منذ فرضت على العالم عزلة منزلية مستمرة والجميع يعيد التفكير في العزلة كمفهوم والمنزل كمساحة للراحة وملاذ من العالم الخارجي، لكن تلك الراحة المستمرة لمن يملك الرفاهية للمكوث في المنزل أتت مع أثمان جديدة تدفع، عززت الوحدة والخوف فأصبح الخارج تهديداً والداخل أماناً إجبارياً، مع الوقت فقد المنزل دفئه المألوف أصبح أكثر برودة ورهبة، وأصبحت الرغبة في الهرب والشهور بالاحتجاز هي المسيطرة، نادراً ما يلجأ الناس للفن التشكيلي لوصف حالتهم خاصة في واقع تسيطر عليه الصورة المتحركة ومنصات العرض الإلكتروني للمسلسلات التي تلتهم الوقت وتساعد على الانفصال عن الواقع.

في شهر مارس، أول شهور الحجر المنزلي كتب جوناثان جونز للجارديان «كلنا في لوحات إدوارد هوبر الآن: هل هو فنان عصر فيروس كورونا»؟ إدوارد هوبر هو أكثر الفنانين الذين مثلوا الوحدة شعبية، لكنه مثل وحدة خارجية، اغتراب وسط الجموع، وهو مجاز يصلح لمفهوم التباعد الاجتماعي أكثر من العزلة المنزلية.

هنالك الكثير من الفنانين عبر التاريخ ممن صوروا مشاهد داخلية في المنازل لأسباب ومفاهيم متعددة منها تصوير تفاصيل الحياة العادية، دفئها وثباتها، توثيق الأعمال المنزلية النسائية والاستقرار والهدوء الذي يصاحب جلسة في المنزل، لكن هناك فناناً دنماركياً يسمى (فيلهلم هامرسوي Vilhelm Hammershøi (1864- 1916 عمل في أواخر القرن التاسع عشر، قام بتصوير مئات المشاهد المنزلية التي تتسم بالبرودة والعزلة، تندر فيها التجمعات ويختفي عنها الدفء، أثرت جمالياته ورؤاه البصرية على صانعي الصورة المعاصرين في السينما والفوتوغرافيا والرسم وتماهى معه الجمهور المعاصر أكثر من معاصري وقته وحاز على شهرة الآن أكثر مما تم تقديره في زمنه حتى وإن لم يعرف بالاسم فبمجرد التعرض لأعماله ستتعرف على تأثير رؤيته للعزلة في الثقافة البصرية في كل مكان.

المساحات الداخلية

ولد فيلهلم هامرسوي في 1864 بكوبنهاجن، الدنمارك، تعلم الرسم منذ كان في الثامنة ثم درس الفن في الأكاديمية الملكية الدنماركية للفنون الجميلة، عمل داخل بلده معظم مسيرته، يوثق وجوه من يعرفهم، أمه، أخته وزوجته إيدا، ويوثق المدن التي عاش فيها، كوبنهاجن خاصة داخل ستراندجيد حيث عاش هو وزوجته معظم حياته، فيها رسم التلال والمناظر الريفية والبيوت الصغيرة، لكن أكثر ما اشتهر به هي المشاهد الداخلية لمنزله، بألوان مطفأة ذات ريح باردة شمالية تصنع أجواء خاصة جداً تجمع بين العزلة والألفة المنزلية، غرف واسعة ترى أحياناً بشكل بانورامي وبشكل مقتطع أحياناً أخرى، يتمثل فيها عنصر بشري وحيد، امرأة ذات رداء أسود وشعر مثبت بإحكام عادة ما يواجه ظهرها المتلقي ولا تمثل العنصر الأكثر بروزاً في كل اللوحات، فربما تسبقها الممرات المتتالية أو الأبواب والطاولات.

