لقراءة الحلقات السابقة


كان مصطفى يفكر وهو يدور حول السيارة الواقفة .. الرابضة كوحش نائم في الظلام ..

عندما انحنى جوار الرفرف رأى قطرات .. دقق النظر على ضوء المحمول فأدرك أنها قطرات دم متناثرة. رفع عينه نحو مازن وابتلع ريقه ..

«ثمة أشياء مريبة هنا»

ثم راح يتابع قطرات الدم على الأرض الترابية … كان الدم أحمر لم يتخثر بعد، وكانت المسافة بين قطرة وأخرى تزيد على متر .. لم يكن نزفًا غزيرًا كما هو واضح ..

هتف مازن بصوت مبحوح:

«هل تعتقد أنه .. أنه؟»

لم يرد مصطفى .. المفروض أنه الوحيد الذي يعرف ما حدث لكنه بالفعل لا يملك أدنى فكرة. مضى يتابع قطرات الدم حتى بلغ صف الأشجار ومشى بينها باحثًا عن أثر الدم. هناك خلف الشجرة الثالثة رأى ما بدا له كأنه كتلة دامية .. عندما دقق النظر أكثر رأى أن هذه ذراع مبتورة ..

وقف يبتلع ريقه، بينما لحق به مازن يتساءل عما هنالك .. رأى ما رآه فشهق، ثم انحنى يتفحص الساعة المحيطة بالمعصم وهتف:

«ساعة ذات إطار ذهبي .. هذه ساعته فعلاً ..»

ما الذي حدث له؟

لا أحد يعرف .. لكن مازنًا قال في توحش وهو يضغط على أسنانه:

«هذه قصتك .. أنت من فعلت هذا به!»

قال مصطفى وهو يتراجع:

«صدقني أنا لا أملك أي فكرة عما حدث .. لم أكتب هذا .. لقد أوقفت القصة عند هذ الحد لأنني لم أستطع استكمالها»

مازن وثب عليه ثم سدد له لكمة مؤلمة في فكه .. وقبل أن يتأهب مصطفى، تلقى ركلة في قصبة ساقه جعلت قلبه يتوقف للحظة، وفي اللحظة التالية وجد نفسه على الأرض يحاول انتزاع اليد التي تحاول أن تطبق على عنقه .. هواء .. لابد من هواء. ستكون قصة طريفة في حد ذاتها عندما يقتل بطل القصة مؤلفها .. لكن لا وقت للتذوق الأدبي هنا. هواء!

في اللحظة التالية رأى شيئًا مروعًا يزحف من الخلف .. الشيء الذي مزق ذراع رأفت .. الشيء الذي يثير رعب الناس من هذه الفلاة .. الشيء الذي لم يستطع قط أن يتخيله. لم يكن خياله قادرًا على تخيل شيء كهذا .. لكنه استطاع أن يعرف اسم المسخ دون أن يخبره أحد: الخاريص… لا يعرف من أين جاء هذا الاسم لكنه كان يعرف أنه صحيح.

صرخ في رعب بصوت مختنق:

«اتركني يا أحمق!.. الشيء!».

مازن واصل الضغط على عنقه في توحش. في اللحظة التالية التف الذراع المخيف الشبيه بممصات الأخطبوط حول صدره .. وبعد لحظة كان هذا الصدر بالذراعين ساقطًا على العشب على بعد أمتار.. وإن ظل حوضه وفخذاه حول جسد مصطفى … كأنه كان مستمرًا في الضغط بانعكاس النخاع الشوكي ..

صرخ مصطفى بأعلى صوته .. الغوث!

أنت من صنع هذا المسخ .. القصة قصتك وأنت الوحيد القادر على عمل شيء ..

المسخ الذي مزق رجلين في ربع ساعة .. ومن الواضح أنه سيمزق الثالث حالاً ….

هرع إلى السيارة الواقفة .. غالبًا هي سيارة مازن، ووثب خلف المقعد وأدار المحرك .. رأى الخاريص يتقدم .. يقف أمام السيارة متأهبًا للوثب .. تراجع للوراء، ثم أدار العجل متهيئًا للفرار … لكن المسخ ركض بسرعة أكثر وتمسك بالرفرف الأمامي، وبلا جهد تقريبًا رفع السيارة لتصير في وضع شبه عمودي على الأرض .. مرتكزة على عجلتين فقط.

فتح مصطفى الباب الثاني ووثب منه إلى الخارج وتدحرج على الأرض ..

