كلنا مجانين يا ناتاليا، الفرق الوحيد هو أن التشخيص لم يقل هذا بعد>
الرفيق ماركو من فيلم «Underground»

هناك ثمة أفلام تشكل نوعًا من الخلاص بالنسبة لمخرجيها، يمكننا أن نرى ذلك في (برسونا/ إنجمار برجمان)، و(الثور الهائج/ مارتن سكورسيزي)، (إسكندرية كمان وكمان/يوسف شاهين)، وهنا أيضًا في فيلم الصربي أمير كوستاريتسا «تحت الأرض Underground» وهو الفيلم الذي منحه سعفته الذهبية الثانية من مهرجان كان السينمائي عام 1995. يصف «كوستاريتسا» فيلمه في أحد حواراته بقوله: «إنه كوميديا سوريالية، سمحت بالإبقاء على عقلي سليمًا».

في مطلع التسعينات ومع الحرب الطاحنة الدائرة في وطنه، حيث كانت حرب الإخوة تسقط القناع عن زيف حلم الوطن الموحد. كان كوستاريتسا يشاهد بعيون مفتوحة على اتساعها النهاية المريرة لوطنه الذي انزلق إلى دائرة من دوائر الجحيم لا مخرج منها. كان عليه إذن أن يصنع فيلمه هذا وإلا أصابه الجنون. مع مشهدية أقرب إلى سيرك كبير، أو حديقة حيوان مفتوحة، حيث هذه المشهدية هي الأنسب لفوضى مشاعره وعبثية الوضع في بلاده.

تبدأ الحرب من حديقة الحيوان التي يحرسها ايفان، الأخ الأصغر لماركو. لا شيء غريب هذا الصباح سوى امتناع النمر عن تناول وجبة اللحم المقدمة له من صاحبه، ربما لأنه بعد قليل علي موعد مع وليمة مفتوحة من لحم بشري محترق. مع توالي القذف الجوي تتحطم الأقفاص التي تحجز الحيوانات داخلها. يلتهم النمر الأوزة التي كانت تجاوره منذ قليل. تختلط الحيوانات بالبشر في الفضاء المفتوح للمدينة في مشهد سوريالي عجيب. يبكي إيفان الآن للخراب الذي حاق بحديقته، ىبينما يخبره بلاكي وهو يلمع حذاءه بقطة سوداء فيما يشبه النبوءة المظلمة: «الحيوانات ستأكل الباقين على قيد الحياة».

كتب كوستاريتسا نصه الفيلمي بالتعاون مع الكاتب يوسان كوفاسيفتش. النص مقتبس من مسرحية سابقة لكوفاسيفتش مع بعض الأفكار من سلسلة تليفزيونية كانت تعرض في تليفزيون يوغوسلافيا في السبعينات هو مسلسل «Otpisani» والذي تدور أحداثه حول مغامرات اثنين من رجال المقاومة.

يتتبع الفيلم ثلاثة أبطال ماركو، وبلاكي، وناتاليا، حيث تتقاطع حياتهم مع لحظات مفصلية في تاريخ يوغوسلافيا. يقع الصديقان ماركو وبلاكي في حب ناتاليا، الممثلة في المسرح الوطني وعلى خلفية قصة الحب تلك بتعقيداتها وتشابكاتها تدور الحرب. يقسم كوستاريتسا فيلمه إلى ثلاثة فصول على التوالي: الحرب، والحرب الباردة، والحرب. وكأننا أمام حرب لا نهاية لها.

يمزج كوستاريتسا في سرده الفيلمي بين الوثائقي والمتخيل، بين الواقعي والسوريالي في نسيج فريد يشكل رؤية بانورامية تمتد لما يقارب خمسة عقود من الزمن ليوغوسلافيا، خالقًا مرثية حزينة للوطن الذي كان.


مجاز الوطن المحتجز في قبو

فيلم كوستاريتسا ثري بالمجازات والاستعارات، والتي تسعى لتجسيد صورة أقرب للوضع العنيف والمأساوي في يوغسلافيا التسعينات، لكن المجاز الأكثر مركزية في نص كوستاريتسا هو مجاز القبو، حيث تتلاعب الرغبة المنحرفة لشخص واحد بأحلام وطن كامل. ماركو الذي يوهم صديقه الساذج بلاكي، وأخاه إيفان مع مجموعة كبيرة من البشر أن الحرب لا تزال دائرة بالخارج لتبرير إقامتهم الدائمة بالقبو. ماركو هنا هو الممثل الخيالي للشيوعية وربما السلطة في المطلق.

