أعلنت الأكاديمية الأمريكية للعلوم والفنون في صباح الخميس 15 ديسمبر/كانون الأول قائمتها القصيرة للأفلام المرشحة لجائزة الأوسكار في فئة أفضل فيلم أجنبي. شملت القائمة تسعة أفلام جاء في مقدمتها الفيلم الألماني «Toni Erdmann» للمخرجة والكاتبة الألمانية «مارين ادي».

ربما يراهن الكثير على وصول هذا الفيلم بشكل خاص لقائمة الخمسة مرشحين الأخيرة التي سيتم إعلانها في الرابع والعشرين من يناير المقبل، كما يتوقع آخرون أن يظهر اسم الفيلم في النهاية على منصة التتويج. ولكن بعيدًا عن كل هذا فما طرحه الفيلم يستحق المناقشة والتحليل خصوصًا أنه يأتي من ألمانيا، الدولة التي تحمل على عاتقها مسئولية لم شمل ما تبقى من الاتحاد الأوروبي، كما أنها تظهر للكثيرين كملجأ أخير للهاربين من باقي أنحاء الدنيا. بين مظهر يوحي بالقوة وجوهر يعاني، وفي عالم مليء بالمفاجآت التي قد تكون فرصًا لمستقبل أفضل أو تهديدًا للواقع الحالي، تدور أحداث هذا الفيلم.


وجهان للحكاية

Toni Erdmann
Toni Erdmann

في الإطار الخارجي نرى حكاية معتادة عن أب يحاول التواصل مع ابنته مجددًا بعد أن ابتعدت عنه لفترة طويلة نتيجة انشغالها بأمور الحياة، علاوة على عملها في دولة أخرى. يظهر الأب كمعلم موسيقى متقاعد يهوى التنكر وتقمص الشخصيات وصنع المقالب، فيما تظهر ابنته كسيدة أعمال جادة للغاية، تهتم بعملها وتوليه أهمية قصوى.

يجد الأب نفسه وحيدًا بعد وفاة كلبه الذي عاش معه لسنوات ولذا يقرر أن يقوم بزيارة مفاجئة لابنته. يظهر الأب بشكل مفاجئ في حياة الابنة المرتبة للغاية، يحاول أن يقلب عالمها بمجموعة من النكات والحيل فيفشل ويخبرها أنه سيرحل، ولكنه يظهر مجددًا وهذه المرة في زي تنكري سيئ للغاية كرجل أعمال غني يدعى «Toni Erdmann». لا تنطلي الحيلة على الابنة ولكنها تعمل بشكل جيد وتحقق غرض الأب الذي يستطيع أخيرًا مرافقة ابنته في طرقات الشركة وفي حفلاتها المسائية. لا يتوقف الأب عن الحيل والنكات حتى وإن كانت سيئة، لا نضحك كثيرًا ولكننا نرى أبًا يحاول جاهدًا استعادة علاقته بابنته.

في القلب من كل هذا نرى مسارًا ثانيًا للحكاية، نرى رجالاً ونساءً يعملون في مسار محكم رسمته لهم الرأسمالية التي لا تحب ولا تكره ولا ترحم. نرى الابنة التي ترسم ابتسامة بلاستيكية طوال اليوم حتى وإن كانت محبطة وحزينة وخاوية من الداخل. نراها وهي تتلقى اللوم من رئيسها في العمل ثم تفرغ طاقتها في أحد العاملين في أحد الفنادق، نراها قوية وناجحة وبالتالي تكسب الكثير من المال ولكنها تمارس حياتها بشكل آلي، تفعل كل شيء من أجل إرضاء رؤسائها ومن يعلونها في سلم الرأسمالية، وفي مقابل ذلك تدهس كل من يليها. وسط كل هذا يظهر أب يحاول أن يخفي وحدته وحزنه في محاولة لإلقاء النكات، يحاول أن يستعيد علاقات أسرية تم طحنها طحنًا في آلة الرأسمالية فلم يعد لوجودها معنى إلا في الصور والحفلات الموسمية وقاعات العزاء.


وجهان لطريقة السرد

في الإطار الخارجي صنف الكثيرون الفيلم على أنه «كوميدي» استنادًا للنكات والحيل الكثيرة التي استخدمها الأب طوال أحداث الفيلم، وربما يكون ذلك صحيحًا إذا اعتبرنا الكوميديا نابعة من لحظات الإحراج وعدم الراحة التي تعمدت المخرجة أن تظهرها واضحة طوال أحداث الفيلم. إذا قمت بإلقاء دعابة أو عمل حيلة ولم يفهمها أحد ولم يبادلك الضحكات فلربما يجد المشاهدون ذلك مضحكًا في حد ذاته، ولكنها ستكون ضحكات قاسية جدًا على من قام بالحيلة، وهذا ما نراه طوال أحداث الفيلم. أثر في نوع الكوميديا أيضًا أنها قادمة من ألمانيا وبالتالي وجب التحذير من أن الألمان يحظون بحس فكاهي غريب وثقيل الظل في رأي كثيرين.

