يرجع تاريخ العلاقات السودانية التركية إلى الحقبة العثمانية عندما حكمت الإمبراطورية أجزاء واسعة من السودان بشكل مباشر في أيام قوتها في زمن السلطان سليم الثاني ومراد الثالث. وقد زار الرحالة العثماني أولياء جلبي، مدينة سنّار، عاصمة السودان القديم، والتقى بسلطانها الذي عامله باحترام لأنه علم أنه مبعوث من الخليفة العثماني.

أما حديثًا، فقد أعقب استقلال السودان عن بريطانيا في 1956، اعتراف الجمهورية التركية بالدولة السودانية والتبادل الدبلوماسي معها. ولم تتطور العلاقات السودانية التركية بشكل كبير إلا عقب وصول انقلاب الإنقاذ إلى السلطة عام 1989، حيث صادف وصوله تعزيز حضور الإسلاميين الأتراك في السلطة التركية عبر حزب الرفاه الذي كان يقوده الراحل نجم الدين أربكان، ومحاولتهم تغيير بوصلة العلاقات التركية مع العالم نحو أفريقيا والعالم الإسلامي.

كان مطلع الألفية هو تدشين لحقبة تركية جديدة حيث نجح حزب العدالة والتنمية في الفوز بالانتخابات النيابية وتشكيل الحكومة. وقد صادف تلك الفترة وجود حالة من الرخاء والانتعاش النسبي الاقتصادي للسودان بعد استطاعته إنتاج وتصدير النفط، وقد كانت تركيا سبّاقة للحصول على نصيب من الكعكة السودانية مستفيدة من محدودية خيارات السودان بينها وبين الصين وإيران، لأن السودان كان يعاني من أن الشركات الأوربية والأمريكية لا تتعامل معه بسبب العقوبات الاقتصادية الأمريكية.

وصل حجم التبادل التجاري بين تركيا والسودان إلى ما يزيد عن نصف مليار دولار، وهو أكبر حجم تبادل تجاري بين تركيا و أي دولة إفريقية بعد جنوب أفريقيا. لكنّ حجم التبادل الإقتصادي المتنامي لم ينعكس على العلاقات السياسية بين البلدين، فقد كانت السياسة السودانية تسير على الخط الإيراني الذي يوصف بالثورية بعيدًا عن الخيارات التركية الدبلوماسية.

بعد انفصال جنوب السودان، وحدوث حالة من الجفاء في العلاقات السودانية الإيرانية، بدأت تتبدى ملامح تقارب سوداني تركي شجّعته دول الخليج التي كانت تريد من السودان قطع العلاقات العسكرية والأمنية مع إيران. تغيرت خيارات السودان نحو اتباع نمط أقرب للتفكير التركي، واتجهت نحو البراجماتية، وشاركا في عاصفة الحزم والتحالف الإسلامي ضد الإرهاب، وتخلّت عن الخطابات الراديكالية، فكافأتها الولايات المتحدة الأمريكية برفع الحظر الاقتصادي عنها جزئيًا.

اقرأ أيضا:السودان: البشير يقبض ثمن «اعتداله» عن المحور الإيراني

اعتبر السودان أنه آن الأوان لتحويل علاقاته مع تركيا من علاقات تجارية واستثمارية وفقط، إلى علاقات استراتيجية. وقد جاءته الفرصة على طبق من ذهب بعد محاولة الانقلاب العسكري في تركيا صيف 2016 بتواطؤ دولي، مع حديث عن تورط جماعة «الخدمة» التابعة لرجل الدين التركي فتح الله كولن في الانقلاب. انتهزت الحكومة السودانية تلك المناسبة، حيث ندّدت بالانقلاب، و سيطرت على مؤسسات جماعة فتح الله كولن في السودان وسلّمتها بعد ذلك للحكومة التركية، واعتقلت كوادر المنظمة وأرسلت بعضهم إلى تركيا للمحاكمة، في تعاون تام مع حكومة أردوغان لم تُقدِم عليه أي دولة أخرى.

غيّر الانقلاب في 2016 كثيرًا من سياسات الحكومة التركية التي زاد نزوعها الأصيل للاتجاه جنوبا نحو العالم العربي وأفريقيا، وبعيدًا عن أوروبا التي صار من الواضح أنها ليست سعيدة بتركيا العدالة والتنمية. انتهز الرئيس السوداني عمر البشير إعلان ترامب القدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية إليها، ليندد بالخطوة ويستجيب لدعوة تركيا للقمة الإسلامية، فيسافر بنفسه لاسطنبول في زيارة تاريخية تمّت رغمًا عن المحكمة الجنائية الدولية. وتحت عنوان مناصرة القدس، تم ترتيب زيارة أردوغان للسودان لتوقيع اتفاقات تعاون في شتى المجالات بلغت 21 اتفاقية.


