في بدايات القرن الماضي أدرك السينمائيون أن صناعتهم الناشئة ما عاد يكفيها أن تجذب الجمهور من خلال مقاطع مصورة لأحداث يومية عادية، لم تكن لديهم التقنيات اللازمة لصناعة أفلام ناطقة بعد، لكن الموسيقى كانت حاضرة ومنذ البداية.

استخدم البعض قطعًا موسيقية كلاسيكية، وألّف آخرون موسيقاهم الخاصة لأفلامهم، وأشهرهم بالتأكيد هو شارلي شابلن. استمر الأمر على هذا المنوال حتى أوائل العشرينيات، نطقت الأفلام ومعها تحولت الموسيقى إلى أغانٍ. بدأ صناع السينما في سرد حكاياتهم من خلال أفلام موسيقية قصيرة، وهكذا ظهرت الفيديو كليبات للمرة الأولى، حتى ولو لم يسمّها أحد بذلك في هذا الوقت.

مر نصف قرن عقب ذلك، وبالتحديد حتى منتصف السبعينيات، حينما عرضت قناة BBC الفيديو كليب الخاص بأغنية «بوهيميان رابسودي» لفريق «كوين»، وهكذا وعقب النجاح الأسطوري لهذه المادة الفيلمية التي زادت مدتها عن 6 دقائق، أصبحت الكليبات الغنائية أمرًا تسويقيًا مهمًا لكل شركات الإنتاج الموسيقي.

ليأتي بعد ذلك عصر MTV في الثمانينيات ويصبح التليفزيون في حاجة أكثر لأغانٍ مصورة ومواد فيلمية مصورة عن الأفلام. ينطلق مايكل جاسكون في هذا العصر أولاً بكليب لأغنية «بيللي جين» برفقة المخرج ستيف بارون، ثم بفيلم موسيقي قصير لأغنية «ثريلر» مع صانع أفلام الرعب جون لاندس، والذي اعتبرته مجلة «Rolling Stone» كأفضل فيديو موسيقي في التاريخ.

منذ ذلك الحين وحتى اليوم، وصناعة الكليبات الموسيقية في تطور مستمر، بين من يستغلها كوسيلة تسويقية وفقط، وبين من يعتبرها وسيطًا فيلميًا حقيقيًا يصلح لصنع الحكايات.

اليوم نصحبكم في رحلة مع هذا النوع الثاني، هذا النوع الذي بدأ فعليًا مع مايكل جاكسون، ونرى تجلياته الآن بين أمريكا وبريطانيا ولبنان ومصر، ونحاول في نهاية هذه الرحلة أن نكتشف كيف تطورت الفيديو كليبات، وكيف يمكننا قراءتها كمحتوى فيلمي حقيقي.


فلسطين: كليب غنائي أقوى من صوت العرب

في السابع من يونيو لعام 2019 أطلق فريق «مشروع ليلى» الغنائي اللبناني فيلمًا موسيقيًا قصيرًا لأحدث أغانيه «معاليك»، في تعاونه الثاني مع المخرجة اللبنانية «جيسي مسلّم». في هذه المادة الفيلمية تعتمد المخرجة اللبنانية على نمط تصوير يحاكي الأفلام التسجيلية والمواد الإخبارية.

يبدأ الكليب بكادر بعيد تتوسطه طفلة فلسطينية، على يمينها مدرعة إسرائيلية وعلى يسارها جندي، تصرخ الطفلة منذ البداية وهكذا نفتتح شريط الصوت، ترفض اعتقال أخيها وتقترب الكاميرا المحمولة على الكتف، يهتز الكادر ونقترب من الفتاة شيئاً فشيئًا. تتجول الفتاة عقب ذلك وتتجول معها الكاميرا، تطارد الجنود الإسرائيليين وتشتبك معهم، تدفعهم للخروج من الكادر في كل مرة، وتحافظ جيسي مسلم على بطلتها دائمًا في منتصف الكادر.

