السينما هي أقرب شيء للسفر عبر الزمن بالنسبة لنا كبشر، أو للتخاطر، هذا ما تريده من الأفلام، أن تأخذك لمكان لم تذهب له من قبل أبداً، قد يبدو القول كليشيهياً، ولكنه على أي حال هو واقع هذا الوسيط.
المخرج بيني سافدي

بهذه الكلمات التي يذكرها بيني سافدي تعليقاً على فيلمه الجديد Uncut Gems، والذي شاركه كتابته وإخراجه شقيقه جوشوا سافدي، يمكننا أن نبدأ حديثنا عن تحفة الأخوين سافدي التي تم تجاهلها تماماً في ترشيحات جوائز الأوسكار لإنتاجات عام 2019.

اتهام الأوسكار بتجاهل فيلم جيد أو مخرج جيد أو ممثل جيد أمر غير جديد على الإطلاق، الأفلام كما نعرف جميعاً تعتمد على التفضيل الشخصي للمشاهدين، وأعضاء الأكاديمية في النهاية مشاهدون عاديون، بعضهم ممثلون كبار، بعضهم صناع سينما موهوبون، كما أن بعضهم أيضاً لم يشاهد معظم الأفلام التي كانت تستحق الترشح، بعضهم حتى شاهد أقل منك عزيزي القارئ، الذي يبدو من حرصك على قراءة المراجعات النقدية، وبشكل منتظم، أنك قد تكون قادراً في حقيقة الأمر على التصويت على جوائز الأوسكار بشكل أكثر عدالة من كثيرين من أعضاء الأكاديمية.

بعيداً عن جدل الأوسكار إذن، لماذا نعتبر هذا الفيلم عظيماً، ولماذا يجب عليك كمتتبع للسينما أن تهتم بما يصنعه هذان الأخوان اللذان لم يتجاوز أي منهما منتصف الثلاثينيات من العمر حتى اليوم؟

لكن الجديد هنا أن هذا فيلم قد تم التواطؤ بشكل ما على تغييبه عن موسم الجوائز، بشكل مكتمل، تواطؤ لا نعرف سببه أو ظروفه، لكنه يستحق منا على الأقل أن نكتب عنه، وأن نحلله، لأن الفيلم الجيد عملة صعبة، والفيلم الذي يصحبك في رحلة لعالم آخر هو أشبه بفرصة نادرة لإعادة اكتشاف السينما.

عالم جديد

الفيلم يصحبك منذ البداية في رحلة دون توقف، تشارك فيها بطل الفيلم «هاورد»، والذي يقوم بدوره «آدم ساندلر»، حياته كتاجر للمجوهرات والماس فيما يعرف ب «حي الماس» في مدينة نيوريوك.

ما هو عدد الأفلام التي شاهدتها من قبل في حي الماس في نيويورك؟ اصطحبنا وودي آلن عشرات المرات إلى كل حواري مانهاتن، ولكننا نكتشف هنا حي الماس لأول مرة، نتعرف على أحد تجاره لأول مرة، رجل مولع بالمقامرة والرهان، كما أنه مولع بالأحجار والماس طبعاً، طموح للغاية، يريد أن يسيطر على كل تفاصيل حياته، حياته التي تدور حول التجارة، المال، الأسرة، الشهوة، وكرة السلة.

لا شيء من هذه التفاصيل يبدو كافياً لصنع حكاية عظيمة، لكن العنصر الأهم كما نعرف جميعاً هو ليس ما تحكيه ولكن كيف ستحكيه لنا.

عالم حقيقي

يجب أن تشعر بأن هؤلاء البشر حقيقيون، حتى لو جرت الأمور بسرعة ولم تستطع إدراك كل شيء، لكنك ستشعر بهذه الأصالة الحقيقية في النهاية.
المخرج جوشوا سافدي

الفيلم رغم موضوعه الغرائبي فإنه يسيطر عليه أجواء سينما الواقعية، الأخوان سافدي قد صورا كل المشاهد تقريباً في مواقع حقيقية، منها مشاهد خارجية في شوارع مدينة نيويورك، بالإضافة لذلك فالفيلم يضم في فريقه عدداً كبيراً من الممثلين الهواة، بالإضافة لأن بطل الفيلم يتورط في صفقة معقدة مع لاعب كرة سلة أمريكي، فقرر الأخوان سافدي أن يقوم بهذا الدور لاعب حقيقي، وبعد إعادة كتابة السيناريو لأكثر من مرة من أجل العديد من نجوم NBA، منهم الراحل كوبي براينت، قرر الأخوان سافدي أخيراً أن يستعينا ب «كيفن جارنيت»، وبالتحديد لإعادة تمثيل الفترة التي لعب فيها لفريق بوسطن سيلتيكس.