لم يكن هامرسوي هو الفنان الأول الذي يهتم بالمساحات الداخلية بل هناك من اشتهر أكثر منه بذلك مثل الهولندي يوهانس فيرمير Johannes Vermeer (1632-1675) والذي يظهر تأثر هامرسوي به بشكل واضح، لكنه نبذ ألوانه الحيوية ونزعاته الباروكية القائمة على التباين بين الظل والنور واختار اتجاهاً محايداً بارد، يمكن ربطه نمطياً بالشمال وجماليات البرد والبرودة، لكن مناظر هامرسوي الداخلية لا تبث شعوراً بالجفاف أو الوحدة لكن ليس بشكل كامل، فالسيدة التي نراها من منظور خلفي تهم بخياطة شيء ما أو تحمل إناء ذاهبة به إلى غرفة أخرى أو حتى حينما يخفي ما تفعله تماماً وتصبح جزءاً من تكوين الجدران والأبواب، فمن المؤكد أن هناك حضوراً آخر في الغرفة معها وهو الفنان نفسه خاصة مع الصلة الأسرية الحميمة بينهما، فعلى عكس إدوارد هوبر الذي يتلصص على شخوصه الوحيدين فإن هامرسوي لا يملك رفاهية أن يرى من الخارج، هو في الداخل والعنصر المتناول في ذلك الداخل المغلق معه.

يمين: لوحة إمرأة تقرأ خطاب - يوهانس فيرمير 1663، يسار: داخلي مع إمرأة تقرأ - فيلهيلم هامرسوي
يمين: لوحة إمرأة تقرأ خطاب – يوهانس فيرمير 1663، يسار: داخلي مع إمرأة تقرأ – فيلهيلم هامرسوي

صور فيرمير في مشاهده الداخلية سيدة المنزل في كامل تألقها تقوم بمهامها الصغيرة اليومية مثل وضع عقد من اللؤلؤ أو قراءة خطاب، ورسم العاملات أثناء تأديتهن لأعمالهن من صب الحليب أو صنع المطرزات وتلميع النوافذ، لكن في منزل هامرسوي لا توجد دلالات مباشرة على الحالة الطبقية للنساء أو طبيعة أعمالهن المنزلية، المرأة وخاصة زوجته هي العنصر الذي يعرفه ويستخدمه كجزء من تكوين مفاهيمي غامض ومحير، فالمهمة التي تؤديها هي ليست موضوع اللوحة بل على الأغلب الغرفة نفسها.

تأثر هامرسوي بالفنان الأمريكي جيمس ويسلر James Abbott McNeill Whistler (1834-1903) صاحب بورتريه الأم الشهير «تكوين بالرمادي والأسود 1871»، ورسم بورتريه مشابه لوالدته، لكنه أخذ مفهوم التكوين ذا اللون الموحد لأبعاد مختلفة وجعل منها مسيرة كاملة من الأعمال، فيمكن تسمية معظم أعمال هامرسوي الشهيرة بتكوين بالرمادي والأسود، فهو يستكشف إمكانية صناعة اللون من انعدام اللون وحتى عند حضور ألوان مختلفة فإنها غالباً ما تكون تحت غشاء من الرماد الضبابي.

أعلى: فريدريكا هامرسوي - لوحة أم الفنان - فيلهيلم هامرسوي 1886، أسفل: توزيع بين الرمادي والأسود، جيمس ويستلر 1871
أعلى: فريدريكا هامرسوي – لوحة أم الفنان – فيلهيلم هامرسوي 1886، أسفل: توزيع بين الرمادي والأسود، جيمس ويستلر 1871

بجانب تأثير الأساتذة القدامى مثل رمبرانت وفيرمير عاصر هامرسوي كارل هولسو Carl Holsøe (1863-1935) والذي حسب المؤرخين لتلك الفترة تصعب معرفة من منهما أثر على الآخر، كلاهما تناول الحياة المنزلية الهادئة في الدنمارك بشكل أساسي، يرجح الباحثون في تاريخ التصوير الدنماركي سبب نزوع الكثير من الفنانين في نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين السبب إلى نزعة هروبية من الاغتراب المديني والحداثة ومن تحول الريف إلى مناطق صناعية زعزعت أسلوب الحياة الذي اعتاد عليه هؤلاء الفنانون مما جعل من منازلهم ملجأ وفي نفس الوقت سبباً لعزلة ووحدة جديدة.

