إن الرغبة في البحث عن الحقيقة نابعة من الرغبة في تملكها، على أمل أن يكون هذا الباحث أول مالك لها وأن يجدها عذراء لم يسبقه إليها أحد.
فريدريك نيتشه

في البداية لابد أن نعترف أن النظرة السائدة في مجتمعاتنا عن الحقيقة، تلك النظرة القاصرة بشموليتها القاطعة الحاسمة المغرورة الرافضة لأي جدال، تتربع في علياء برجها العاجي تنظر باستخفاف وازدراء لكل طرح مختلف يرى أنه حقيقة مغايرة، هذه النظرة إنما هي نتاج نسق فكري نرجسي منغلق على ذاته أورثنا وعيًا جمعيًا يكاد ينبذ الآخر لأنه لا يمتلك حقيقتنا المطلقة، حقيقة أننا الأفضل والأحق والأجدر بكل شيء والآخرون ما هم إلا ديكور على هذا المسرح الكوني العظيم الذي خُلق لنا وحدنا، فكل مشكك في هذا الاعتقاد خائن، وكل ناقد له حاقد، وكل مُفكر خارج إطاره مُدعٍ، وكل ساعٍ لتجديد منطلقاته مُضلل ومبتدع.

اقرأ أيضًا:الإشكالية العربية: من القيود الفكرية إلى الحقيقة المطلقة

قبل الحديث عن «الحقيقة» أرى أنه من الأفضل تفكيك هذا المصطلح الغامض والملتبس، نظرًا لاختلاف مجالاتها وتنوعها واختلاف أوجهها، وبالرغم أن بعض الفلاسفة يرون أن الحقيقة مفهوم بسيط وأساسي وغير قابل للتفسير بأي شكل يُسهّل فهمه أكثر من مفهوم الحقيقة نفسه، فإننا سنناقش الحقيقة كأمثلة من منظور مفهومها الشامل ومعناها الخاص في ذاته. وهناك فارق بين معنى الحقيقة في ذاتها والمفهوم الأشمل والأعم؛ وهما وجهان لشيء واحد لكن التباين بينهما قائم على العلاقة بين اللغة والفكر ومقدار التجانس بينهما.

نستطيع أن نُعرف الحقيقة كمعنى على أنها: الاتفاق مع الواقع؛ الشيء الثابت يقينًا، عبارة يثبت أو يُقبَل صدقها[1]، كأن نقول مثلًا إن اليوم 24 ساعة هذه حقيقة في ذاتها، لكن هل نستطيع أن نقول إن اليوم على كوكب عطارد مثلًا يساوي 24 ساعة؟ بالطبع لا. إذًا فالحقيقة بمعناها تكون قياسًا ونسبة إلى شيء ما، لذلك يرى البعض أنه لا يوجد واقع حقيقي ثابت، بل هي مجرد آراء وانطباعات وتأويلات نسبية.

أما الحقيقة كمفهوم: فهي تعتمد على تأثير اللغة في الفكر، فقد يقال إنها الشيء الصادق، أو يقال إنها الشيء الصائب، فالأول، منظور أخلاقي، والثاني، يقودنا إلى منظور معرفي. فالأول، ينطلق من معتقد وحدس، والثاني، يعتمد على الملكات الحسية، لذلك فنحن نظن أننا نستطيع أن نحكم على الشيء بأنه حقيقي من خلال منظورين: الأول، هو الإيمان القائم على الحدس ولا يشترط وجود أدلة حسية لتعزيز الحكم بحقيقة الأشياء، إنما يعتمد على البداهة والغريزة والوازع الأخلاقي، والمنظور الآخر هو الحكم اعتمادًا على الحواس.

إذن نستطيع أن نصف الحقيقة بمفهومها الشامل على أنها: التصور الذي يشكله وعينا من خلال المعطيات المتاحة اعتمادًا على مستقبل داخلي، سواء كان العقل الذي يعالج تلك المعطيات المكتسبة بواسطة الحواس أو ما يوجهنا إلى الأشياء بالغريزة والشعور، أو ما يسمى بالحدس كالموروثات العقائدية والعادات والأعراف على سبيل المثال، وبما أننا بدأنا طرحنا هذا داخل إطار فكري فإننا سندع الحدس جانبًا وسنتحدث عن ذلك المنظور القائل باعتماد الحواس كدليل على الإقرار بحقيقة الأشياء.

