الانتخابات الرئاسية والتشريعية تهمنا، ويجب إعداد العدة للمرحلة القادمة. ما تلعبش بالنار وما تلعبش مع الاتحاد.. عليك إعادة قراءة التاريخ.. صبر الاتحاد على المراهقين في السياسة نفذ.

الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي، موجهًا حديثه إلى حكومة يوسف الشاهد.

مستمدًا قوته من 700 ألف منتسب، ينتشرون في كافة أرجاء تونس، ويمثلون نحو 6% من عدد سكانها و13% من جملة من يحق لهم التصويت في الانتخابات،لوح اتحاد الشغل التونسي باقتحام المعترك السياسي بشكل مباشر، عبر الدفع بمرشحين باسمه إلى الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقبلة، أو على الأقل دعم أحد أطرافها بشكل علني.

إشارات «الاتحاد» جاءت في خضم أزمة سياسية حادة تعيشها تونس، وفي سياق تصاعد أزمته مع رئيس الوزراء يوسف الشاهد، على خلفية معركة زيادة أجور الموظفين، وهي الأزمة التي من المتوقع أن تصل إلى ذروتها في 17 يناير/ كانون الثاني الجاري،بإضراب وطني عام يشمل جميع موظفي وشركات الدولة.

تُعيدنا تصريحات قادة «اتحاد الشغل» إلى تاريخ قديم، تمتد أصوله إلى ما يربو على سبعة عقود، لعب «الاتحاد» خلالها دورًا تجاوز بكثير كونه مجرد تنظيم نقابي ضخم، إلى كونه فاعلًا سياسيًا أساسيًا في كل المراحل التي مرت بالدولة التونسية منذ العشرية الأخيرة للاستعمار الفرنسي، وإلى الآن.


«الاتحاد» قبل 2011: تأرجح بين الاستقلال والخنوع

تأسس الاتحاد العام التونسي للشغل مطلع العام 1946، على يد المناضل النقابي فرحات حشاد، كمحاولة لجمع وتنظيم عمال تونس من أجل الدفاع عن حقوقهم، بعدما أفشل الاحتلال الفرنسي تجربتين سابقتين لإنشاء تنظيم نقابي تونسي وطني. ولأن النقابة نشأت تحت سلطة الاحتلال، وكفعل مقاوم لها، فقد لعبت دورًا مهمًا في رفضه ومناهضته، حتى تم لتونس الاستقلال عام 1956. ودفعت ثمن ذلك من دماء أعضائها، وعلى رأسهم الزعيم حشاد، الذي اغتيل على يد منظمة «اليد الحمراء» الفرنسية عام 1952.

ارتبط الاتحاد التونسي للشغل منذ نشأته بـ«الحزب الحر الدستوري الجديد»، الذي كان يقود العمل النضالي ضد الاحتلال الفرنسي. ولعب قادة «الاتحاد» دورًا تاريخيًا في تحديد مستقبل تونس، بدعمهم الحبيب بورقيبة في صراعه مع صالح بن يوسف على قيادة «الدستوري الحر»، إذ حمى قادة «اتحاد الشغل» مؤتمر صفاقس، الذي أقيم في نوفمبر/ تشرين الثاني 1955، ونجح بورقيبة من خلاله في إقصاء بن يوسف وأنصاره الذين طردوا من الحزب.

شكل «اتحاد الشغل»، واتحادا «الصناعة والتجارة» و«الفلاحة»، مع الحزب الحر الدستوري الجديد بقيادة بورقيبة، «جبهة قومية»، دخلوا بها انتخابات المجلس القومي التأسيسي عام 1956، واكتسحوها. كان الحبيب بورقيبة خطيبًا مفوهًا، وسياسيًا مناورًا، لكن لم يكن له برنامج اقتصادي، وهنا جاء دور «اتحاد الشغل» الذي كان يحمل برنامجًا اقتصاديًا اشتراكيًا.

