تروها أبداً.

حسناً. في هذا المقال الذي اقتبست عنوانه من قصة فانتازيا المذكورة أعلاه سأحاول أن أتحدث عن دكتور أحمد خالد توفيق، كاتبي المفضل وأحد أقدم أصدقائي، ولأن الراحل كتب في العديد من اتجاهات الأدب وترك الكثير من الروايات والمقالات التي لا يسعني أن أحصرها وأقوم بتحليلها، فسأكتفي إذاً بالحديث عن السلسلة الأقرب لقلبي، والتي أرى أنها تُمثل جزءاً كبيراً من عوالم أحمد خالد توفيق الساحرة، وربما مستقبلاً سأقوم بالحديث عن أعماله الأخرى.

أسطورة رفعت إسماعيل

أنا الدكتور رفعت إسماعيل، أستاذ أمراض الدم المتقاعد وخبير الأشباح وعوالم ما وراء الطبيعة، ما زال كثيرون لا يعرفون ما يعتقدونه بصددي، نصاب أم عالم أم شخص مسل لا أكثر … لا أعرف … لكني عشت حياة حافلة ورأيت الكثير … يبدو لي أنه ما من مومياء أو شبح أو مكان لعين في الأرض كلها لا يعرفني. ومن جديد أكرر أن رجل الثلوج الرهيب لو دق بابي لرحبت به مُهللاً. عندما تبتعد عن المستنقع تكتشف أن مغامراتك فيه لم تكن سيئة جداً … أنا د. رفعت إسماعيل … سأحكي لكم اليوم قصة أخيرة … إنها أسطورتي الخاصة.
أسطورة الأساطير الجزء الأول.

كانت تلك الكلمات الافتتاحية في الحكاية الأخيرة من حكايات العجوز رفعت إسماعيل، التي ظلت تتردد ما يزيد عن عشرين عاماً، الحكايات التي بدأت في يناير/كانون الثاني 1992 حينما قرر أحمد خالد توفيق أن يبدأ في كتابة مذكرات صديقنا العجوز. تلك المذكرات التي سترى النور للمرة الأولى في مارس/آذار 1993 فتبدأ حينها صداقة لا تنتهي بين العجوز رفعت وكل من قرأ له، وعلاقة أخرى بين الكاتب وقرَّائه الذين سينصبونه أباً روحياً فيما بعد.

لا يوجد خطأ هنا، فالعجوز رفعت إسماعيل كان شخصية قائمة بذاتها وليس مجرد شخصية خيالية أخرى ينساها القارئ بمجرد انتهائه من الكتاب، فلا عجب أن تكون علاقته بالقرَّاء منفصلة عن علاقة الكاتب بهم. بدأت أسطورة العجوز الملول ذي (البذلة) الكحلية التي تجعله فاتناً بكلمات شبيهة لكلمات افتتاحية الوداع:

أعتقد أن الوقت قد حان كي أمسك القلم وأكتب عن كل الخبرات والتفاصيل الغريبة التي مرت بي في حياتي الطويلة، والتي أعتقد أن كثيرين قد مروا بها. في البداية أعرفكم بنفسي: دكتور رفعت إسماعيل أستاذ أمراض الدم سابقاً بجامعة (…).
أسطورة مصاص الدماء والرجل الذئب.

ما يزيد عن العشرين عاماً بين الافتتاحيتين كانت كافية لتتحول كلمات العجوز رفعت إسماعيل التي يُعرِّف بها نفسه إلى تحية سرية بينه وبين أصدقائه، وكافية لكي تتحول أسطورة رفعت إسماعيل لواقع ملموس لكل محبيه. هكذا بدأ أحمد خالد توفيق حكايات عجوزه رفعت إسماعيل.