اقرأ أيضًا:«مشروع ليلى»: أبناء الليل الذين لا يشربون الشاي

نبدأ عقب صدمة البداية في إدراك كلمات الأغنية. يتشرب صوت ♫حامد سنو» وهو يتمتم:

في وصف الفيديو نجد أن الأغنية قد تأثرت بالقصة الحقيقية لعهد التميمي، الفتاة الفلسطينية التي تم اعتقالها على إثر اشتباكها مع جنود من قوات الاحتلال التي حاولت هدم بيتها واعتقال بعض أفراد أسرتها، لكن غاية جيسي مسلم و«مشروع ليلى» تتجاوز ذلك، إذ يبدو أن هذا الفيلم القصير موجه بالأساس للتحريض على العصيان ضد كل أشكال الاستبداد العسكري، سواء داخل أراضي فلسطين المحتلة أو خارجها.


ماذا لو: سيناريو مبني على خيبات حقيقية

لحياتنا مسارات عدة، وفي كل مرة نصل فيها لمفترق طرق، يموت أحد تلك المسارات، حياة أخرى مكتملة كان من الممكن أن نعيشها. «ماذا لو؟» سؤال سيظل يطاردنا، هذا ما يدور حوله الفيديو كليب الخاص بفريق «The Lumineers» الغنائي الأمريكي.

تبدأ هذه المادة الفيلمية بكادر قريب لوجه فتاة تبدو كما لو كانت قد توقفت عن البكاء منذ لحظات، أبعاد الصورة توافق نسبة «المربع الصغير». تبدو الفتاة كما لو كانت محاصرة بين هامشين من السواد، تنتقل الكاميرا بينها وبين شاب في نفس سنها، يحتضنان بعضهما البعض، ثم يغادر الفتى مسرعًا، تغادر نسخة أخرى من الفتاة جسدها، وندرك أننا أمام سيناريو تخيلي بعنوان «ماذا لو؟» ماذا لو لم تتركه يرحل؟ ماذا لو رحلت بصحبته؟

تلحق الفتاة بحبيبها، وبمجرد أن يحدث هذا، يتسع الكادر تدريجيًا لتملأ الصورة الشاشة، والغريب أنك ربما لن تلاحظ هذا من المرة الأولى. يستمر السيناريو التخيلي حتى نعود في النهاية للواقع، فتضيق الصورة من جديد.

هذا الكليب من إخراج الأمريكي «إيزاك رافيشنجارا» وهو متأثر بشكل كبير بأحد تتابعات فيلم «Mommy» للمخرج الكندي «اكزافير دولان» من إنتاج عام 2014، لكن إيزاك قد طور الفكرة بلا شك، ليصبح هذا الكليب جزءًا من فيلم موسيقي قصير يجمع كافة أغاني ألبوم «كليوباترا» الصادر عن فريق «The Lumineers» في عام 2016.


الحالمون: إشارات لنصف حب ونصف حياة

هذا مثال جيد لمن يعتقدون أن الكليبات أقل من أن نحللها كمحتوى فيلمي، وخصوصًا أن هذا الفيديو الموسيقي القصير من إخراج أحد أفضل مخرجي العصر الحالي، جنبًا إلى جنب مع أحد أفضل الفرق الموسيقية في الثلاثين عامًا الأخيرة، نقصد هنا بالطبع المخرج الأمريكي «بول توماس أندرسون» صاحب 8 ترشيحات لجوائز الأوسكار، وفريق «راديوهيد Radiohead» الموسيقي الإنجليزي.

في الفيلم الموسيقي القصير الذي أطلقه فريق «راديوهيد» وأندرسون في صيف عام 2016، نبدأ بكادر بعيد لنفق نرى في نهايته نورًا، يسير من هذا النور في اتجاهنا مجموعة من البشر الذين لا نميز ملامحهم، يتقدمهم توم يورك مغني فرقة «راديوهيد» الرئيسي. عقب هذا يستمر يورك طوال أحداث الكليب وهو يفتح بابًا تلو باب، يمر بالعديد من الغرف والبيوت، حتى أنه يفتح بابًا على شاطئ يشبه بشدة أحد مواقع تصوير فيلم «The Master»، وفي النهاية يصل لكهف، يستلقي داخله، وينام في وضعية الجنين، حيث يضم جسده على بعضه، وينتهي الكليب بكادر قريب من وجهه، ينطق فيه بكلمات غير مفهومة.