توطدت علاقة الارتباط بين «الاتحاد» والحزب الدستوري الحاكم، فأصبح قادته أعضاء في الديوان السياسي للحزب ومجلس الأمة (البرلمان)، لكن العلاقة لم تكن تبعية خالصة، بل قامت على الشد والجذب. كان «اتحاد الشغل» بقيادة الحبيب عاشور، يحاول ضمان استقلالية نسبية والحصول على مكاسب لمنتسبيه، في مقابل الولاء السياسي لبورقيبة والحزب الدستوري (الاشتراكي الدستوري فيما بعد)، بينما كان بورقيبة يريد من «اتحاد الشغل» ما هو أكثر من التبعية؛ كان يريد تدجينه وإذابته في قواعد الحزب ومسخ كيانه.

خلال عملية الشد والجذب بين الطرفين، انقطعت شعرة معاوية ثلاث مرات.أولها كانت عام 1964، عندما أقر الحزب الدستوري لائحة تفيد بأن المنظمات الوطنية، بما فيها «اتحاد الشغل»، صارت جزءًا من خلايا الحزب. رفض قادة النقابة القرار، وأعلن أمينه العام الحبيب عاشور، أن «الاتحاد» مستقل ولن يكون تحت هيمنة حكومة أي حزب سياسي، فقام بورقيبة بسجنه، ولم يراع له دعمه السابق في صراعه مع صالح بن يوسف، كما نصب مكانه أمينًا عامًا مواليًا له.

عاد عاشور إلى قيادة «الاتحاد» عام 1970، في إطار خطة النظام لتطويق الأزمة السياسية والاقتصادية التي اندلعت إثر فشل «تجربة التعاضد» (التعاونيات). استمر عاشور يوازن الأمور ويحافظ على شعرة معاوية حتى أتت لحظة الانفجار في مطلع عام 1978، وأعلن «اتحاد الشغل» الإضراب العام في 26 يناير/ كانون الثاني، المعروف بـ«الخميس الأسود»، احتجاجًا على تدهور الأحوال بسبب سياسات النظام الاقتصادية. قمعت السلطات المظاهرات بشراسة فقتل وأصيب العشرات، كما تم اعتقال الحبيب عاشور وأغلب قيادات النقابة وإحالتهم إلى المحاكمة أمام محكمة أمن الدولة.

مرة أخرى،عاد عاشور إلى رئاسة «الاتحاد» عام 1981، بضغوط من أعضاء النقابة، لكن علاقته بالسلطة كانت تنتقل من سيئ إلى أسوأ، خاصة بعد موقفه الداعم ضمنيًا لـ«انتفاضة الخبز» التي اندلعت مطلع عام 1984 احتجاجًا على زيادة سعر الخبز وعدد من السلع الأساسية. عملت أيادي النظام على تفتيت النقابة وإذكاء الصراعات بين عناصرها، حتى أطيح بالحبيب عاشور من منصبه عام 1985، وبعدها تم اعتقاله ومحاكمته، مع قيادات نقابية أخرى، في قضية عمالية عرفت باسم قضية التعاضدية العمّالية للإنتاج «كوسوب».

طويت مرحلة الحبيبين، بورقيبة وعاشور، عام 1987، بعدما صعد الجنرال زين العابدين بن علي إلى السلطة بانقلاب ناعم على بورقيبة. بدأت مرحلة جديدة اتسمت بالاستقرار والهدوء. أتقن نظام بن علي فن المساومة فعرف متى يتقدم ومتى يتراجع، فيما رضي قادة النقابة، بزعامة إسماعيل السحباني ومن بعده عبد السلام جراد،بالامتيازات التي قدمها لهما النظام مقابل المهادنة ودعم بن علي (أعلن «الاتحاد» عام 2004 مساندته ترشح بن علي لولاية رئاسية جديدة بعد تعديله الدستور). وهكذا سارت الأمور خلال التسعينيات والعشرية الأولى من الألفية الجديدة.


