يوحي «True Detective» بحديقة مسمومة، وحيث منبع السم هو الإنسان. لقد خربنا العالم وها نحن نعيش بين أطلاله حيث تتسلل الشرور من كل شق مثل دخان.
«نيك بيزولاتو» مؤلف مسلسل «True Detective»

يقدم لنا «نيك بيزولاتو» في تحفته «True Detective» الصادرة عام 2014، رؤية شديدة القتامة للإنسان والعالم، حيث الظلام يبسط جناحيه على كل شيء وحيث العالم وليمة مفتوحة لكل الشرور. عبر حبكة شديدة التعقيد والإثارة يحاول المحققان «رست كول/ماثيو ماكونهي» و«مارتن هارت/وودي هارلسون» الإمساك بقاتل متسلسل يمارس قتلاً طقوسيًا في السهل الساحلي من جنوب لويزيانا على مدار 17 عامًا.

يمثل الكشف عن القاتل المتسلسل جانبًا من حل اللغز الذي حاكه بيزولاتو ببراعة حقيقية، لكن قلب اللغز والذي يظل محتفظًا بشيء من غموضه حتى النهاية هو «رست كول» والذي ستصير شخصيته هي موضوع ما تبقى من هذا المقال.


«رست كول»: محقق بدرجة فيلسوف

ما الذي يجمع بين المحقق والفيلسوف؟ كلاهما يسعى للكشف عن الحقيقة عبر أدواته الخاصة. هل تخيلت من قبل «نيتشه» يهبط أبراج عزلته ويمارس عملاً اعتياديًا؟ هل تخيلته يومًا محققًا يحاول أن ينتزع الحقيقة من بين أسنان المشتبه بهم؟ عليك إذن أن تتخيله في هيئة رست بتلك النظرة في عينيه من فرط ما حدق في هاوية العالم.

هنا العالم كله مسرح جريمة، والحالة الإنسانية هي المتهم الأول. يقول رست: «نعم، في ذلك الوقت ومع تلك الرؤى كنت منتبهًا لحقيقة أنني أفقد عقلي، ولكن كانت هناك بعض الأوقات التي شعرت فيها أنني كنت أكتشف السر الحقيقي للوجود».

تمثل النظرة المتشائمة لشخصية رست الإطار الفلسفي للظلام الذي يضرب بجذوره في أعماق العالم. في عمق هذه النظرة سنجد أفكارًا لـشوبنهاور: «العالم حلقة مفرغة من العذاب والمعاناة وأن وعي الإنسان بهذه المعاناة هو لعنة الحالة الإنسانية، وأننا نواصل الحياة فقط لأن ذلك جزء من برمجتنا وأنه لا خلاص من ذلك إلا بالانسحاب من هذه الصفقة الفاشلة»، وأفكار لـ«نيتشه» مثل العود الأبدي ووهم الذات: «الذات ليست سوى وهم، والأنا الذي تتحدث عنه لا وجود له على الإطلاق»، أو أفكار أكثر قدمًا منبعها فلسفات الشرق كالهندوسية والتي تتحدث عن وهم الحرية وأننا مقيدون إلى الزمن، وأن حياة الإنسان ما هي إلا حلم في غرفة مغلقة نعاود الاستيقاظ داخله مرة بعد أخرى.

استطاع «بيزولاتو» أن يعبر عن ظلام العالم وعن بؤس الحالة الإنسانية عبر حبكته المتاهية، فما حاجته إلى هذا الاستطراد الفلسفي الذي تمثله آراء رست وتعليقاته؟ وإذا كان هذا ما يؤمن به رست حقًا من أن الضحايا سيسقطون مجددًا تحت رحمة نفس القدر، فلماذا إذن سعيه المحموم للكشف عن القاتل المتسلسل؟ هذا يقودنا إلى جوهر فكرة العود الأبدي عند «نيتشه». هل كان نيتشه يقصد بفكرته دعوة للاستسلام واليأس طالما أن ما حدث سيتكرر إلى الأبد؟ يقول نيتشه في كتابه «العلم المرح»:

نيتشه إذن يخبرنا أنه إذا ما كنت تؤمن حقيقة بالعود الأبدي فإنك ستكافح بأقصى ما استطعت لتصنع لنفسك أفضل حياة ممكنة، ولأن هذه الحياة هي كل ما تملك وأنها ستتكرر كما هي إلى الأبد. نعود الآن إلى رست، فالفتاة الأولى المقتولة خارج «ايراث» يعثر عليها في يوم ميلاد ابنته المتوفاة، بالإضافة لأن العنف الأكبر يمارس بوحشية ضد فتيات في طور الطفولة.