لا شك أن الدهشة التى اعترت عقول البشر منذ تلامست حواسنا مع ظواهر الكون دفعتنا للبحث عن أصل وجوهر الأشياء عن ذلك الغامض المجهول الكامن خلف ستار الظواهر والعوارض، من ارتفاع المد على الساحل بغروب الشمس إلى البرق الذي يتبعه الرعد في سماء ملبدة بالغيوم، من نمو الجنين في رحم أمه لحركة الكواكب في مداراتها، من تعاقب الليل والنهار لاختلاف المناخ بين الفصول، من نشأة الحضارات لفناء النجوم، كل ذلك دفعنا بقوة للسؤال عن العلة والغاية والهدف وعن الحقيقة الكامنة خلف هذا التغير الدائم والحركة التى لا تنتهي.

لكن هل يمكننا أن نطلق على الشيء أنه حقيقة حتمية ونبني على ذلك قناعة راسخة قد تدفعنا لعدد لا حصر له من القرارات والأفعال لمجرد أن ذلك الحكم كان النتيجة النهائية التي توصلنا لها، رغم تقيدنا بملكاتنا وحواسنا وإدراكنا للأشياء، هل يجوز تحويل طبيعة الحياة المتغيرة إلى نمط ووضعها في إطار ثابت دائم لمجرد استنتاج عقل قد يكون هو نفسه قاصرًا؟ لا أظن ذلك وإلا ما غيّر العالم نظرته عن الفكرة القائلة بمركزية الأرض في الكون ولأصبحنا إلى اليوم معتقدين بها، إذًا فالعقل يناقض نفسه عندما يتوهم بامتلاك هذه الحقيقة اللحظية – قياسًا إلى عمر الوجود الأزلي – ويوحي لنا بمطلقيتها، ذلك لأن التجربة أثبتت أن الحقيقة متغيرة بتغير الزمن، فنظرية مركزية الأرض اليوم هي بمثابة ضرب من ضروب الجنون، ومن يدري ربما يأتي اليوم الذي يرى فيه البشر إيثار تجارة السلاح على توفير الطعام جنونًا أيضًا، خاصة إذا علمنا أن العالم أنفق ما يزيد على 1.6 بليون دولار أمريكي على شراء السلاح العام قبل الماضي وذلك وفقًا لموقع Statista المتخصص في إحصاءات الاقتصاد العالمي.

بينما أشار تقرير آخر عن اليونيسيف في ذات العام إلى معاناة ما يزيد على 800 مليون شخص حول العالم من الجوع، لكن إلى أن يأتي ذلك اليوم علينا أن ندرك أن كل شيء حولنا نسبي متغير، وهذا ما أقره العلم والفلسفة على حد سواء.

لنرى إذًا بإيجاز موقف الفلسفة والعلم من الحقيقة المطلقة.


الحقيقة المطلقة في نظر العلم

من المعروف أن العلم ببساطة هو المعرفة الناتجة عن دراسة طبيعة الأشياء، سنتحدث هنا عن فرع واحد من فروع العلوم وهو الفيزياء، والمادة فيزيائيًا ينظر إليها من منظورين: منظور الجسيمات دون الذرية متناهية الصغر، وهذه اختصت بدراستها وتحليلها مجموعة من النظريات سُمّيت بميكانيكا الكم. ومنظور الأحجام ذات الكتل الكبيرة، واختصت بتفسير سلوكها النظرية النسبية العامة لآينشتاين، وسنناقش نظرة كلتيهما عن الحقيقة.