«الاتحاد» بعد الثورة: أقوى قوة في البلد

عاش عاش الاتحاد.. أقوى قوة في البلد
شعار الاتحاد العام التونسي للشغل

في بداية تظاهرات ثورة الياسمين أواخر عام 2010،أعلنت قيادة الاتحاد العام التونسي للشغل النأي بنفسها عن المظاهرات المطالبة برحيل زين العابدين بن علي، لكن على الأرض كانت مكاتبه المحلية والجهوية تقود الاحتجاجات وتؤطرها، مستغلة انتشارها على كافة أرجاء التراب التونسي وقوة الترابط وسرعة التواصل بينها.

عقب نجاح الثورة، برز «اتحاد الشغل» كقوة سياسية واجتماعية لا يمكن الاستهانة بها، باعتباره أكبر قوة منظمة في تونس بعدد منتسبيها الضخم، وبانتشارها الجغرافي الواسع.بدأ «الاتحاد»، خلال المرحلة الانتقالية، يبحث عن موقعه في مشهد سياسي جديد لم يعتده من قبل. كان «الاتحاد» أيديولوجيًا يميل إلى اليسار القومي، وبالتالي فإن تحالفه مع إسلاميي «النهضة» لم يكن خيارًا، بل وكانت هناك صراعات خشنة محدودة بينهما خلال حكم «الترويكا». لكن، في نفس الوقت، كان الانضمام بشكل كامل إلى النخبة العلمانية الرأسمالية أمرًا خطيرًا. لذا، فضل «اتحاد الشغل» أن يجلس حكمًا بين كافة الأطرف، ويضغط عليها جميعًا لتحقيق مصلحة الدولة ومصالح منتسبيه، وهو التمركز الذي أهله بعد ذلك للعب دور تاريخي في الحوار الوطني عام 2013، و الحصول على جائزة نوبل للسلام عام 2015 بالتشارك مع منظمات نقابية أخرى.

غير بعيد عن عالم سياسة ما بعد الثورة، كانت تدور رحى معركة اجتماعية واقتصادية هي صلب اختصاص «اتحاد الشغل». أتت أحزاب وحكومات ما بعد الثورة دون أجندة اجتماعية أو اقتصادية، فاعتمدت على أجندة المقرضين الدوليين بما تتضمنه من خصخصة القطاع العام، ورفع الدعم الحكومي عن المحروقات، وتخفيض أعداد العاملين في المؤسسات العامة، ورفع سن التقاعد، وهي كلها أمور يرفضها «الاتحاد» بشدة لأنها تضر بالسواد الأعظم من منتسبيه.

اختير رئيس الوزراء الحالي يوسف الشاهد، منذ نحو عامين ونصف، ليكون مطبق السياسات النيوليبرالية الجديدة، مما أكسبه عداء «اتحاد الشغل». واستغل الأخير الصراع الدائر بين رئيس الوزراء يوسف الشاهد، وحافظ نجل الرئيس الباجي قائد السبسي، على قيادة حزب «نداء تونس»، وانضم إلى المطالبين بالإطاحة بالشاهد، وعلى رأسهم «نداء تونس حافظ»، رغبة في وقف تنفيذ سياسات صندوق النقد التي أثقلت كاهل الشغيلة. لكن استمرار وجود الشاهد وحكومته بدعم من «النهضة»، دفع «اتحاد الشغل» إلى تصعيد لهجته والتهديد باقتحام السياسة من أوسع أبوابها، خلال الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، ما لم يتم حل الأزمة بشكل يرضيه.

اقرأ أيضًا: حافظ السبسي: ماذا تعرف عن ابن الرئيس الساعي لخلافة أبيه؟


مكونات «الاتحاد»: توازن هش

يسيطر على «اتحاد الشغل» بشكل عام تياران، هما العاشوريّون واليساريون. يؤسس العاشوريون (نسبة إلى الحبيب عاشور القيادي التاريخي في المنظمة) عصبيّتهم أساسًا على قاسم مشترك بينهم، هو انتماؤهم النقابي الصرف وغير المسيس (لا يعني ذلك ابتعادهم عن الشأن العام) وأصولهم العماليّة المتواضعة. أما اليساريون (بشقيهما الماركسي والقومي)، فينقسمون عندما يتعلق الأمر بالاتحاد إلى قسمين. انخرط قسم منهم، بعد فترة معارضة داخلية خلال الثمانينيات والتسعينيات، في تحالف مع العاشوريين منذ «مؤتمر جربة» عام 2002، وتعزز التحالف بعد الثورة (2011). وبقي جزء آخر أكثر جذرية خارج خريطة التحالفات الرابحة واستمر في المعارضة. أما الإسلاميون التنظيميون فعلاقتهم بالعمل النقابي محدودة جدًا.