أشكال العزلة

يربط هامرسوي وإدوارد هوبر Edward Hopper (1882-1976 رابطين وهما تمثيل العزلة والتأثير في الثقافة المعاصرة، فعلى الرغم من الفارق الزمني بينهما فإن كليهما امتلك رؤية محددة عن العزلة وعن الحداثة، اشتهر هوبر بتصوير مشاهد من حياة الشارع اليومية واهتم بتمثيل العزلة المتأصلة داخل أمريكا الحديثة، وحدة ذاتية وجودية، ترتبط بشكل أساسي بطبيعة العالم بين الحربين الأولى والثانية، هي وحدة وسط الجموع في الشوارع والمقاهي وأماكن العمل.

الوحدة التي قدمها هامرسوي في بداية القرن هي عزلة حرفية، احتجاز داخل مكان مغلق محاط بالممرات المصمتة والأبواب التي تفضي إلى أبواب أخرى، يتمثل المنفذ الوحيد من بحر الجدران ذلك في النوافذ التي لطالما كانت مجازاً للوصل بين الداخلي والخارجي لكن في لوحات هامرسوي نادراً ما ينظر العنصر البشري بشكل مباشر خارج النافذة وإلى العالم الخارجي، يكون على عدة خطوات منها، أو يحجزه عازل ما أو يبدو غير مهتم من الأساس في فعل الأطلال على العالم، لكن حينما ينظر فعلاً في اللوحات الأخرى يغلف ذلك المجاز البصري غموض ينزع إلى الكآبة أكثر من الأمل.

صقور الليل - إدوارد هوبر 1942
صقور الليل – إدوارد هوبر 1942

مثل هوبر الذي يهيم شبحه على الثقافة البصرية الحديثة والمعاصرة خاصة بسبب تناوله لعناصر الوحدة الأمريكية والاغتراب المديني، فإن هامرسوي يمكن إيجاده في أركان الأفلام والصور الفوتوغرافية وأعمال أقرانه، وحدة عناصر هامرسوي منزلية وثابتة على استعداد للحركة في أي لحظة مثل الصور الفوتوغرافية في التقاط ما بين سكون وحركة، إذا شاهدت عدداً عشوائياً من الأفلام خاصة الأفلام التي تقع أحداثها في عصور أقدم المسماة دراما الفترة period drama ستجد لمحات من هامرسوي ليست بنفس الوضوح والكثافة والقصدية التي تتسم بها التأثيرات بهوبر لكن يصعب أن على العين أن تخطئ تأثيره.

هامرسوي في السينما

رؤية امرأة غامضة من الخلف لا يظهر منها إلا عنقها وتسريحة شعرها هي أحد الأنماط المتكررة في لوحات فيلهلم هامرسوي، وعادة ما تكون تلك المرأة جزء صغير من عالم فسيح مصبوغ بالأبيض، عالم من الجدران والأثاث والممرات، في مرات نادرة تصبح صورة المرأة هي مركز اللوحة وعندما يحدث ذلك لا تلتفت لنا فنرى ملامحها بل الأمر أشبه بصورة شخصية بديلة، صورة شخصية من الخلف.

