خمسة عشر عامًا متصلة قضاها العدالة والتنمية في الحكم بقيادة زعيمه رجب طيب أردوغان الذي بات يطمح للبقاء في السلطة أكثر من عشرة أعوام أخرى عبر التحول للنظام الرئاسي.

يسير في هذا بدعم من حزب الحركة القومية الذي يبدو أن الحزب الحاكم قد خضع لكثير من شروطه ومزايداته، بالإضافة إلى التقارب الحادث في وجهات النظر بينهما تجاه أغلب القضايا؛ ما يؤكد أن تركيا تنضم لتلك الدول التي تشهد حالة صعود للتيار القومي اليميني.


العدالة والتنمية: هوية جديدة

قدم العدالة والتنمية منذ تأسيسه رؤى سياسية متوازنة نجح من خلالها في حل معادلات بدت مستعصية على الساسة الأتراك لأعوام طويلة: تصالح مع ماضيه الإسلامي ومع قيم الدولة العلمانية، سعى لدمج الأكراد ثم عاد للرؤية القومية، انسجم مع القيم الغربية وعمل في إطارها لكنه عبر عن طموحات الشرق في عدالة أكثر للنظام العالمي.

خلال سنواته الأولى في الحكم 2002-2007 انصب اهتمامه على التنمية الاقتصادية وعمل على تصفير المشاكل على صعيد العلاقات الخارجية وبدا أنه منسجم مع السياسة الغربية؛ الأمر الذي جعل دوائر إسلامية تتوجس منه.

قدم نفسه بصورة مختلفة عن الأحزاب الإسلامية، كما أنه نجح في تطبيع العلاقة بين شرائح واسعة من الإسلامين وقيم الدولة الوطنية التركية وأبرزها العلمانية، وتخطي ذلك لتطبيع آخر مع الرأسمالية كنظام اقتصادي ومع العمل ضمن المنظومة العالمية كأمر واقع لا يكون الانفكاك منه سوى بالدخول فيه والعمل على تغيير معادلاته من الداخل.

تفاعل العدالة والتنمية بمهارة شديدة مع تناقضات الحالة التركية فاستغل سعي بلاده للانضمام للاتحاد الأوربي كذريعة لإجراء إصلاحات هيكلية في بنية الدولة؛ من أبرز نتائجها أنه تم تنحية النخب العسكرية شديدة الولاء للعلمانية المتشددة وسيادة النخب المدنية المنتخبة في مسعى لضبط العلاقات المدنية العسكرية، ونجح الحزب لاحقًا في إحلال نخب جديدة منه وإحكام سيطرتها على الحياة السياسية ومن ثم إقصاء تدريجي للنخبة الكمالية.

كما أنه استغل قيم العلمانية نفسها وتحديدًا الليبرالية التي أعلن الحزب اشتقاقها من الحزب الديمقراطي بقيادة عدنان مندريس في تحقيق تقدم ملحوظ على مستوى الحريات الدينية التي استفاد منها المتدينون الأتراك.

قدم الحزب هوية تركية جديدة بديلة عن الهوية القومية التي أسس لها أتاتورك، بحيث تكون أكثر تصالحًا مع ماضي تركيا الإسلامي وقيمها الحديثة العلمانية، فبدلا من وضع صورة أتاتورك في مقابل صورة السلطان عبد الحميد الثاني تم وضع كلا الصورتين بجانب بعضهما في سعي للاستفادة من دروس الماضي والنظر للمستقبل.

نجحت هذه الهوية الجديدة في وضع تركيا على طريق جديد جعل الأتراك يشعرون بالاستقرار السياسي الذي طالما افتقدوه، فتشكيل العدالة والتنمية الحكومة منفردًا بعدما كانت السمة الأساسية للمشهد السياسي هي الحكومات الائتلافية التي بالكاد تصمد سنتين أو ثلاثًا، كما أن الحد من النفوذ العسكري على المشهد السياسي قد أتاح للبلاد أن تتحرك بخطى ثابتة في مسار التنمية الاقتصادية الذي هو الهم الأول لأغلب المواطنين.

انتصرت إسطنبول مثلما انتصرت البوسنة، انتصرت إزمير مثلما انتصرت بيروت، وأنقرة والشام وديار بكر ورام الله ونابلس وجنين والضفة والقدس وغزة، كلهم انتصروا معنا.
أردوغان في خطاب الفوز بالانتخابات البرلمانية 2011

بدأ العدالة والتنمية في فترته الثانية 2007-2011 التعبير أكثر عن هوية حضارية، ونتيجة لكون مساعي بلاده الانضمام للاتحاد الأوروبي لم تكلل بالنجاح توجه للشرق في محاولة للبحث عن دور جديد لتركيا كدولة مركزية وليست مجرد دولة وظيفية تلعب دور الممر بين الشرق والغرب.