عبر ثمانين عدداً، وخلال العشرين عاماً، ببطء وتمهل رسم أحمد خالد توفيق عالم ما وراء الطبيعة. العالم الصغير الذي بدأ بعجوز ملول اسمه رفعت إسماعيل، يقطن بناية هادئة في ضاحية الدقي بالجيزة، قرَّر ذات ليلة باردة في يناير أن يسرد حكاياته لنا نحن الصغار الذين ربما لو كان لصديقنا العجوز أحفاد لكانوا في مثل عمرنا حين استمعنا لأول حكاياته. تضخم وأصبح يشمل عشرات المدن والقرى والعديد من البلدان، وبعد أن كنا لا نعرف سوى الأستاذ الجامعي العجوز الملول رفعت، الذي وُلد عام 1924 في قرية كفر بدر (1) سنقابل الكثير من الشخصيات حتى أننا سننسى عددهم، سنحب معظمهم، وسنكره بعضهم، ولكننا سنفتقدهم جميعاً بعد نهاية كل قصة عندما نقرأ جملة «لكن هذه قصة أخرى». سنحترق شوقاً حتى نلتقيهم ثانيةً في القصة القادمة، فأسماء مثل كاميليا، وعزت، وماجي، وسام كولبي، ولوسيفر، وهن–تشو–كان أصبحت مألوفة كأنهم جزء من عائلتنا.

لا أعرف لماذا قرر أن يبدأ رفعت إسماعيل في سرد حكاياته في تلك الليلة وهو المعروف عنه كرهه للاختلاط بالبشر؟! ربما أراد العجوز أن يستأنس بوجودنا حوله، أن يبث تجمعنا في شقته الباردة قليلاً من الدفء افتقده كثيراً، ربما تذكر حبه لماجي تلك «التي تمشي على العشب دون أن تثني عوداً»، وغلبه الحنين فأراد أن يحكي عن حبه هذا الذي ليس له مثيل لكنه خجل أن يحكيه مجرداً فقرَّر أن يُخفيه وسط عشرات الحكايات المفزعة، لكنها في الحقيقة كانت مجرد ستار لحبه الذي سيظل صامداً «حتى تحترق النجوم». ربما لأن تلبسته روح الحكمة التي تصيب أقرانه من كبار السن فقرر أن يحكي لنا تجربته وخلاصة حكمته. شخصياً لا أهتم كثيراً لماذا قرر العجوز أن يختصنا بحكاياته، فقط أفكر أن حُسن حظنا هو ما جعله يفعل هذا، فأصبح رفعت إسماعيل هو الجد الذي يحمل لنا خبراته، والمرشد الروحي الذي طالما أرشدنا ونفتقده الآن في عالم الضياع الذي نحياه.

ربما لا أعرف بالتحديد لماذا قرر رفعت إسماعيل أن يبدأ حكاياته، لكنني تقريباً أعرف على وجه اليقين لماذا رسم أحمد خالد توفيق عالم رفعت إسماعيل وعمل على أن تصلنا حكايات العجوز. يجمع أحمد خالد توفيق خبراته الحياتية وثقافته التي حصدها على مدى سنوات عمره ويقرر أن يُنشئ بها عوالمه الخاصة، فالعوالم التي رسمها أحمد خالد توفيق في «فانتازيا»، و«سافاري»، وبالطبع عالم «ما وراء الطبيعة» هي جزء من رؤية أحمد خالد توفيق الشخصية للعالم الحقيقي. ما يفعله أحمد خالد توفيق يشبه تماماً ما وصفه في ثلاثية «إيجور» (2) حين يخترق البطل عقول خصومه فيجد عالماً كاملاً مصنوعاً من أفكار تلك العقول، عوالم أحمد خالد توفيق وعلى نفس المنوال هي تجسيد لأفكاره.

يستخدم د. أحمد كل ما تعلَّمه ليحوِّل تلك الرؤية لعوالم حية، في قصة «ما أمام الطبيعة» (3) في سلسلة «فانتازيا» يقوم أحمد خالد توفيق بمحاكاة ساخرة لسلسلته الأشهر «ما وراء الطبيعة»، فيقوم العجوز رفعت إسماعيل بخوض مغامرة ساخرة مع «عبير عبد الرحمن» بطلة «فانتازيا». في تلك المغامرة يكشف أحمد خالد توفيق كيف وظَّف كل ما يعرف ليرسم عالم رفعت إسماعيل بهذه الحرفية. أحمد خالد توفيق محب لفن السينما، يخبرنا صراحة في تلك القصة أنه يستخدم تقنيات هذا الفن في كتابة روايته، يخبرنا أيضاً أن ترجمته المؤثرات الصوتية لسطور مكتوبة هو تقليد لفن القصص المصورة الذي يحبه. يكشف بعض التقنيات السردية التي يستخدمها فمثلاً يذكر أن إحداها هي تقنية استخدمها «ستيفن كينج» من قبل وهو أحد كتابه المفضلين.