غالبا ما يكون شعر الشخصية التي يصورها هامرسوي مربوط ومنمق، ربط الشعر في لفة محكمة يعطي ايحاء بالتحفظ والهدوء، بالرسمية والاهتمام عكس الشعر الحر المسدل، لوحات هامرسوي متحفظة ومتخفية تعطينا القيمة التلصصية التي تعطينا إياها السينما كمشاهدين ولطالما كان الوجه البشري أحد العناصر الأساسية في صناعة السينما فهو مركز التعبير الرئيسي، لكن نالت الصورة الشخصية الخلفية اهتمام بعض المخرجين فوظفوها بشكل رمزي، ومجازي أحياناً، وجمالي بحث أحيان أخرى.

ربما تكون أشهر لفة شعر في أفلام السينما هي لكيم نوفاك في فيلم فيرتيوجو Vertigo 1958، أعطتها الأهمية والرمزية التي يحملها بها هيتشكوك بالإضافة لجمالها المجرد وتفضيله الشخصي للشعر الأشقر اللامع شهرة خاصة، كما أنها تضفي غموضاً إضافياً على شخصية يتابعها البطل فنتابعها نحن وهي نفسها تتابع شيء آخر، يمكننا رؤية تلك الصورة الشخصية الخلفية بمفهوم آخر في أفلام الروسي أندري تاركوفسكي Andrei Tarkovsky، تعمل تسريحة الشعر والتصوير الخلفي في فيلم المرآة Mirror 1985 كدليل بصري على مرور الزمن، فبدلاً من تصوير وجه امرأة في شبابها ثم في مرحلة عمرية أكبر يقوم ببساطة بتصوير تسريحة شعرها.

أعلى: لوحة لشقيقة الفنان أنا هامرسوي، كادر من فيلم فيرتيجو لألفريد هيتشكوك، أسفل: من فيلم مرآة لأندريا تاركوفيسكي
أعلى: لوحة لشقيقة الفنان أنا هامرسوي، كادر من فيلم فيرتيجو لألفريد هيتشكوك، أسفل: من فيلم مرآة لأندريا تاركوفيسكي

تقتبس إطارات هامرسوي بشكل أوسع في السينما، كتكوينات كاملة بشكل مفاهيمي حتى وإن لم تكن تكرارات حرفية لما يحدث داخل لوحاته، للسينما تاريخ طويل من إعادة إنتاج الفن التشكيلي كمرجع جمالي أو مفاهيمي، لكن في حالة اقتباس السينما لهامرسوي فإن جمالياته المصمتة الغامضة تستخدم لاستدعاء الهدوء، الحياد أو الوحدة، وأحياناً لاسترجاع فترة زمنية محددة أو تصوير القهر الخارجي والعزلة الإجبارية للنساء في غرفهن الباردة، ليست كل استخدامات هامرسوي في السينما مبنية على دراسة للوحاته وأسلوبه بل أحياناً ما تكون عرضية أو نتيجة لتغلغل جمالياته في الثقافة البصرية المعاصرة خاصة فيما يتعلق بالأفلام التاريخية.

أحد أشهر الأمثلة للاستخدام القصدي والمعلن لجماليات هامرسوي نجده في فيلم الفتاة الدنماركية The Danish Girl 2015، يحكي الفيلم حكاية تخيلية مبنية على القصة الحقيقة لليلي البي وهي أول من خضع لعملية تحويل جنسي من رجل لامرأة، الفيلم هو قصة زوج من الفنانين ليلي (اينار) وجيردا فيجنر، وهما شريكان في الحياة والفن من قبل أن تظهر على ليلي علامات اضطراب الهوية الجنسية، بيتهما هو مرسمهما مكان تجمعاتهما وهو الشاهد على التحولات المشتركة بينهما.