ورغم أن كلمة «الاتحاد» تبدو واحدة فإنه محكوم بتوازن هش بين مكوناته.فبحكم تركيبته الاجتماعية المتنوعة، والتيارات السياسية التي تخترقه، والمصالح المتناقضة للقطاعات المهنية المختلفة داخله، والضغوطات الجهوية، والعلاقات الملتبسة مع السلطة والمعارضة، كان محكومًا عليه أن يقوم على توازنات هشة. فلم يكن الاختيار السياسي أو الأيديولوجي هو الذي يقود سياسة الاتحاد بل التوافقات بين المصالح المتباينة.


هل يقتحم «اتحاد الشغل» عالم السياسة بشكل مباشر؟

هناك عدة نقاط تدفعنا إلى الاعتقاد بأن تصريحات قادة النقابة عن الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، ما هي إلا وسيلة ضغط على الشاهد لحل أزمة الأجور، والأحزاب لحل الأزمة السياسية.

أولًا: «الاتحاد» منقسم حاليًا إلى مجموعتين، الأولى، تعتقد بأن المنظمة النقابية يجب أن تهتم حصرًا بالدفاع عن مصالح منخرطيها (زيادة الأجور وما إلى ذلك)، ومجموعة ثانية، تقول إنّ الاتحاد يجب أن يلعب دورًا مهمًا في مقاومة موجة الليبرالية التي تفرضها الجهات المانحة وحكومة يوسف الشاهد وتربط نضالاتها أكثر بنضالات العاطلين من العمل. كما تعتقد المجموعة الثانية أنّ على الاتحاد طرح بديل اقتصادي والتصدي للموجة الليبرالية الجديدة والعودة إلى دوره التاريخي كفضاء (مساحة) للتمكين السياسي والاجتماعي، وخاصة في ظل التراجع الراهن لدور وفعالية الأحزاب السياسية اليسارية، وفي ظلّ تَضخّم دور المنظمات غير الحكومية الدولية التي أصبحت تمثّل وسيطًا بين الجهات المانحة والحكومة.بحسب الدكتورة هالة اليوسفي، صاحبة كتاب «الاتحاد العام التونسي للشغل: قصّة شغف تونسي».

في الأحوال العادية يكون صوت المجموعة الأولى هو السائد، فيما يعلو ويطغى صوت المجموعة الثانية كلما تدهورت الأوضاع السياسية والاجتماعية. نلاحظ أن تصريحات قادة النقابة عن الانتخابات المقبلة، خرجت بعد تأزم الوضع السياسي في ظل الصراع الحزبي متعدد المستويات الحالي، وبعد تدهور العلاقات مع يوسف الشاهد بسبب عدم الوصول إلى اتفاق بخصوص زيادة الأجور. لذا، فإن أي حلحلة للأزمات الحالية ستحسر مد خطاب النقابة الحالي، وستعود إلى خطاب الوساطة السياسية والاجتماعية.

ثانيًا: الأوضاع داخل «الاتحاد» ليست مستقرة وهناك صراعات دائمة بين مكوناته السياسية والاجتماعية والجهوية – يحاول رئيس المنظمة نفيها باستمرار في حواراته الصحفية – وبالتالي فإن دخول النقابة إلى الحقل السياسي بشكل مباشر يهدد التوازن الهش القائم داخلها، ويهدد تماسكها.

ثالثًا: سيخسر «الاتحاد» موقعه المريح كوسيط وحكم بين فرقاء السياسة وسيتحول إلى خصم مباشر لأغلب الأطراف، وهو أمر من غير المرجح أن يتم في ظل القيادة العاشورية التي تسيطر على «الاتحاد» حاليًا.