في قصة «الرجال الذين لم يعودوا كذلك» (4) يستخدم أحمد خالد توفيق أغنية فريق The Beatles الشهيرة Eleanor Rigby كخلفية غنائية للقصة، فيما بعد سأكتشف أن هذا الفريق الغنائي هو أحد الفرق المفضلة عند د. أحمد، وأن استخدامه الموفق لتلك الأغنية التي جاءت كلماتها لتتناغم مع أحداث القصة لم يكن وليد الصدفة، فالكاتب بالتأكيد ولأنه يستخدم ما يحب في رسمه لعوالمه التي كتبها، يجيد فعل هذا بحرفية عالية ودقة مثيرة للإعجاب.

لا يكتفي د. أحمد باستخدام ما يُحب فقط في رسم عوالمه، لكنه يجتهد في تعلم المزيد من الأدوات التي تساعده على فعل هذا. ففي مغامرة «ما أمام الطبيعة» سيقوم بعرض تلك الأدوات فيتحدث عن تقنيات كتابية مختلفة مثل الغرس، والإرهاص، والإله من الآلة، سيتحدث عن (تيمات) الرعب المتعددة (5). يهتم أحمد خالد توفيق بأدق التفاصيل فيخبرنا أيضاً في هذه القصة أنه بحث في مجلة صينية عن أسماء أشخاص حقيقية ليستخدمها في إحدى قصصه، لأنه يكره الأسماء الملفقة. وقرَّاء رفعت إسماعيل المخضرمون يستطيعون بسهولة أن يميزوا التفاصيل الحياتية الشخصية التي استخدمها أحمد خالد توفيق في «ما وراء الطبيعة».

في مديح الرجل العادي

عندما يسمع أحدهم عن سلسلة قصص «ما وراء الطبيعة» وتخبره أن أحداثها تدور عن عوالم ما وراء الطبيعة حيث الأشباح والغيلان هم القاعدة، سيتخيَّل أن البطل وسيم، قوي الجسمان، يشبه نجوم هوليوود، أو ربما سيتخيله على أقل تقدير مراهق مثل هؤلاء المراهقين التي تعج بهم أفلام الرعب. لكنه أبداً لن يتخيل أن البطل هو عجوز ملول، «نحيل كعصا المكنسة، معتل الصحة كمستعمرة درن كاملة، يدخن كبرلين يوم دخلها الحلفاء» وأن مغامراته بدأت وهو بعمر الخامسة والثلاثين، وعمر الخامسة والثلاثون لبطلنا ذي الصحة المعتلة ربما يعادل الخمسين عند الآخرين.

كان عجوزنا النحيل هو أكثر الأبطال عادية، ربما لو قابلته في الحقيقة ستنفر منه. يشبه أساتذة جامعتنا الملولين فارغي الصبر، الذين يُهيأ لنا أنهم يكرهونا. لكن ربما هنا يكمن السحر، الجانب الآخر لهؤلاء الأشخاص العاديين كان هو السحر الذي قرر أستاذنا أحمد خالد توفيق أن يكشفه لنا، ولولاه ربما ظل هذا السحر كامناً في طيات هذه الشخصيات ولم نكن لنراه أبداً. بالطبع ليس السحر الذي أقصده هو سحر عوالم ما وراء الطبيعة التي انغمس فيها بطلنا، فهذا الجانب هو جزء صغير من سحر عجوزنا، لكننا أحبناه لأنه هو، بطلنا العجوز الملول، لم تكن لقاءاته مع لوسيفر وساحرات الفودو الشمطاوات وأندية الغيلان السرية سوى مجرد مسرح يكشف لنا جماله.