في القلب من تلك الضحكات الفاشلة، نجد واقعًا مؤلمًا وحزينًا للغاية. وبالحديث عن المسار الثاني للحكاية فالحياة تبدو بلا معنى، مجرد مسار آلي تتخلله ضحكات آلية وبالتالي تبدو لحظات الإحراج وعدم الراحة التي تتولد عن دعابات الأب الفاشلة كسرًا لسياق الادعاء الذي يمارسه الجميع داخل المنظومة المحكمة التي خلقتها الرأسمالية. يبدو الفيلم كئيبًا للغاية إذا نظرنا له في هذا السياق، وتبدو مشاهد الكوميديا الفاشلة مدعاة للحزن والرثاء وليس للضحك. يبدو الفيلم إذن كوميديًا في ظاهره، حزينًا جدًا وميلودراميًا للغاية في جوهره.


مشهدان كاشفان

Toni Erdmann
Toni Erdmann

في أحد مشاهد الفيلم يقتحم الأب وهو في زيه التنكري الفاشل حفلاً أسريًا لأسرة رومانية ويدعي بأنه السفير الألماني، في هذه المرة وعلى غير العادة ترافقه ابنته بدلاً من محاولة الهروب، يقرر الأب كعادته أن يضع ابنته في موقف محرج جديد فيعرض على مضيفة الحفل أن يقدم أغنية هو وابنته التي قدمها لهم على أنها سكرتيرته.

وعلى غير العادة توافق الابنة، هنا نجد مشهدًا يتحرر فيه الجميع من كينونته الحقيقية التي فرضتها عليهم المنظومة الرأسمالية ويدعي بأنه شخص آخر، الأب يعلم أن هذه هي ابنته ولكنه يتصرف وكأنها سكرتيرته ويقدمها باسم مستعار، والابنة تقبل ذلك وتعامل أباها وكأنه سفير، ومضيفة الحفلة التي نعلم فيما بعد أنها تعلم أن هذا الرجل ليس السفير تقرر الادعاء أيضًا بأنها لا تعرف ذلك. الجميع مدعٍ ولكنه ادعاء من أجل المتعة، ادعاء يخرجهم من ادعائهم الإجباري، ادعاء يعيدهم لطبيعتهم التي تناسوها.

ويمكننا اعتبار هذه اللحظة كأجمل لحظات الفيلم، كما يمكننا تصنيفها أيضًا باللحظة الوحيدة التي نشعر فيها بشعور جيد تجاه الفيلم وسط سيل من لحظات الإحراج وعدم الراحة. وكأن الفيلم يخبرنا بأنه لا ضرر من الهروب مما فُرض علينا في حياتنا والاستمتاع بلحظات السعادة التي تذكرنا بذواتنا دون أقنعة حتى وإن قمنا باصطناع تلك اللحظات. تصرخ الابنة التي ارتدت قناعًا بلاستيكيًا من الملامح الجادة طوال الفيلم، نراها تغني بشكل حقيقي على موسيقى يعزفها أبوها المتنكر، وتردد كلمات الأغنية «learning to love yourself is the greatest love of all» والتي تعني «تعلم أن تحب نفسك، هذا هو أعظم حب على الإطلاق».

في مشهد آخر وقبل نهاية أحداث الفيلم، تدعو الابنة زملاءها ورؤساءها في العمل إلى حفل عيد ميلادها، اصطنعت الابنة هذه الدعوة في الأساس من أجل أغراض لها علاقة بالعمل ولكنها فجأة تقرر أن تدعو الجميع في أكثر موقف محرج ممكن تخيله في هذا التوقيت. تتوقف الابنة فجأة عن تجهيزات الحفلة وتخلع ملابسها وتقرر أن تستقبل زوارها دون ملابس، تظهر المفاجأة الغريبة للزوار واحدًا تلو الآخر، ويتضاعف الإحراج عندما تخبرهم أن عليهم خلع ملابسهم بالكامل إن أرادوا الانضمام للحفل لأنها حفلة عراة. تصل مشاعر الإحراج وعدم الراحة التي اعتدنا أن نراها من خلال الأب إلى ذروتها في هذه المرة ولكن من خلال ابنته، وكأنها اقتنعت أخيرًا أن كل ما يحدث في حياتها داخل تلك المنظومة المحكمة هو ادعاء يجب السخرية منه وتحطيمه وإجباره على الظهور عاريًا، بشكل حرفي هذه المرة.


ربما يرى البعض Toni Erdmann كتحفة فنية وسينمائية ويتخيلونه في نسخة أمريكية من بطولة بطل كوميدي أمريكي يجيد صنع اللحظات المحرجة مثل «بيل موراي» في دور الأب وإحدى فتيات هوليود الشقراوات في دور الابنة، وربما يراه آخرون كفيلم مزعج يفاجئهم بالعديد من لحظات عدم الارتياح، ولكن سيتفق الجميع على أنه فيلم معبر بشكل حقيقي جدًا عن تناقضات الإنسانية في زمننا وخصوصًا في ظل الوضع الحالي في أوروبا.