انتخاب الرئيس يعني أن الشعب يوافق على سياسته ويريد منه تنفيذ وعوده. لذا فما المعنى أن تنتخب رئيسًا من بين عدد من المترشحين ثم نحجر عليه حقه في تنفيذ برنامجه. هكذا فهم الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» الأمر بهذه البساطة، وهكذا يعمل.ترامب لا يريد معارضين داخل إدارته، ولا يريد مؤيدين متعقلين كذلك. فالرجل يبحث عمن يشبهه، بل عمن يفوقه تطرفًا. ترامب يريد من يرى أن كل مشكلة تظهر يجب التعامل معها عسكريًا لا دبلوماسيًا. وبدلًا من أن يقف في البيت الأبيض يعلن عن حلوله وسط مجموعة من المتجهمين، يريد أن يحيط نفسه بمجموعة مبتسمة لقراراته الشديدة.

اقرأ أيضًا: ماذا لو كان ترامب قائدًا للسفينة «تيتانك»

لذا فإن شهر مارس/آذار الحالي قد شهد سلسلة من التغييرات متباعدة المواقع، متقاربة الأهداف، في الإدارة الأمريكية. هذه التغييرات تؤدي إلى نتيجة واحدة لا لبس فيها، مزيد من الحمائية في التعامل. فالصقور الجديدة لا تعرف التفاوض، إنما تقتل ثم تسأل.


صقور المخابرات تسيطر

التغيير الأحدث منذ ساعات مضت تولية «جون بولتون» بديلًا لـ «هربرت ماكماستر» كمستشار للأمن القومي. بولتون يدعو إلى مواجهة إيران علنًا، ولا يواري في ضرورة إسقاط النظام الإيراني. الرجل هو الأب الروحي لتحالف « 14 آذار» اللبناني، فريق متشدد تجاه سوريا وحزب الله، وكرم التحالف بولتون عام 2006. يرى بولتون أن الحدود التي رسمها الأوروبيون حدود باطلة، لذا فالحل هو مزيد من التقسيم. على سبيل المثال يجب تقسيم سوريا والعراق إلى مقاطعات عرقية عديدة.لم يتخلَ بولتون عن قناعاته يومًا. دعم غزو العراق بشدة، ويرى أن أكبر خطأ ارتكبه الأمريكيون هو الانسحاب عام 2011. اللافت أن رغبته في غزو العراق ليست لنفطها أو لأهميتها الاقتصادية، لكن لأنها تمثل القاعدة الخلفية لمواجهة إيران. مواجهة إيران، الحلم الذي يؤرق بولتون حتى أنه شارك مع رئيس الموساد الأسبق «مئير دغان» في الترويج لسياسات محاصرة إيران عام 2002.

الجدير بالذكر في سيرة بولتون، بجانب شاربه المميز، هو علاقته بـ «شلدون أدلسون»، صهيوني يعتبر الممول الرئيسي لترامب ونتنياهو في الوقت ذاته. لذا فمن المتوقع أن يكون له عظيم الأثر على سياسات ترامب فيما يتعلق بإيران. ناهيك أن تصريحات ترامب عدائية من الأصل لكن سينقل بولتون التصريحات إلى مرحلة أخرى. يساعده في ذلك فرحة ترامب الشديدة به، وثقته الكبيرة بآرائه.

اقرأ أيضًا:حمائية ترامب: الطريق إلى حرب تجارية قادمة كذلك يرى بولتون أن حل المأساة الفلسطينية هو إقامة 3 دول، فلسطين ليست إحداها. غزة تحكمها مصر، الضفة الغربية تحكمها الأردن، والباقي لإسرائيل. إذن، فحل القضية الفلسطينية في رأي بولتون هو أن تتلاشى فلسطين. كذلك يناصب الرجل روسيا عداءً واضحًا، وهو بذلك يتفق مع ترامب في كل آرائه، ويزيد عليه في العداء الشديد لروسيا بدلًا من اللهجة الهادئة التي ينتهجها ترامب معها.


الدبلوماسية للضعفاء،ليست لـ«بومبيو»

دعنا نقسم شاشة تلفازك إلى نصفين. على اليمين إعلان عاجل لتعيين «جون بولتون» مستشارًا للأمن القومي، على اليسار وزير الخارجية «ريكس تيلرسون» يلقي خطابه الأخير قبل أن يسلم مقاليد الوزارة إلى «مارك بومبيو». بعيدًا عن الإقالة المهينة لتيلرسون التي تلقاها عبر تويتر، فإن تعيين بومبيو يؤشر على تغير مفصلي في السياسة الخارجية.بومبيو رجل مخابرات من الطراز القديم، لذا فإنه سيحكم بعقلية وزير خارجية أقوى دولة في العالم. الدولة التي تمتلك جيشًا جرارًا، ولها أكثر من 800 قاعدة عسكرية حول العالم، ولها يد نافذة اقتصاديًا وسياسيًا على العالم أجمع. فإذا كان الأمر كذلك، فما الداعي لهراء الدبلوماسية والحلول الوسط.الرجل هو الآخر صقر من صقور المعارضة. يتفق مع بولتون على ضرورة إلغاء الاتفاق النووي مع إيران، ويتجاوزه إلى التنديد بإغلاق معتقل جوانتانامو.