في سلسلة «فانتازيا» يذكر أحمد خالد توفيق صراحة أن جمال عبير في عاديتها، وأن كل مغامراتها هذه هي مجرد أحلام تكشف لنا جمال روحها، وهو ما لم يُصرِّح به مباشرة في كتب «ما وراء الطبيعة» لكنه بثه بين السطور. كانت «ما وراء الطبيعة» طريقة أخرى يخبرنا بها بأن الشخصيات العادية قد تحمل جمالاً لا نتصوره، فرفعت إسماعيل كان أستاذاً جامعياً عادياً، كانت مغامراته هي سبيله للكشف عن جماله العادي، ولم يكن جانب النجوم وكل تلك الأحداث الغرائبية التي تعج بها السلسلة سوى غطاء لهذا الجمال.

أحببنا عالم رفعت اسماعيل وانبهرنا به رغم أنه لم يكن هناك قصور باهظة الثمن تثير الخيال، أو رجال يرتدون سترات سوداء ويطلقون أطنان من الرصاص فيثيرون حماستنا، على العكس كان عالم عادي جداً، فباستثناء اللحظات التي تظهر فيها الأشباح كان عالماً عادياً، أمكننا بسهولة أن نتماهى مع العالم الجديد فهو عالم مألوف تماماً، فيه يقرر البطل أن يتزوج فتاة عادية رشحها له أحد أصدقائه رغم حبه الخارق لماجي مثلما يحدث في الواقع تماماً.

كان رفعت إسماعيل بطل طفولتي العجوز الذي يمكنني أن أقابله على ناصية شارعي، لم يكن هناك هذا الحاجز السينمائي أو الروائي الذين يفصلنا عن الكثير من الأبطال الآخرين.

كان عالم «ما وراء الطبيعة» عالم غير العادي الذي تقابله في عالم عادي تماماً، فأمكننا أن نقابل مصاصي الدماء في شوارع الدقي المزدحمة بدلاً من أزقة نيويورك الباردة الخالية من البشر مثلما يصورونها على شاشات السينما، الشياطين والأشباح التي طالما شاهدناها على شاشات (التليفزيون) تتسكع في الريف الأمريكي فتداعب خيالنا أصبحت موجودة في قاهرتنا العجوز. ليست موجودة بتلك الصورة التي يُحوِّل فيها المخرجون القاهرة لمدينة أوروبية عندما يقتبسون أفلام الرعب الغربية، لكنها موجودة في مدينتنا الحقيقية المزدحمة والتي يمكننا أن نتناول فيها الإفطار على عربة فول.

واقعية سحرية مثل واقعية ماركيز الساحرة، فيها يدق كاهن آسيوي من زمن آخر باب شقتك ليلاً، وتحتل الظلال شوارع الدقي وسينمات القاهرة. عالم يختفي فيه الحاجز بين الواقع والخيال بصورة سلسة كعالم هاري بوتر، هكذا كان عالم ما وراء الطبيعة.

ينبهر البشر بالعباقرة أمثال أينشتاين، وأصحاب الموهبة الخارقة مثل ميسي، وذوي الإرادة التي تنتمي لعالم آخر مثل كريستيانو رونالدو، لكن تلك الصفات وحدها فقط لا تكفي لكي يحبك البشر، فهم لا يحبون من أعماق قلوبهم سوى هؤلاء الذين يشبهونهم، لهذا أحببنا رفعت إسماعيل، فعجوزنا طاف حول العالم وخبر أسراره لكنه لا يزال يشبهنا بملله وأمراضه التي تشبهنا وأصدقائه العاديين المفرطين في عاديتهم.

هوامش

  1. إحدى قرى محافظة الشرقية، ظن الكثيرون أن هذه قرية حقيقية لكن نفى دكتور أحمد خالد توفيق هذا وذكر أن اسم القرية التي وُلد بها رفعت اسماعيل وهمي، فلا يوجد قرية في الحقيقة بهذا الاسم.
  2. ثلاثية «إيجور» هي الأعداد رقم 24، 25، 26 بعناوين «أسطورة إيجور»، «أسطورة الجنرال العائد»، «أسطورة المواجهة» على الترتيب.
  3. «ما أمام الطبيعة» العدد رقم 35 في سلسلة «فانتازيا».
  4. «الرجال الذين لم يعودوا كذلك» العدد رقم 66 في سلسلة «ما وراء الطبيعة».
  5. للكاتب عدة مقالات عن تقنيات السرد وتيمات الرعب المختلفة بعضها موجود في كتابه «اللغز وراء السطور».

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.