عالم قاسٍ هناك يا فتاة، يفعلون كل شيء كي يجعلونا نجن، فإذا ما جننا اتهمونا بالجنون وتخلصوا منا.
أحمد خالد توفيق

بالفعل، العالم قاسٍ، أصبحت تلك حقيقة واقعة، تراها في نشرات الأخبار وعلى حوائط التواصل الاجتماعي وفي البرامج التليفزيونية، تراها في الشارع وداخل المنازل وفي المدارس والمستشفيات، تراها بوضوح في الأغراب وفي الأقارب وفي الشخصيات الخيالية، العالم قاسٍ، ومرعب، وغير مناسب للأطفال وذوي القلوب الضعيفة، العالم قاسٍ يستلزم شارة +18 لتوضع على كوكب الأرض لاحتوائه على مشاهد فاضحة وعنيفة، العالم قاسٍ، والأكثر قسوة هو أن هذه القسوة أصبحت عادية!

أحداث لا تصدق

«ماري أدلر» فتاة عاشت حياة غير طبيعية، لا تعرف لها أبًا، ولم تكن أمها أفضل أم، تنقلت بين بيوت الأسر الحاضنة ودور الإيواء منذ الثالثة من عمرها، تشارك في برنامج داعم للشباب يساعدهم على الاستقلال، بعد ستة أشهر من استقلالها تتعرض لحادث اغتصاب في شقتها، تبدأ التحقيقات وبعد الكثير من الأحداث تتراجع الفتاة وتنكر الحادث، بعد الحادث بثلاث سنوات تتعرض محققتان لسلسلة من الحوادث تجعلهما تتمسكان بفكرة أنهما يواجهان مغتصبًا متسلسلاً، وتُفتح قضية ماري أدلر القديمة رغمًا عن الجميع.

هذه باختصار – ودون حرق للأحداث – هي عقدة مسلسل Unbelievable الذي عُرض على نتفلكس مؤخرًا، المسلسل من الإنتاجات الأصلية لنتفلكس، وهو مسلسل قصير من ثماني حلقات فقط، بطولة كايتلين ديفير في دور ماري أدلر والتي كانت متمكنة جدًا من لعب دور المراهقة المضطربة التي تظلمها الظروف في كل لحظة، كان أداؤها المتوتر المكتوم حقيقيًا، كل المشاهد التي قامت بها كانت جيدة، توترها وتجهمها وحركتها المتشنجة، كل شيء فيها كان يصرخ بالظلم والقهر، حتى التنفس الثقيل كان يشي بما استطاعت ديفير أن تقنعنا أنه يعتمل في صدر ماري أدلر.

 ومارييت ويفر في دور المحققة دوفال، وقد قامت بدور الضابطة المتدينة باقتدار، نبرة صوتها الخافتة، ملابسها وتصفيفة شعرها البسيطة المنسدلة مع جسدها الممتلئ قليلاً المرتخي دومًا، إنسانة متدينة وبسيطة وهادئة، ومصممة على أن تقوم بدورها الذي كلفها به الرب في مساعدة الناس، أيضًا القديرة توني كوليت في دور المحققة راسموسن التي كالعادة تمكنت من أداء دورها ببراعة ليست غريبة عليها، المحققة قوية الشخصية المرحة اللا مبالية والتي تعرف ضمنًا من رؤيتها أنها تعاني بالتأكيد من أحد أعراض الاكتئاب دون أن تصرح هي بذلك أبدًا.

حتى الأدوار الثانوية في المسلسل فقد قام بها ممثلوها باقتدار، الفتيات والسيدات اللاتي قمن بالشخصيات التي تعرضت للحوادث قمن بأداء أدوارهن بسلاسة، حصد المسلسل ردود أفعال إيجابية على المستوى النقدي والمستوى الجماهيري، وهو من مسلسلات الدراما والجريمة التي يمكن أن تمس المشاهد في أي مجتمع وليس المجتمع الأمريكي فقط، يناقش المسلسل ليس فقط حوادث الاغتصاب على المستوى الدرامي، بل يناقش كيف تعمل الأنظمة الحكومية في الولايات المتحدة وينتقدها بوضوح تام وجرأة ليست غريبة عليهم، يناقش أيضًا كيف يمكن للناس أن يحكموا على تصرفاتك بناءً على تجاربهم الخاصة، وكيف يمكن لذلك أن يدمر حياة أحدهم.

النساء للنساء وضد النساء

لا أحد يناقشك أو يشكك في مصداقيتك إذا كانت الجريمة التي نحن بصددها جريمة سرقة أو قتل، أما إذا كنا نتحدث عن جريمة اغتصاب، فالباب مفتوح لكل وجهات النظر ولكل التكذيبات.

في المسلسل يتولى قضية ماري أدلر اثنان من المحققين الرجال المحنكين، يحققون مع الجميع، ثم تقرر إحدى الأمهات الحاضنات التي عاشت معها ماري أن تصارح أحدهم أن رواية الفتاة للحادثة مشوشة، يضغط الجميع على ماري حتى يجعلوها تكذب نفسها، ثم بعد سنوات تقرر محققتان أن تقبضا على المجرم رغم كل الصعوبات.

يقولون إن المرأة لا تشعر بها سوى امرأة مثلها، وهذا حقيقي جدًا، ولكن يجب أن نضيف إليه أن المرأة لا يدمرها سوى امرأة مثلها أيضًا، امرأة تنصفك لأنها تعرف نقاط ضعفك وتشعر بك وتتعاطف معك إنسانيًا، وامرأة أخرى تدمرك لأنها مرت بما يشبه ما مررت به واستطاعت أن تتجاوزه ولذلك تريدك نسخة منها، فإذا لم يتحقق ذلك تبدأ في تكذيبك من منطلق أنها تعرف أكثر.

الأحكام الأحكام الأحكام، بح صوتنا في أن نقول للناس لا تحكموا على بعضكم البعض، أنتم لستم آلهة ولستم مخولين للحكم على أحد، كيف يشعر؟ كيف يتصرف؟ كيف يجب أن يكون؟ وكيف يسير حياته؟ أنتم بشر أيضًا لستم أعلى درجة ولا تملكون نموذج الإجابة الصحيح لاختبار الحياة، ولكن لا أحد هنالك ليستمع. في المسلسل ترى عواقب هذا التصرف بوضوح، حتى وإن كان تصرفًا مدفوعًا بعاطفة حب، ولكنه لا زال تصرفًا أحمق بإمكانه تدمير حياة.

المسلسل جيد على المستوى الفني، ويمس الجميع، ويعلمك أشياء لا تتعلمها في الكتب ولا تقتنع بها عندما تقرأها في مقال، بل يلعب المسلسل على وتر الإحساس لديك، يضعك في الجو ويجعلك تعيش الحالة، وقتها فقط ربما تقتنع أن الناس مختلفون، وأن الحوادث تقع، وأن وظيفتك الوحيدة في الحياة إذا لم تكن ستساعد في جعلها أفضل، هي على الأقل أن تحافظ على فمك مغلقًا لأطول فترة ممكنة حتى لا يتأذى أحد.