كان هذا اختلافًا عن الرؤية الكمالية التي سعت للانعزال عن الإقليم ومشاكله، فبدا أن الرؤية الجديدة تسعى للعودة للارتباط بالجوار عبر قوتها الناعمة بالأساس، وكذلك اعتمادًا على الرصيد التاريخي للدولة العثمانية بالنظر لكل من الدول العربية وجمهوريات آسيا الوسطى التي انفصلت عن الاتحاد السوفييتي.


الحركة القومية ومؤهلات التحالف

من السهل إدراك التقارب في المواقف والأيديولوجيا بين الحزبين، فالعدالة والتنمية يتم تصنيفه كحزب يمين محافظ وينظر للحركة القومية أنه يقبع على يمينه كما يتنافس الحزبان قطاعًا لا بئس به من المؤيدين.

حيث يمكن بإلقاء نظرة على نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة والتي تمت إعادتها لعدم نجاح الأحزاب في تشكيل ائتلاف حكومي إدراك أن التغير الحقيقي الملحوظ هو تحول ما يقارب نصف أصوات الحركة القومية إلى العدالة والتنمية في الإعادة (37 مقعدًا من 40 فقدهم حزب الحركة القومية)؛ ما يعني أن قطاعًا كبيرًا من الشعب التركي حائر بين هذين الحزبين.

كما كان لدفع العدالة والتنمية بعدد من المرشحين القوميين وعلى رأسهم طغرل تركش نجل مؤسس الحركة القومية والذي تولى منصب نائب رئيس الوزراء في حكومة الانتخابات أثر في تغير تلك النتائج.

وحزب الحركة القومية هو امتداد للحركات القومية التي ظهرت في الستينات بزعامة ألب أرسلان تركش، وترتكز مبادئه على الاعتزاز بالقومية التركية ورفض الانضمام للاتحاد الأوروبي أو الانصياع لأوامره، فقد عارض الحزب رفع عقوبة الإعدام وهو من طالب بإعادتها بعد محاولة الانقلاب الفاشلة مؤخرًا حيث وقف رئيسه دولت بهشلي في البرلمان قائلاً:

وشارك الحزب لأول مرة في الحكومة الائتلافية التي عرفت بحكومة الجبهة القومية الأولى عام 1975 مع أحزاب الشعب الجمهوري والسلامة الوطنية الإسلامي ثم في حكومة الجبهة القومية الثانية عام 1977مع العدالة والسلامة الوطنية.

اعتقل ألب أرسلان مع قيادات حزبية فور انقلاب 1981 قبل أن يعود لتأسيس حزب العمل القومي عام 1985 الذي انتخب دولت بهشلي سكرتيرًا عامًا له، حيث لعب دورًا تنظيميًا بارزًا توج بوصوله لرئاسة الحزب الذي عاد اسمه للحركة القومية، كما تحالف الحزب مع حزب الرفاه الإسلامي في انتخابات العام 1991.

كذلك أيد الحزب التعديلات القانونية الخاصة بحرية الملبس والذي أتاح للمحجبات دخول المدارس والمؤسسات الحكومية دون الاضطرار إلى خلع الحجاب، وعارض المشاركة في احتجاجات جيزي بارك في ميدان تقسيم 2013 التي نظمتها حركات بيئية للاعتراض على مشاريع حكومية ثم امتدت للمطالبة بإسقاط حكومة أردوغان.

كما رفض بهتشلي عرض زعيم حزب الشعب الجمهوري كليتشدار أوغلوتشكيل حكومة ائتلافية يقودها بهتشلي بعد انتخابات يونيو 2015 (التي أعيدت لاحقًا)، ولم يكتفِ بذلك بل سخر منه قائلاً “هذه ليست لعبة أطفال. نحن لا نجري وراء طموحات صغيرة”.

كل هذه المواقف وغيرها تظهر قدر المشترك بين الحزبين، إلا أن نقطة الاختلاف الأبرز بينهما لطالما تمثلت في القضية الكردية.


ذوبان الخلاف حول القضية الكردية

كثير من الطلبات تنادي بإعادة تفعيل حكم الإعدام، وإذا كان حزب العدالة والتنمية موافقًا أو مستعدًا لذلك فتعالوا لنسن القانون لتفعيل ذلك الحكم. إن الشعب ينتظر إعدام المجرمين الذين وجهوا أسلحتهم للشعب وللدولة.

طرح العدالة والتنمية عند وصوله للسلطة 2002 مشروعًا للمصالحة بين الدولة التركية والمكون الكردي؛ بهدف الوصول إلى حل شامل لواحدة من أبرز مشكلات الدولة التركية الحديثة.