يربط كوستاريتسا الرغبة الجنسية عنده بالدمار والخراب، ففي مشهد موحي نراه يمارس الجنس مع عاهرة دون رغبة أو إثارة حتى يبدأ القصف فتتلبسه رغبة عارمة وحين تتركه العاهرة في هلع، يقوم بالاستمناء أمام النافذة، بينما يضرب الدمار المدينة كلها.

يشير القبو أيضًا إلى أمثولة الكهف عند أفلاطون، والتي تحكي عن مجموعة من البشر المحتجزين في كهف والمقيدين بحيث يواجهون حائطًا، تبدو ظلال الأشياء التي تعبر أمام الكهف هي حقيقة الأشياء، وحين يتم تحريرهم بعد أسرهم الطويل يحنون إلى كهفهم حيث يتبدا لهم الآن أن الظلال هي أكثر صدقًا من الحقيقة التي خلقتها. هنا أيضًا نجد إيفان، والذي أجد فيه امتدادًا لذاتية كوستاريتسا، يحن إلى القبو حيث يبدو حلم الوطن أكثر حقيقة وصدقًا من الوطن نفسه.

في سينما كوستاريتسا دائمًا ما يعبر التاريخ خلفية الكادر بينما في مقدمته يوجد الفرد الذي تحمل روحه وجسده ندوب وجراح هذا التاريخ كأثر لا يزول. يقارب المخرج هنا مأساة وطنه كمأساة شخصية عن ضياع حلمه الرومانسي والطفولي بوطن موحد. كان على كوستاريتسا المولود مطلع خمسينات القرن الماضي أن ينتظر ما يقرب من نصف قرن من الزمن حتى يكبر الطفل في داخله ويدرك أن حلمه سراب، وأن عطر شجر الأكاسيا أمام نافذة بيت والديه في سراييفو، والتي طالما تنسم فيه رائحة الوطن، لم يكن سوى وهم يسكن خيال الطفولة.

هنا أيضًا نجد إيفان الطفل الكبير والذي يحمل ملامح من أبله دوستويفسكي، ينتظر عقودًا من الزمن ليكتشف الحقيقة المريرة، إيفان الذي ينتهي به الحال إلى مصحة عقليه معلقًا كقرد على شجرة يابسة كحلمه منكرًا الواقع. يسأله الطبيب المعالج: «لماذا تبكي دائمًا؟»، فينفجر إيفان في البكاء: «أريد أن أذهب إلى وطني، يوغسلافيا».


التكنيك السينمائي في تحفة «تحت الأرض»

يعتبر كوستاريتسا -المسمى بفليني البلقان- من أهم المخرجين الذين يعملون ببراعة على «الميزانسين mise-en-scène» (ترتيب وحركة العناصر داخل المشهد). نحن هنا أمام ميزانسين معقد ومتعدد المستويات، وبألوان داكنة بحيث يبدو كقطعة موزاييك متنقلة. هناك حركة دائمة في مقدمة وخلفية المشهد، بينما يظل مركز المشهد أقل حركة وأكثر ثباتًا، مما يمنح صوره ثراء بالغًا (مشهد الزفاف في القبو مثلًا).

نحن أيضًا أمام كاميرا ديناميكية، لا تتوقف عن الحركة مع لقطات طويلة في مدتها الزمنية دون قطع خالقًا إيقاعه بواسطة الحركة (حركة الكاميرا، وحركة الشخصيات داخل المشهد) والموسيقى. يكثر استخدام حركة الكاميرا الدائرية في تحت الأرض وكأنما كوستاريتسا يحاكي بصريًا دوائر الجحيم.

تتلاشي لمسات الخفة والسخرية من فيلم كوستاريتسا كلما تقدمنا نحو النهاية الفاجعة. اللوحة السوريالية المرسومة بالنار والدخان حيث تعانق ناتاليا جسد ماركو على كرسيه المتحرك المشتعل بالنار والذي يتحرك في دوائر حول تمثال مقلوب للإله.

صورة ثقيلة ومظلمة تجسد جوهر الجنون والعبث الذي يسيطر على الواقع. صورة لا يمكن أن تفارق مخيلتك حتى مع النهاية الطوباية والتي تحاكي مشهد الزفاف في القبو، حيث يبدو الجميع في حالة سعادة وتصالح مع الآخرين. نهاية تشبه الحلم الذي كان، وبينما الجميع في غمرة احتفالهم تنفصل قطعة الأرض التي تسمى وطنًا ليحملها تيار النهر بعيدًا إلى مصيرها الغامض.