التقارب السوداني التركي ليس موجهًا ضد أحد

تخطئ بعض الدول كثيرًا عندما تحسب أن التقارب السوداني التركي عسكري وأمني. ففي الحقيقة، التقارب بين البلدين هو تقارب سياسي واقتصادي بالدرجة الأولى. فالسودان، الخارج من محنة العقوبات الأمريكية، يحتاج لمساعدة شركات تركيا ليستفيد من موارده الخام، خصوصًا الموارد غير المتجددة كالنفط والغاز والتعدين، في ظل غياب حماسة أمريكية للاستثمار في هذه الموارد بعد ثورة النفط الصخري وانهيار أسعار البترول لما دون الستين دولار للبرميل.

اقرأ أيضا:عندما أصبحت «سِنّار» عاصمة للثقافة الإسلامية

يضاف إلى ذلك حاجة السودان إلى تنمية قطاع السياحة والخدمات لديه، وهو القطاع الذي أُهمل في فترات سابقة لصالح القطاعات الإنتاجية الزراعية والبترولية، رغم أن السودان زاخر بالآثار التاريخية والشواطئ الساحرة والمحميات الطبيعية التي تناسب سياحة السفاري، وتركيا خير من يفيد السودان في هذا المجال لأنها من أهم الوجهات العالمية في السياحة، ويزور تركيا سنويًا ملايين السياح الذين يضخّون في اقتصادها مليارات الدولارات.


تركيا في «سواكن»

جزيرة سواكن، السودان
جانب من جزيرة «سواكن» السودانية

لـ «سواكن» معزة ومحبة خاصة في قلوب الأتراك، فهي عاصمة إقليم الحبش العثماني قديمًا، وهي مقر أسطولهم البحري وقلعتهم الحصينة التي احتموا بها أيام الحملة الفرنسية على مصر. وتزخر منطقة سواكن بالآثار العثمانية، وكذلك فإن أصول عدد كبير من سكانها هي أصول عثمانية سواء كانت أصولا تركية أو من الولايات العثمانية السابقة.

ولأن حزب العدالة و التنمية هو حزب يحمل اهتمامًا ثقافيًا ببعث التراث العثماني، فإنه يريد استغلال تلك الآثار العثمانية للفت أنظار الأتراك إلى تاريخهم العثماني، ولذلك فإنه يريد جعل جزيرة سواكن محجًّا للأتراك لينظروا في آثار أجدادهم.

مشروع سواكن هو مشروع سياحي بالأساس موجّه للأتراك داخل تركيا أو في الجمهوريات التركية أو المهاجر الأوروبية والأمريكية، حيث يقام في سواكن مطار فخم وينزل الحاج أو المعتمر التركي إلى سواكن ليشاهد الآثار العثمانية، ثم يركب الباخرة نحو ميناء جدة ليؤدي فريضة الحج أو العمرة. وسيدير هذا المشروع السياحي رجل أعمال تركي مقرب من أردوغان، هو عزيز يلدرم، رئيس نادي فنربخشة التركي.

سيستفيد السودان اقتصاديًا من هذا الأمر بلا شك، خلافًا لما بثّه الإعلام العربي الذي حوّل – بسبب حساسية بعض البلدان العربية تجاه تركيا – ذلك المشروع السياحي إلى مشروع عسكري وأمني يهدف إلى تهديد دول الجوار. فكثير من الإعلاميين كان متحفزًا ضد زيارة أردوغان للسودان ليردّد هذا الكلام.

وقد كانت سواكن هي ذريعة فقط، حيث أن نفس الجهات التي تهاجم اتفاق سواكن، ترفض من حيث المبدأ أي تعاون بين السودان وتركيا رغم أنها تمتلك أفضل العلاقات مع تركيا. ففي الإمارات مثلا، أسهمت الشركات التركية في بناء مدينة دبي، كما أن الاستثمارات الإماراتية في تركيا متنوعة في كل المجالات. أما المملكة العربية السعودية، فقد وقّعت عشرات الاتفاقات مع تركيا. وحتى مصر رغم الخلاف السياسي بين الرئيس أردوغان والرئيس السيسي، فقد حافظت على علاقاتها الاقتصادية مع تركيا، وزاد نسبيا حجم التبادل التجاري مقارنة بما كان عليه في عهد الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك.