عندما تتزاحم الصور النمطية نذهب إلى أبعاد أشبه بشعر هوميروس، عند وضع صورتين نمطيتين (كليشيه) يكون ذلك مضحكًا، لكن ماذا عن مائة كليشيه؟ يصبح ذلك مؤثرًا، لأننا نصبح واعين بشكل خفي بأن تلك الكليشيهات تحاور بعضها البعض وتجتمع معًا، وقتها تقابل ذروة المعاناة ذروة الحسية وتقترب الرداءة من طاقة أسطورية، تجعلنا قمة التفاهة نقترب من لمحة من الجلال.

في مقال بعنوان «طائفة اللا مثالية The Cult of The Imperfect»، يكتب الدارس والروائي الشهير أمبرتو إيكو عن فكرة تكون طائفة cult مخلصة لعمل فني ما، عادة ما يكون ذلك العمل ناقصًا، غير مهتم بقواعد الوسيط الذي ينتمي إليه، أو ربما يملك حتى لمحات من الرداءة، يدلل على نظريته برواية كونت مونتي كريستو ويرى أنها تملك كتابة رديئة ومكررة، لكنها وبسبب ذلك تحديدًا تملك عددًا كبيرًا من المعجبين، بالنسبة له لكي تتكون طائفة لعمل ما لم يحظَ بشعبية أو تقدير نقدي وقت صدوره يتطلب أن يكون ذلك العمل قابلاً للتفكيك وإعادة القراءة فإذا كان العمل مثاليًا فنيًا، منضبطًا ومتكاملاً يصعب ذلك عملية تفكيكه وتخريبه وإضفاء معانٍ جديدة عليه، بل إن ما يحدث في الغالب في ذلك العمل غير المحبوب هو تقطيعه وتحويله إلى شذرات مؤثرة تتداولها تلك الطائفة المعجبة به التي تخلق له شعبية جديدة تحرره من قيود الكمال الفني وتجعله ملكًا لها.

في عام 2018 أصدرت شركة سوني بالتعاون مع مارفل فيلم فينوم Venom، من بطولة توم هاردي وميشيل ويليامز ويحكي قصة بسيطة مقتبسة من القصص المصورة، عالم متآمر يستخدم مادة ساقطة من الفضاء في صورة نيزك لكي يجري تجارب لدمجها مع الجسد الإنساني وصناعة رجل أعلى قادر على العيش في كوكب متداعٍ أو ربما في كوكب آخر، تنطلق الأحداث حينما تحتل تلك المادة جسد إيدي «توم هاردي» الصحفي ومقدم البرامج المثيرة للجدل، تقع بين الفضائي فينوم وإيدي علاقة حب/كره تتحول إلى صداقة وتعاون في القضاء على الأشرار.

فيلم فينوم الأول لم يحصل على آراء نقدية جيدة أو نجاح جماهيري ساحق، سخر الجميع من رداءته، فهو ليس متميزًا على أي مستوى سواء فنيًا أو تقنيًا، يملك أداءات مسطحة، وشخصيات كليشيهية مكررة، لكن ذلك لم يمنع الشركة من إصدار جزء ثانٍ منه في عام 2021 بعنوان فينوم: فلتكن هناك مذبحة Venom: Let There Be Carnage خاصة بعدما كون الجزء الأول طائفة صغيرة حوله تحتفي برداءته ونمطيته وتشبهه بأفلام أوائل الألفية وتعيد قراءته كفيلم عن الصداقة بل وعن ارتباط عاطفي محتمل بين ذلك الكائن الفضائي وإيدي الكائن الأرضي الفاشل، عزم صانعو الجزء الثاني على صنع فيلم أفضل فنيًا يحمل جينات الفيلم الأول لكن يتجنب الانتقادات نفسها، فهل نجحت تلك الخطة؟

متعة بدائية

إذا ذهبت لمشاهدة فينوم فلتكن هناك مذبحة في دار عرض، سيمر الوقت سريعًا، لن تكون بحاجة للتفكير في أي شيء، كل الأحداث واضحة ومرتبة، إيدي وفينوم اعتادا صحبة بعضهما بعد الجزء الاول، إيدي أكثر كسلاً واكتئابًا بعد انفصاله عن خطيبته آن، يلعب توم هاردي دوره بنفس الطفولية المألوفة، متجهم، متعرق ومحني الرأس، فينوم يريد الطعام ويحاول ألا يأكل الناس فيقدم له إيدي الدجاج والشيكولاتة عوضًا عن الأمخاخ البشرية، لا يخرج إيدي من حياته الرتيبة إلا رغبة قاتل متسلسل في أن يتحدث معه، وتبدأ رحلة شديدة العادية في كشف أسرار ذلك المجرم ومحاولة هزيمته.

يعد ذلك الجزء تحسنًا عن سابقه، يملك مونتاجًا أفضل ومشاهد قتال أكثر تماسكًا وشريرًا أكثر جاذبية لكنه ليس بعيدًا عن أصله، فلتكن هناك مذبحة يمثل متعة بدائية لا عقلية تمامًا، لا يحاول إضفاء عمق على شخصياته أو ما تمثله، ربما حتى أكثر من الجزء الأول، يمثل إيدي نمطًا واضحًا يشبه سبايدرمان الذي يرتبط بعالمه بشكل وثيق، كلاهما غير واثق من نفسه ويكسبه التدخل الخارجي حياة جديدة أكثر شجاعة وجرأة، يعد شرير الفيلم كليتوس كاسيدي القاتل المتسلسل شريرًا نمطيًا كذلك، هو أشبه بنموذج الجوكر، على علاقة رومانسية مع فتاة متحولة تملك قدرات خارقة تمثل ما يشبه هارلي كوين، شريران مهووسان، عقلاهما ليسا في رأسيهما، يتحديان العالم كله ليكونا سويًا، يجعل أداء وودي هارلسون المميز والممتع من ذلك الشرير شخصية تستحق المشاهدة والتشجيع بل ربما تأخذ جانبه على الرغم من كونه قاتلاً بلا رحمة.

توم هاردي في Venom: Let There Be Carnage
توم هاردي في فينوم: فلتكن هناك مذبحة 2021

الشر للشر

في فينوم الأول خطط للشر كله، عالم مجنون ذو ملامح عرقية قام بدوره ريز أحمد، أراد ذلك العالم تحقيق خطة إلهية وشبه نفسه بالمسيح، يتحدث بالأمثال الإنجيلية ويريد أن يعيد خلق بشرية جديدة، وعلى الرغم من تفاهة الفيلم وسرعة حركته فإنه اختار أن يصنع شريرًا ذا أهداف كبرى، تجنب فينوم الجديد تلك السمة وصنع شريرًا ربما نفتقده في السينما التجارية المعاصرة، شرير كاريزماتي، شرير لأنه شرير، يرتدي ملابس غرائبية ولا يتحدث بالحكم والأمثال، يملك ملامح مميزة وقصة حب مجنونة، بالطبع يملك القاتل المتسلسل تاريخًا عائليًا مظلمًا يفسر إجرامه من إساءة أسرية وغيرها، فلقد قتل جدته ووالديه بسبب إساءتهما له، لكنه مجنون تمامًا فلماذا نصدق ما يقول؟

وودي هارليسون في Venom: Let There Be Carnage
وودي هارليسون في فينوم: فلتكن هناك مذبحة 2021

يشير كاسيدي لحب الناس للقتلة المتسلسلين كإحالة للوضع الحقيقي الحالي وهوس متابعة الوثائقيات التي تسرد تاريخ قتلة متسلسلين حقيقيين، ويضع نفسه في نفس الدرجة من الشعبية بل ويعتقد أنه يملك معجبين، ويخلق مع حبيبته فرانسيس باريسون أجواء قوطية تستدعي الرعب الكلاسيكي، مليئة بالقتل والأشباح والملابس الفيكتورية، يجعلهما ذلك ثنائيًا يمكن الاستمتاع بمشاهدته بدلاً من الرغبة في التخلص منه في أول مواجهة مع البطل، لا يعني ذلك أن ثنائي إيدي وفينوم غير جذاب لكن الفيلم يعطي مساحة للطرفين لاستعراض ما لديه خاصة بعد تحول كاسيدي لنظير فينوم الأكثر قوة Carnage أو مذبحة، يعطي ذلك للفيلم أجواء أكثر دموية ويعلي من الخطر الواقع على الأبطال.

إعادة قراءة

بعدما تخطى الجمهور رداءة فينوم 2018 بدأت موجات من تقدير الفيلم للأسباب ذاتها التي جعلته مكروهًا، فهو أردأ من أن يتم انتقاده بالمعايير الحالية للتقييم، يملك أجواء بدائية وكأنه صنع في بداية الألفية وليس في ذروة صناعة أفلام الأبطال الخارقين التي تحمل لمحات فلسفية وسياسية، ومؤثرات بصرية وتكنولوجية ضخمة، ربما يكون السبب الرئيسي في إعادة تقييم الفيلم هو إحالته المستترة لعلاقة فينوم بإيدي، يتعامل فينوم باستمرار كأنه يملك جسد إيدي لكنه يكرر أنه يحب آن ويريد العودة إليها مما يخلط الإشارات فيما يخص مشاعره تجاه إيدي، التقط صناع فيلم فلتكن هناك مذبحة ردود الأفعال تلك التي ترى الفيلم أحد أكثر أفلام مارفل تحررًا فيما يتعلق بميول أبطاله، فاختاروا تعميق العلاقة أكثر، أصبح فينوم نفسه مجازًا للتحرر من «خزينة» إخفاء ميوله الحقيقية.

يتناول الفيلم ذلك الجانب بخفة على الرغم من ندرته في الأفلام التجارية الكبيرة وخاصة أفلام الأبطال الخارقين الموجهة لجمهور واسع، لا يتعامل الفيلم مع الأمر بجدية مصطنعة أو يعطيه اهتمامًا خاصًا أو يحمله برسالة أكبر منه، بل هو جزء أصيل من تشابك علاقات الشخصيات ببعضها، خفيف الظل بجانب كونه ثوريًا أو غير مطروق بنفس الجرأة في نوعه.

توم هاردي في شخصية إيدي مع فينوم
توم هاردي في شخصية إيدي مع فينوم

فيلم فينوم: فلتكن هناك مذبحة ليس فيلمًا عظيمًا أو مؤثرًا، ستنساه في طريقك للمنزل على الأرجح، لكنه عودة لنوع من الأفلام الممتعة التي لا تحمل أفكارًا أكبر منها، بسيط وأحمق في الكثير من الأحيان، يعتمد على صراع بسيط بين أشرار وأخيار، ربما يكتسب في المستقبل طائفة محبة له بشكل خاص وربما يتم نسيانه مثل أفلام كثيرة من قبله، لكن بينما لا يزال في العرض ربما ترغب في الذهاب واختبار القليل من المتعة الحمقاء التي لا تتعبك في التفكير.