سقطت السيارة بدوي مدوّ لتستقر على عجلاتها الأربع .. بينما عاد المسخ يتجه نحوه …

هنا على بعد متر منه وجد جركن البنزين الذي تركه مازن في مكانه. زحف نحوه وفتحه ثم هب واقفًا وقذف البنزين كله على الشيء المخيف .. لابد أن علبة الثقاب ما زالت في جيبه .. هاهي ذي !.. بسرعة وبيد مرتجفة حك العود بالعلبة ثم ألقى به مشتعلاً على الخاريص.

فااااااااام!.. اشتعلت النيران في الشيء .. كان مشهدًا كابوسيًا خاصة مع ضخامة حجمه وشراسته .. راح يتلوى يمينًا ويسارًا ثم سقط أرضًا وبدأ يتحول إلى غبار ..

رائحة البنزين تزكم الأنف .. الليل يكتم أنفاسه حتى لا يصاب بالربو ..

وقف مصطفى يلهث لكنه اعترف لنفسه بأن الخاريص رائع. لا يوجد مسخ مثله في عالم الأساطير. هو لم يخترعه لكن من المفترض أنه اخترعه وهذا يجعله عبقريًا بحق. سوف يستعمله فيما بعد في قصص أخرى بالتأكيد .. هناك حيل دائمة لدى الكتاب تعيد هذه المسوخ للحياة. اقترب أكثر ليتأمل الرماد .. هنا رأى أطرافًا بشرية متفحمة .. عيونًا متفحمة .. جماجم ذائبة …

بدأ يفهم .. الخاريص لا حجم له ولا كتلة .. إنه يتكون من جثث ضحاياه ويكبر بلا توقف. لابد أن بين هذه البقايا جثة رأفت .. أما جثة مازن فلم يتسع لها الوقت ….

لم يكن متأكدًا مما إذا كان هذا الشيء قادرًا على أن يصحو من الرماد .. كل شيء ممكن. هذا مسخ لا تعرف أنت عنه شيئًا، ومن قوعد أفلام الرعب أن الوقوف طويلاً أمام جثة الوحش الصريع خطر .. من الوارد أن ينهض من جديد ..

هكذا هرع إلى السيارة وأدار المحرك ..

انطلقت السيارة مبتعدة عن المشهد، وسط الظلام الدامس الكثيف. تنهد الصعداء وهتف بأعلى صوته:

«هذه قصة أخرى قد انتهت يا سادة .. وهي نهاية مرضية لكم. المسخ يقتل .. المسخ يموت ..»

ثم أردف:

«هل لكم أن ترجعوني لعالمي؟»

في اللحظة التالية كان يجلس في قاعة الاجتماعات إياها .. مجلس الإدارة أو الهيئة التنفيذية. المدير الأشيب والأصلع البدين ودخان السجائر المنعقد في الهواء. ثمة شاشة جانبية تعرض مشاهد من القصة الأخيرة ومواجهة الخاريص. كان بعضهم يلتهم وجبة سريعة يبدو أنها طعام الغداء ..

وجد نفسه جالسًا إلى المنضدة وأمامه كوب كولا وشطيرة دجاج مقلي بالمايونيز ..

«كل يا أستاذ مصطفى .. لابد أنك جائع»

قال الرجل البدين في حماسة:

«الخاريص كان جيدًا فعلاً.. لقد قررنا ألا تكون هذه نهايته. في قصة أخرى سوف نكتشف أنه يعيد تجميع بقاياه وينهض .. من المفيد أن يبقى هذا الوريد الثري»

ابتلع المدير بعض الكولا وقال:

«لكن النهاية كانت أسهل أكثر من اللازم .. وحش بهذه الصفات كان يجب أن يتعب البطل أكثر .. يجب أن يموت مرارًا ونحسبه انتهى ثم ينهض ثانية»

قال رجل ثالث:

«ثم أن الحل لم يأت من الأبطال .. جاء منك أنت .. أي أنك أقحمت إقحامًا على القصة .. الكاتب يتدخل من خارج القصة وليس من داخلها»

قال مصطفى في إرهاق وهو يلوك اللقمة:

«لم أتدخل .. لم أفعل أي شيء على الإطلاق»

قال المدير:

«على كل حال، سوف نرى كيف ستكمل لنا قصة أخرى .. تذكر أنك لن تعود لعالمك قبل أن تعطينا قصصًا مرضية …»

وبدأ مصطفى يشعر بأن الغرفة تظلم تدريجيًا .. وشم رائحة الغبار ……

يتبع