أولًا، نظرية النسبية العامة «Theory General Relativity»: يكفي اسم النظرية فقط، فهو يعبر عما نريد قوله هنا، فالمكان والزمان والحركة والتسارع والقصور الذاتي والجاذبية كل ذلك طبقًا لهذه النظرية نسبي يتوقف على العلاقة بين الراصد والمرصود، بين الساكن والمتحرك، فالأرض الثابتة تحت أقدامنا تتحرك نسبة إلى محورها، والزمن المتدفق بوتيرة واحدة بنسبة لنا يتباطأ في سفينة الفضاء، وجاذبية الأرض لا تذكر قياسًا بجاذبية نجم نيتروني، والنجم الساطع أمام أعيننا في سماء صافية قد يكون اندثر من ملايين السنين، ومجرتنا درب التبانة واحدة من مجرات مجموعتنا المحلية، وهي جزء ضئيل في عنقود مجرات العذراء العظيم، وهو قطرة في محيط لا نهائي من مجرات كون واحد من عدد لا نهائي من الأكوان، كذلك لا تنطبق الهندسة الإقيلدية الأرضية على عموم الكون، فمجموع زوايا المثلث قد لا تساوي 180 درجة دائمًا، والضوء لا يسير في خطوط مستقيمة في جميع الأحيان، كذلك كل القوانين الفيزيائية والرياضية والاعتبارات الزمانية والمكانية قد تنهار ببساطة شديدة عند متفردة الثقب الأسود، وهناك عدد لا نهائي من الأسرار والمجاهيل التي ما زلنا لا نعلمها عن طبيعة الكون[2].

ثانيًا، ميكانيكا الكم «Quantum Mechanics»: وميكانيكا الكم هي مجموعة من النظريات التي جاءت في بدايات القرن العشرين لحل إشكاليات لم تستطع الفيزياء الكلاسيكية تفسيرها، إشكاليات تتعلق بشكل الذرة وتكوينها وأطوال الأطياف الموجية لكل ذرة وأشياء من هذا القبيل، إحدى هذه الإشكاليات الكبرى تتمثل في تحديد موضع وسرعة الجسيم على ما يعرف بالدالة الموجية «Wave Function»، ونستطيع أن نعرف الدالة الموجية على أنها حالة نظامٍ ما يمكن وصفها وصفًا كاملًا باستخدام دالة رياضية، الوصف الكامل هذا يشمل تحديد موضع الجسيم وسرعته، لكن العقبة التي واجهت العلماء أنهم لم يتمكنوا من تحديد موضع وسرعة الجسيم معًا بدقة ترقى لليقين، وهذا ما دفع العالم الألماني هايزنبرج لصياغته في معادلة رياضية وأطلق على هذا اسم «مبدأ الريبة أو عدم التأكد». وينص هذا المبدأ على أنه لا يمكن تحديد خاصيتين مقاستين من خواص جملة كمومية إلا ضمن حدود معينة من الدقة، أي أن تحديد إحدى الخاصيتين بدقة متناهية (ذات عدم تأكد ضئيل) يستتبع عدم تأكد كبير في قياس الخاصية الأخرى، ونتائج هذا المبدأ مخيبة لآمال أنصار الحقيقة المطلقة، فقد وصف هايزنبرج تلك النتيجة الباهرة لمبدأ عدم التأكد عندما نفي سريان مقولة إنه «يمكننا معرفة المستقبل إذا عرفنا الحاضر بدقة»، وقال:


الحقيقة عند الفلاسفة

إن عدم استطاعتنا معرفة المستقبل لا تنبع من عدم معرفتنا بالحاضر، وإنما بسبب عدم استطاعتنا معرفة الحاضر.
يقول فردريك كوبلستون في كتابه «تاريخ الفلسفة»:
لا وجود لحقيقة مطلقة، فمفهوم الحقيقة المطلقة هو اختراع من اختراعات الفلاسفة الذين لا يقنعون بعالم الصيرورة، ويبحثون عن عالم ثابت لا يتغير، إن الحقيقة هي نوع من الخطأ بدونه لا يستطيع نوع معين من الموجود أن يحيا[3].

