لماذا لم يسبق أن سألت أبدًا، عما يدور في هذا الفيلم؟ ولماذا لم أخبرك علي أي حال؟ هل لأنك لم تكوني فضولية، أم أنني كنت أكثر ارتياحًا لأنك لم تسألي؟ أنا أحاول منذ مدة أن أفهم لماذا أقوم بمثل هذا النوع من البحث، وما الذي أبحث عنه؟ أشعر أنني غير جاهزة بعد للتعبير عن ذلك، ربما لأن ما أريد التعبير عنه هو خارج منطقة الكلام، شيء ما نفذت إليه في أحلامي.

هذا الكلمات والتساؤلات توجهها المخرجة الرومانية «أدينا بنتيلي» لشخصيتها الرئيسية «لورا/لورا بنسون» وهي تطل عليها وعلينا في مستهل فيلمها الأول «لا تلمسني Touch Me Not» عبر شاشة تلقين متصلة بالكاميرا.

مشهد كهذا مثلما يثير سؤال المضمون يثير أيضًا سؤال الشكل، فوجود المخرجة داخل اللقطة المصورة وحضور الكاميرا وهذا الحوار المفتوح بينها وبين شخصياتها يعزز سؤال الشكل ويجعله جوهريًا لفهم مضمون الفيلم. ما الذي تريد أن تقوله المخرجة عبر فيلمها الحائز على جائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين 2018 وأثار فوزه صخبًا واسعًا؟ ولماذا قدمته بهذا الشكل؟ هذا ما سنحاول أن نجيب عنه في هذا المقال.


سؤال الموضوع

تفتتح المخرجة فيلمها بلقطة لجسد ذكر نائم كامل العري. الجسد في مقدمة الصورة، بينما الخلفية ضبابية تمامًا، قريبًا جدًا من هذا الجسد، تتحرك الكاميرا أفقيًا عليه وبتمهل شديد يحمل شريط الصوت قرب نهاية اللقطة همهمات غامضة تشي بشيء من الألم والغضب المكبوتين وغير المعبر عنهما. حركة الكاميرا المتمهلة توحي بالرغبة في الاستكشاف، كأنها تمتلك رغبة في النفاذ إلى سر ما، سر لا يفصح عنه حتى هذا العري الكامل. الجسد هنا مجرد فضاء غامض، هو موضوع استقصاء سينمائي وبحث دءوب، فيلم بنتيلي عن الجسد وحالاته وتناقضاته وعما وراءه، عما يغرب الإنسان عن جسده وجسد الآخر.

هو فيلم أيضًا عن البوح والتعري ليس بمعناه الايروتيكي بل الكشف عن هشاشتنا وضعفنا الخاص، وعن الغضب المتراكم داخلنا والتعبير عنه بصورة واضحة. تكمن أزمة بطلة الفيلم لورا، وهي امرأة خمسينية، في اغترابها التام داخل جسدها. جسدها محروم من أي متعة حسية حيث لا يوجد أي تواصل حميم مع جسدها أو جسد الآخر، فكما يشي عنوان الفيلم هناك حالة من النفور والقطيعة مع كل ما يقترب من جسدها.

نراها في ظهورها الأول على الشاشة برفقة شاب من العاملين في مجال الجنس تدفع له في مقابل أن يتعرى أمامها ويقوم بالاستمناء دون أي اتصال جسدي بينهما، وبعد رحيله تلقي بجسدها على الفراش، تتشمم رائحته وكأنها تحاول أن تعانق أثر ذلك الجسد الذي كان هنا منذ قليل. الفيلم لا يكشف عن سبب ذلك، وإن كان يوحي بأن مكمن جرحها يعود لشيء ما في ماضي علاقتها بوالدها المحتضر الذي تواظب على زيارته في المستشفى، لا يوجد أي تواصل بينهما سوى نظراتها العابسة التي تشي بغضب مكبوت تجاهه.

إذا كان جرح لورا جرحًا نفسيًا يعبر عن نفسه عبر هذا النفور من أي اتصال جسدي، فجرح بطل الفيلم الثاني «توماس/توماس لاماركيز» هو في صميم جسده، فهو يعاني من حالة من حالات الصلع (Alopecia unevesalis) فقد على إثرها في بداية مراهقته وبلا رجعة كل شعر جسده وهو ما جعله عرضة للتنمر لغرابة منظره. نعرف مع تقدم الأحداث أنه انفصل حديثًا عن حبيبته وهو ما يدفعه إلى جلسات علاجية تساعده في التواصل مع جسده بطريقة طبيعية. تنجذب له لورا لدى رؤيته في إحدى هذه الحلسات لتبدأ في تتبعه.