بعض المساجين الذين أعلنوا إضرابًا عن الطعام قد زاد وزنهم
مارك بومبيو- أثناء زيارته للمعتقل في 2013

أعلن صراحةً أن الإسلام هو المسئول عن الإرهاب. وأن جانبًا من المسئولية يقع على علماء الدين الذي قامت باسمه معظم الهجمات الإرهابية في الـ20 عامًا الأخيرة، لذا فهم متواطئون مع الإرهابيين سواءً بسواء، والعقاب الذي ينال المُنفذين يجب أن يذهب بعضه لهؤلاء العلماء.


المرأة المرعبة وآخرون

«جينا هاسبل»مديرة وكالة الاستخبارات الأمريكية الـCIA

سنأخذ من شاشة تلفازك حيزًا آخر نضع فيه «جينا هاسبل». المرأة الأولى التي تتولى رئاسة وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية. المرأة المرعبة ارتبط اسمها بقضايا تعذيب شنيعة. من ضحايها المعروفين «أبو زبيدة» و«عبد الرحيم الناشري»، من أعضاء القاعدة. بعد انتهاء تحقيقاتها معهم أمرت بتدمير أشرطة المراقبة التي سجلت سير التحقيقات، ما زاد من بشاعة التكهنات حول ما جرى مع المعتقلين.دائمًا ما لُقبت السجون التي ترأسها هاسبل بالـ «حفر السوداء». من أبرزها سجون الولايات المتحدة في تايلاند عام 2002، إذ استخدمت فيها أساليب الإيهام بالغرق، والاعتداء الجسدي، والحرمان من النوم والطعام، إلى آخر الأساليب الوحشية في التعذيب. وفي بعض التقارير المنقحة المعلن عنها صرح عدد ممن عملوا معها في تايلاند بأنهم تركوا العمل لعدم استطاعتهم الاستمرار في تحقيقات بهذه الوحشية.على هامش شاشتك المزدحمة سنضع الإقالات الأخرى التي تمت هذا الشهر فقط. أولًا النائب السابق لمدير مكتب التحقيقات الاتحادي «أندرو مكابي». الإقالة جاءت بزعم أنه ضلل محققي التدخل الروسي بمعلومات خاطئة، إلا أنه صرح بالعكس. قال إن الإقالة جاءت لأنه أدلى بتصريحات حقيقية حول ما عاينه وعرفه بعد إقالة «جيمس كومي»، وأن الخطوة انتقامية بحتة.ثانيًا استقالة «هوب هيكس» مديرة الاتصالات في البيت الأبيض. استقالتها جاءت بهدوء ودون إبداء أسباب. لكن تتبع أيامها الأخيرة في المنصب يؤدي إلى أنها خضعت لجلسة تحقيق امتدت 9 ساعات. لجنة التحقيق كانت لجنة الاستخبارات في الكونجرس، ودارت الأسئلة حول اتصالات حملة ترامب مع الروس.ولما وجدت عارضة الأزياء السابقة، والموظفة السابقة في إحدى شركات «إيفانكا ترامب» للموضة، نفسها في وسط تحقيقات كبرى آثرت الاستقالة. كذلك لأنها وجدت نفسها مضطرة للدفاع عن «روب بورتر» السكرتير السابق لشئون الموظفين، وصاحب الاستقالة الثالثة هذا الشهر. ربما بورتر هو الوحيد الذي استقال بدون وجود شبهة لتدخل ترامب في استقالته. الرجل استقال بعد أن رفعت زوجتاه السابقتان قضية تتهمانه فيها بسوء معاملتهما. ولما كانت هوب هيكس هى خليلته الحالية فكان من الضروري أن تخضع للتحقيق بخصوص هذه القضية أيضًا، ما شكل دافعًا أقوى للهرب من كل هذا.

ابتسم، فالعالم يشتعل

جينا هاسبل، وكالة الاستخبارات الأمريكية الـCIA
جينا هاسبل، وكالة الاستخبارات الأمريكية الـCIA
التغييرات الأخيرة جاءت قبل حدثين مهمين، أولهما القرار المرتقب في منتصف مايو/آيار القادم بخصوص البقاء في الاتفاق النووي مع إيران أم الانسحاب منه. الحدث الثاني هو القمة المقرر عقدها بين ترامب وزعيم كوريا الشمالية. من المؤكد أن بولتون سوف ينصح ترامب بالانسحاب من الاتفاق، وبضرورة الحل العسكري لمواجهة كوريا الشمالية كما يصرح دائمًا.يدعم تلك النظرية تصريحات ترامب التي قال فيها: إنني أرى الاتفاق مع إيران أمرًا رهيبًا، بينما يراه تيلرسون مقبولًا. أردف أنه أراد إلغاءه، أو على الأقل القيام بتغييرات فيه، لكن تيلرسون نصحه بالإبقاء عليه كما هو. لذا وصل ترامب إلى استنتاج أنه لا يمكن أن يتفق مع تيلرسون، وأن الخلاف بينهما لا يمكن أن يستمر. إذن تم تعيين بومبيو لنفس الأسباب التي من أجلها عُين بولتون.لذا فبوضع نيران ترامب المشتعلة بجانب نفط الوافدين الجدد للإدارة فإن العالم على بعد أيام من شهادة نار كبرى. ستحرق أولًا السلام مع إيران، وترفع لهجة العداء ضدها. ثم تعيد الوضع مع كوريا الشمالية إلى سابق عهده إن لم يكن أسوأ. كذلك ستدفع تلك النار القضية الفلسطينية إلى منطقة أكثر بياضًا للجانب الإسرائيلي، وأشد سوادًا للجانب الفلسطيني. وستكشف الأيام المتتابعة ما ستأكله النار بعد هؤلاء.