حاول الحزب استغلال اعتقال عبد الله أوجلان قائد حزب العمال الكردستاني (PKK) الانفصالي عام 1999 في التوصل لحلول وسط، فشرع في إقرار حزمة من القرارات تمنح الأكراد حقوقًا ثقافية؛ مثل تدريس اللغة الكردية في مدارس وجامعات المدن ذات الأغلبية الكردية، كما تم إطلاق قناة رسمية ناطقة باللغة الكردية، واستهدفت مشاريع التنمية الاقتصادية المدن الكردية حيث لطالما ظن الأكراد أن الدولة تتعمد تهميش وإفقار تلك المدن.

كما كان للحزب الحاكم رؤية أنه ينبغي إدماج الأكراد في الحياة السياسية، فضم الحزب بين أعضائه قيادات ونوابًا أكراد، كما نجح في المنافسة على أصوات الأكراد وتكللت تلك المسيرة عندما نجح حزب الشعوب الديموقراطي الممثل للأكراد في تجاوز عتبة العشرة بالمئة التي يشترطها القانون الانتخابي خلال الانتخابات الأخيرة في سابقة تاريخية.

إلا أن هذا المشروع الكبير للمصالحة لم يصمد أمام التحولات الإقليمية الحادة خلال السنوات الماضية، حيث تطورات الأحداث في سوريا تحديدًا والصراع بين أكراد سوريا وتنظيم داعش والتدخلات التركية الهادفة لعدم سيطرة الأكراد على مناطق حدودية وغيرها من الأمور التي أدت إلى تصاعد العمليات الإرهابية لحزب العمال الكردستاني، فيما بدا نقضًا لكل ما أنجزته حكومة العدالة والتنمية في هذا الصدد.

مثّل الملف الكردي نقطة الخلاف العميقة بين العدالة والتنمية، ورؤيته للمصالحة وحزب الحركة القومية، ورؤيته أن التصالح مع إرهابيين أياديهم ملوثة بدماء الشعب التركي خيانة ووعده بأنه حال وصوله للسلطة سيعتمد حلولاً أمنية فعالة للقضاء على هذا الإرهاب.

تمثل ذلك في رفض الحركة القومية مبادرة الانفتاح على الأقليات 2009 الخاصة بمنح الأكراد حقوقًا ثقافية، وكذلك رفضه لرفع عقوبة الإعدام ومطالبته بتنفيذها ضد الإرهابيين وعلى رأسهم عبد الله أوجلان، ورفعه دعاوى ضد العدالة والتنمية يتهمه بالخيانة العظمى لتفاوضه مع إرهابيين.

في المقابل أعلن أردوغان قبل أشهر ونتيجة لتصاعد عمليات (PKK) أن مشروع السلام مع الأكراد تم تجميده وتم إلغاء الوزارة المسؤولة عن هذا الملف، ويبدو أن هذا الأمر قد مثل نقطة خلاف داخلية بين أردوغان وأوغلو. من جانبه صرح دولت بهشلي تعليقًا أنه ينبغي إلقاء هذا المشروع في سلة القمامة وليس فقط تجميده.

ولاحقًا وبموازاة المعارك المسلحة التي تخوضها الدولة ضد العمال الكردستاني، تتخذ السلطة إجراءات سياسية ضد حزب الشعوب الكردي الذي ينظر له كذراع سياسي للعمال الكردستاني.

حيث قامت السلطات التركية باعتقال صلاح الدين ديمرطاش رئيس حزب الشعوب بتهمة الإساءة للدولة التركية وتأييد منظمة إرهابية، وقبل أيام قليلة تم إسقاط عضوية فيجن يوكسيكداج الرئيس المشارك للحزب من البرلمان.

ساهم هذا التطور في موقف العدالة والتنمية في إذابة الجليد بينه وبين الحركة القومية، وزاد هذا التقارب بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 تموز الماضي وتغير موقف الحزب القومي إلى تأييد التحول للنظام الرئاسي.

تتجه تركيا باستفتاء الأحد 16 أبريل القادم لإجراء تحول فارق في نظامها السياسي، يسير هذا المشروع بتأييد كبير من أحزاب اليمين وأبرزهم العدالة والتنمية والحركة القومية ومعارضة لا تقل قوة عن أحزاب اليسار وعلى رأسهم الشعب الجمهوري والشعوب الديموقراطي.

ليشكل هذا التحول رسمًا أكثر تحديدًا للساحة السياسية في تركيا، وإذا عرفنا أن دولت بهشلي مرشح لأن يكون نائبًا لرئيس الجمهورية تكون الصورة أكثر وضوحًا بأننا أمام تحالف يميني لديه مقومات التشكل والاستمرار بامتلاكه رؤى متقاربة تجاه أغلب القضايا.