الفيلم يرتبط بشكل كبير بهذه الصفقة، وبأداء جارنيت في الملعب، لذا فكل المشاهد الموجودة في الفيلم هي مشاهد حقيقية من مباريات حقيقية لعبها جارنيت بالفعل.

هكذا يخلط الأخوان سافدي الواقع بالخيال، ليبدو الفيلم كمن يلعب وبشكل واعٍ للغاية في المساحة المضيئة بين الروائي والتسجيلي، الأمر يتخطى جارنيت لكل الممثلين في الفيلم، وبعضهم لا يمكن تصديق أنهم هنا في أدوارهم الأولى كممثلين، نذكر هنا بالتحديد جوليا فوكس التي قامت بدور «جوليا»، صديقة هاورد وعشيقته وأحد العاملين في متجره لبيع الماس، جوليا هنا تقوم بواحد من أفضل أدوار العام، رغم كونها في أول أدوارها كممثلة على الإطلاق.

في القلب من كل هذا آدم ساندلر بالطبع، الممثل الذي يعرفه الجميع كواحد من أبطال مجموعة من أسوأ الأفلام الكوميدية وأكثرها غباءً على الإطلاق، لكن ساندلر هنا شخص آخر، شخص حقيقي للغاية، مزعج للغاية، مزعج لدرجة أنك كمشاهد ستجد نفسك على الأقل تخاطبه مرتين ألا يفعل ما يفكر في فعله، أرجوك لا تفعل! وفي النهاية ورغم كل هذا فإنك لن تتوقف عن مشاهدته والتعاطف معه والأمل في أن يصل لما يريده.

الكثير من الطموح قد يقتلك

الطموحون قد يحققون نجاحات مهنية، ولكن هذا لا يتم ترجمته لحياة أسعد أو أكثر صحية، هم في حقيقة الأمر يحيون حياةً أقصر من غيرهم.
البروفيسور تيموثي جادج

كلمات البروفيسور تيموثي جادج والتي نشرها رفقة نتائج بحثه قد تكون معبرة تماماً عن جوهر فيلم Uncut Gems والذي يبدو بشرياً وعالمياً رغم خصوصية عالم الفيلم، البحث يخبرنا بأن الكثير من الطموح قد يجعل حياتك أقصر، وأقل سعادة في حقيقة الأمر، وهو ما لا يدركه بطلنا أبداً، خصوصاً أن طموحه وصل دون شك لمرحلة الإدمان، والإدمان هنا على المقامرة، إدمان يضعنا رفقته في حلقة مفرغة، لا نهاية لها، ولا توقف إلا عبر طريق واحد، هو الموت.

هذا الدوران، السعي في الحياة دون طائل، محاولة السيطرة ووضع الخطط، ثم الصدمة بما يحدث في الحياة دون أن نتوقعه، كل هذا يترجمه الأخوان سافدي في ساعتين وربع دون لحظة راحة واحدة، تخيل أنك في أحد لحظات الفيلم ستشاهد شيئاً ما يطارده بطل الفيلم منذ فترة ويريد أن يموت من أجله، أمامه، مباشرة أمام باب متجره الزجاجي، لكن الباب لسبب ما لا يريد أن ينفتح!

القلق يتصاعد، حتى يجبرك على أن تفتح عينيك وتنتظر ما سيحدث، حتى لو كنت أكثر الأطباء إرهاقاً في الدنيا، وبدأت في مشاهدة الفيلم عقب نوبتجية ليلية طويلة ومرهقة، أنت لا تحتاج لقهوة أو مشروب طاقة رفقتك داخل السينما، فقط تحتاج للمشاهدة، تماماً كما يقول المذيع البريطاني سيمون مايو في تعليقه على الفيلم.

لم يُرشح الفيلم للأوسكار، لم يُرشح آدم ساندلر الذي قد يكون المنافس الجديد الوحيد لواكين فينكس في هذا العام، ولم يُرشح دانيل لوباتين رغم صنعه لموسيقى غرائبية ومبهرة وفريدة من نوعها، وأخيراً لم يُرشح الأخوان سافدي في فئات الإخراج والسيناريو، رغم أنهما اصطحبانا لرحلة سينمائية نادرة في عالم آخر، بميزانية لا تتخطى العشرين مليون دولار، ميزانية أقل من خمس ميزانية أي من 1917 أو The Irishman وأقل من نصف ميزانية Joker.