لكن مع ذلك يرى بعض الفلاسفة أن الحقيقة المطلقة ممكنة ما دام أن الإنسان يمتلك عقلًا مفكرًا هذه الحقيقة التى ترتقي بالإنسان من الحسي إلى المجرد، وهم يتفقون مع من يجزم بعدم وجود حقيقة مطلقة أمثال كوبلستون في أنها إن وُجِدت فليست في عالمنا المادي، وإنما في عالم مجرد مفارق لعالمنا، وفيما يلي لمحات موجزة لرؤى بعض الفلاسفة عن الحقيقة:

بروتاغوراس: وهو زعيم ومنظر الفلسفة السوفسطائية والذي رأى أن الإنسان مقياس كل شيء، ما يوجد وما لا يوجد أيضًا. ويقصد بذلك أن الفرد يدرك المعرفة بحواسه النسبية المتغيرة، ولذلك فالمعرفة سوف تصبح نسبية أيضًا، فلا يوجد معيار ثابت للحقيقة أو الصواب والخطأ، لذلك أكد على أنه ما تراه حق فهو حق بالنسبة لك، وما أراه باطلًا فهو باطل بالنسبة لي.

أفلاطون: يميز أفلاطون أنطولوجيًا (وجوديًا) بين عالمين: العالم الحسي وعالم المثل. أما الأول: فهو عالم مادي متغير ناقص ومزيف، موجوداته هي بمثابة ظلال لموجودات عالم المثل. وهذا الأخير: عالم معقول، ثابت كامل وفيه توجد النماذج العليا لكل الموجودات. والعلاقة بين العالمين هي علاقة حقيقة بخيال، فالحقيقة إذًا يجسدها عالم المثل وليس عالمنا المادي المزيف.

أرسطو: رأى أرسطو أن العقل وحده غير قادر على معرفة الحقيقة لأن العقل ليس له إطار أو منهج متسق للحكم على الأمور، لذلك اخترع المنطق الصوري المكوّن من جمل باللغة البشرية العادية، وهو بمثابة الميزان والمعيار الأساسي لمعرفة التفكير الصحیح، وهو يرى أن لكل شيء في هذا العالم عبارة عن جوهر، وهذا الجوهر هو الحقيقة، ويرى أن حقيقة هذا الجوهر لا تتاح كاملة إلا بتجاوز الحسي.

ديكارت: لا يعترف ديكارت بقيمة المعرفة الحسية؛ فجعل من الشك الطريق الأساسي لبلوغ الحقيقة. هكذا أسس ديكارت الكوجيتو الخاص به وانطلق منه لإثبات الحقائق بالبرهان، فشكك في كل المعارف الموروثة، وفي المعرفة الحسية. واعتبر أن الحقيقة من إنشاء العقل نفسه. فالحقيقة في نظر ديكارت هي ما ينتهي إليه الشك.

إيمانويل كانط: تساءل كانط: هل هناك معيار كوني ومادي للحقيقة؟ وهل هناك معيار كوني وصوري للحقيقة؟ وفي إطار إجابته عن هذين السؤالين، رأى كانط أنه لا يمكن أن يوجد معيار كوني ومادي للحقيقة لأن الحقيقة المادية هي تلك المطابقة لموضوعها، والحال أن موضوعات الحقيقة تختلف وتتعدد مما يتعذر معه وجود معيار كوني لها. بالمقابل يرى أنه يمكن الحديث عن وجود معيار كوني وصوري للحقيقة، ويتمثل هذا المعيار في مطابقة المعرفة لقواعد المنطق ومبادئ العقل، لكنه يرى أيضًا أن العقل يبحث دائمًا عن المطلق، ولكنه عاجز عن اقتناصه، لأن اقتناصه في رأيه يفقده مطلقيته ويحيله إلى نسبي لأن العقل نسبي بالأساس، إذًا فالعقل يدور في دائرة مفرغة يستحيل أن يصل إلى حقيقة مطلقة طالما هو جزء من وجود نسبي متغير[4].

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.

المراجع
  1. قصة الفلسفة، ويل ديورانت
  2. النسبية مقدمة قصيرة جدًا، راسل ستانارد
  3. تاريخ الفلسفة، فردريك كوبلستون
  4. أفول العقل، مراد وهبة