يحمل هذا الفيلم العديد والعديد من الرمزيات، فتوم يورك قد فتح خلاله 23 بابًا، وهو نفس عدد السنين التي قضاها برفقة «راديوهيد»، كما أنه أيضًا نفس عدد السنين التي جمعته بحبيبته التي أعلن انفصاله عنها قبل إطلاق الكليب بفترة قصيرة، 23 عامًا من الحب والحياة لتوم يورك الذي كان يبلغ من العمر وقتها 46 عامًا.

تكتمل الصورة حينما يقرر أحد متابعي «راديوهيد» كشف لغز الكلمات الأخيرة في الكليب، فيكتشف أن شريط الصوت الخاص بها معكوس، وحينما يحاول إعادته يجد أن يورك يتمتم «نصف حياتي، نصف حبي».

عقب ذلك بشهور تتوفى حبيبة توم يورك، وندرك أنها كانت في المراحل الأخيرة من المرض، وكأن في هذا الفيلم الموسيقي القصير أمام مزج بين الحقيقة والفن والخيال، مجموعة من الرمزيات تشكل مرثية ستظل خالدة عبر الزمن.


ديناصور: فن طليعي يصطدم بعصر ديستوبي

إيّـــــاكَ التطوّسَ بـالعروش، الطغيانْ يُزَهِّرْ عصيان، لــو رح أموت مئة مرة، رح أعـــود مــئة مـرة، مصقولِ الحســـــــامْ.

لم تكن مصر ببعيدة عن التأثر بعصر صناعة الفيديو كليب أيضًا، وربما وبغض النظر عن أكثرية الكليبات المصرية التي تعتمد على محاكاة النمط الأمريكي الحديث في صناعة كليب لا يحمل أي حكاية أو معنى ويكتفي بمجموعة من الراقصات والموسيقى الصاخبة، فتيات وفتيان على البحر أو في أي خلفية مضيئة وملونة، فإننا يمكننا أن نذكر عددًا من الكليبات المصرية وخصوصًا في حقبة التسعينيات، أهمها كليبات المطرب المصري محمد فؤاد صاحب أشهر حكاية سينمائية في كليبات التسعينيات ونقصد بالطبع «أنا لو حبيبك» الذي أنتجه فنيًا عادل الميهي وهو المنتج الفني أيضًا لأفلام «شمس الزناتي»، و«آيس كريم في جليم» وغيرها، بالإضافة لكليب «لو» الذي كتب له المؤلف أحمد البيه سيناريو خاصًا.

لكننا الآن وفي نهاية العقد الثاني من الألفية الجديدة، لا يمكننا أن نغفل تأثير ثورة يناير 2011 التي انكسرت في 2013 وأصبح ثوارها عدميين أو هاربين أو مسجونين، وهذا ما نراه جليًا في أحد أحدث كليبات فريق «كايروكي».

في «ديناصور» يتخلى فريق كايروكي عن النمط الكسول في تصوير أغانيهم داخل إستديوهات، ويختارون نمطًا أكثر تجريبية وهو الجمع بين الفن الطليعي الذي يعتمد على إعادة جمع الملصقات الدعائية والأدوات والصور الإعلانية، وتركيبها في سياق يوحي بمعنى جديد، هذا بالإضافة لبعض مقاطع من تحريك الرسوم ومشهد تمثيلي قصير.

كل هذا يصنع فيلمًا موسيقيًا قصيرًا، يغني على خلفيته «كايروكي» في سخرية لاذعة من العصر الديستوبي الذي تعيشه مصر الآن، سخرية تنتهي بجملة نصف مشوشة موجهة مباشرةً إلى رأس السلطة وهي «الكفتة يا ناس بقت علاج، وتحيا مصر 3 مرات».