الفيلم رحلة بطليه من الاغتراب عن جسدهما إلى التقبل والانسجام معه والانعتاق من العوائق النفسية والجسدية التي تعيق التواصل مع الذات والآخر. يستعرض الفيلم خلال هذه الرحلة حالات مختلفة للجسد تتجاوز المعايير التقليدية لما هو طبيعي أو جميل، ومع هذا استطاع أصحابها تحقيق قدر كبير من التوافق والهارمونية معها، هذه الحالات يستغلها السرد كإشارات مضيئة للشخصيتين الرئيستين في طريقهما نحو التعافي والانعتاق.


سؤال الشكل

فحص الطريقة التي تشكل بها موضوع ما كي يعني شيئًا ما هو جوهريًا ما يعنيه التحليل الفيلمي. هنا تستعين بنتيلي في نصها بشخصيات حقيقية لتشكيل مادتها السينمائية، لكنها تعيد العمل على هذه المادة مضيفة مساحات من التخييل والخلق. فالنص الذي تقدمه بنتيلي هنا هو نص يصعب تصنيفه فهو نص هجين، يمزج بين ما هو وثائقي وما هو خيالي، بين الممثل والشخصية، وبين ما هو مكتوب مسبقًا وما هو مرتجل، وهي تستفيد من هذا الضبابية إلى أقصى حد.

فالحس الوثائقي في فيلمها يمنحنا نوعًا من العفوية والشفافية النادرتين في رصد شخصياتها وهي تمارس حياتها، كما تحظى سلوكيات هذه الشخصيات مهما تبدت غرابتها بقدر أكبر من تصديق المشاهدين. بينما يمنح التخييل النص مساحة أكبر من الحرية لاستكشاف الضعف والهشاشة أمام الكاميرا، وهي المساحة التي كانت ستتقلص تحت إطار التوثيق بدافع الخجل والخوف علي صور الذات أمام الآخرين، وكذلك سيفقد النص شيئًا من عفويته نتيجة الضغط الممارس علي الشخصيات كي تكون ذاتها.

تلجأ المخرجة دائمًا إلى وضع شخصيتيها الرئيسيتين على أطراف الكادر، أو تضبيب الكادر من حولهما لتعزيز إحساس الوحدة وانعدام الحميمية والتواصل، كما تصورهما كثيرًا خلف حواجز زجاجية وكأنهما حبيستا حالتهما الخاصة. يسود الأبيض في الخلفيات وأزياء الشخصيات وهو لون هادئ ومناسب للحالة التأملية للفيلم، مثلما هو لون محايد وبريء بالاضافة لدلالته السيكولوجيه كونه دالًا على الصراحة والرغبة في الاعتراف، وهو ما يخدم مساحات البوح والتعري في الفيلم.

يفاجئنا الفيلم من البداية بحضور الكاميرا داخل الكادر، وجود جزء من طاقم التصوير وكذلك وجود المخرجة نفسها وحوارها المفتوح مع شخصياتها. في أحد المشاهد تتبادل الممثلة الرئيسية لورا والمخرجة الأماكن، بحيث تجلس الممثلة خلف الكاميرا والمخرجة أمامها وتشرع في البوح عن ضعفها، وأحلامها، فالمخرجة بذلك تزرع نفسها بشكل واضح داخل نسيج الفيلم.

هذا الاختيار الشكلاني يجنح بالفيلم نحو ما يسمى بالميتا سينما (meta cinema) وهي أسلوب لصناعة فيلم يعمل ضد تقاليد السرد الكلاسيكية، يخبر المشاهد على نحو مباشر أن ما يشاهده هو فيلم وليس واقعًا بأي حال وهو ما يعطل استغراق المشاهد في الاندماج فيما يعرض أمامه من أجل نوع من المشاهدة الواعية للمادة المصورة. في الميتا سينما نحن أمام فيلم على وعي بذاته، يتأمل في مرآته الخاصة طريقة تعبيره الخاصة وكيف تشكلت.

هذا النزوع الشكلي في الحقيقة مناسب تمامًا لموضوع الفيلم ورغبة مخرجة في اكتشاف ظواهر الجسد، الرغبة والجمال بعيون جديدة وبعيدًا عن المعايير التقليدية الموروثة. لا يسعى الفيلم هكذا إلى كسب نوع من التماهي العاطفي مع شخصياته بل التأمل الواعي لها ولذاتك. ن طموح الفيلم ككل يكمن هنا تحديدًا، أن يحفزك كل هذا العري الممارس أمامك على الشاشة أن تتوقف عن التخفي، تتعرى أنت أيضًا من يقينك وأن تفسح مكانًا في مرآتك للظلال التي تسكنك مثلما تسكن كل شيء وهو ما يمنحك زاوية جديدة لرؤية ذاتك والآخرين.

فيلم «لا تلمسني Touch Me Not» فيلم يتعذر أن تحكيه أو أن تختزله في حبكة ما، بل يعاش كتجربة، وهو بهذا الصدد تجربة مقلقة ومحفزة في آن واحد.