أعتقد أن ذلك يربط تلك القضية على نحو ما بابنته. بالإضافة لرجل مثل رست تشكل فكرة العود الأبدي هاجسًا لديه، فظهور الفتاة المقتولة في نفس يوم ميلادها يجعلها كما لو كانت هذه المرة ولدت مقتولة بهذه الوحشية. وكفاح رست من أجل حل هذه القضية لأنه يؤمن في أعماقه أن بإمكانه أن يكسر هذه الدائرة الجهنمية، بدليل أنه في النهاية وبعد مقتل القاتل، يرى ولأول مرة ابنته ويشعر بحبها تجاهه ويبدأ في رؤية شيء من النور في قلب هذه الظلمة الحالكة، فهذه الرحلة في قلب الظلام كانت من أجل خلاص ابنته وخلاصه.


الوحش في قلب المتاهة: الآن عليك أن تخلع قناعك

ماذا لو تسلل إليك في وحدتك شيطان وهمس إليك بأن هذه الحياة التي تعيشها الآن ستتكرر إلى الأبد؟ كل ألم أصابك وكل بهجة واتتك، كل فكرة، كل تنهيدة سوف تعود إليك. هل ستلعن هذا الشيطان أم ستتهلل لما سمعته؟
العالم قناع، وهذا الوجه الذي ترتديه ليس وجهك الحقيقي.
رست كول

بالرغم من آراء راست وتعليقاته التي يغرق بها الشاشة، إلا أنه يظل متحفظًا حول ماضيه، يحوم حوله مثلما يحوم مجرم حول موقع جريمته. قلب المتاهة والوجه الحقيقي لراست كامن في ماضيه الذي لم يصلنا منه سوى شذرات، أنه كان متزوجًا ولديه ابنة، وأنه فقد طفلته في حادث وبعدها انفصل عن زوجته. رغم نواياهما الطيبة، كل منهما كان يلوم الآخر أنه لا يزال حيًا.

مشاعر الذنب القوية دفعته أن يغمر جسده وروحه في دائرة من العنف والانحلال، عمل أربع سنوات كشرطي متخفٍ مع عصابات مخدرات وسط أهوال جمة عله ينسى وجه حزنه. إذن هذه الرؤية المتشائمة/القناع لم تكن له من البداية، وأنه تبناها نتيجة عجزه عن مواجهة حزنه على فقد ابنته فاختبأ خلف هذا القناع.

تحدث رحلة راست إلى قلب الظلام أو نزوله إلى الجحيم على مستويين؛ الأول خارجي غرضه الوصول إلى قلب المتاهة وكشف القناع عن وجه الملك الأصفر أو وحش كاراكوسا. والمستوى الثاني داخلي غرضه أن يسقط قناعه الخاص ويواجه حزنه، الوحش الحقيقي الذي يلتهم روحه. في قلب المتاهة حين يلتقي بالوحش وفي اللحظة التي يطعنه الوحش يقول له: «الآن عليك أن تخلع قناعك».

هذه الطعنة كانت بمثابة مدخل للضوء، فالتحول الذي يبديه راست في النهاية وحديثه عن انتصار الضوء هو اتساع للمنظور الذي كان يبصر به العالم. ففي رؤياه يرى نفسه جزءًا من كل شيء أحب ذات مرة وهذا الحب هو الذي يمنح لكل هذه المعاناة معنى.

في النهاية يظل راست واقعيًا ومتسقًا مع ذاته تمامًا مثل الرعب الذي يقدمه العمل، فهو رعب متجذر فيما هو أرضي وإنساني. فالضوء الذي يبصره ليس ضوءًا مفارقًا ولا عزاءً دينيًا بل شيء كامن في قلب هذه الظلمة، شيء دافئ وحنون.