بعيداً عن جودة الفيلم أو الخلافات حوله؛ فإن أكثر ما يميزه هو تصميم الإنتاج، خاصة التصميم الداخلي لموقع معظم الأحداث وهو المنزل، تقول مصممة الإنتاج ايف ستيوارت «لقد شاهدنا أعمال الفنانين المعاصرين لذلك الوقت في الدنمارك، خاصة فيلهلم هامرسوي، لقد رسم تلك اللوحات المنعزلة التي كانت معمارية للغاية، أعطتنا دليلاً عظيماً للاتجاه الذي نريده، والألوان التي يجب استخدامها، وأعطتنا أيضاً وسيلة رائعة لفصل الشخصيات عن بعضها، استغرقت أسابيع وأسابيع مع الرسام لأحصل على طبقات من الدهان على الجدران لأقلد الحاصل في لوحات هامرسوي الزيتية أردت التأكيد على أن الجدران تملك حيوية غريبة ولم تكن مجرد جدران مسطحة عملنا معاً حتى نفذنا ذلك وهي طريقة للتعبير عما كان يدور في لوحات اينار كذلك».

بجانب الجماليات البصرية المشتركة بين لوحات هامرسوي وتصميمات الفيلم فإن أسلوب هامرسوي ساعد في تأطير عزلة تلك الشخصيات داخل منزلها وأمام بعضها البعض، ليلي التي تملك شكوكاً حول هويتها يتم تصويرها محتجزة داخل جدارين عندما تراها جيردا بملابس النساء وتشعر أنها تفقد زوجها قبل أن تتقبل حقيقته بشكل كامل.

أعلى: فيلم الفتاة الدنماركية، أسفل: لوحات فيلهيلم هامرسوي
أعلى: فيلم الفتاة الدنماركية، أسفل: لوحات فيلهيلم هامرسوي

في حوار مع المخرج البريطاني «تيرانس ديفيس» Terence Davies عن فيلمه الأخير «شغف هادئ» A Quiet Passion 2016 عن حياة الشاعرة إيميلي ديكنسون، يفند ديفيس أسلوبه البصري قائلاً إنه مهووس بالسيمترية، ويذكر هامرسوي قائلاً:

هناك رسام دنماركي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين يدعى فيلهلم هامرسوي، وهو مثل فيرمير لكن مع مسحة إضاءة شمالية باردة، هناك أبواب وممرات فارغة من البشر، ولو وجد أحدهم، فهي امرأة تدير ظهرها للمتفرج، إنها لوحات رائعة وغريبة، لكنها بالأساس تهتم بالخطوط الرأسية والمستطيلات، إنها مثل لوحات موندريان لكن أكثر بكثير.

يتناول الفيلم حياة إيميلي ديكنسون، وهي شاعرة من القرن التاسع عشري يستدعي في زمنها قضايا مثل تحرير العبيد في أمريكا، ويربطها على لسان ديكنسون بحياة المرأة الأقرب لحياة العبد. فهي ملك لأبيها ثم عبدة لزوجها، تملك ديكنسون روحاً فنية متمردة، لكنها أيضاً تملك مخاوف عميقة تتعلق بالوحدة التي يحتمها عليها هذا التمرد على الحياة الاجتماعية التقليدية ومنظومة الزواج التي تنبذها، لذلك عاشت إيميلي معظم حياتها داخل مساحة داخلية منزلية، تتحرك في حدود حديقة منزل أبيها حتى وصلت عزلتها لعدم ترك غرفتها من الأساس، تعمل بصريات هامرسوي هنا كدليل على تلك العزلة، امرأة بين الأبواب والممرات والنوافذ، عزاؤها الوحيد هو ضوء الشمس البارد الذي يخترق زجاج النوافذ.

أعلى: شغف هادئ، أسفل: لوحات هامرسوي
أعلى: شغف هادئ، أسفل: لوحات هامرسوي

في أمثلة أقل تعلقاً بالسياق العام للأفلام تتأثر بعض التكوينات المفردة بتكوينات هامرسوي، لا يتحدث مخرجوها أو مصممو إنتاجها عن التأثر المباشر لكنه موجود ربما بسبب تراكم بصري يتعلق بالأفلام التي تتناول حقباً زمنية مختلفة أقدم وما ينتجه ذلك من طريقة ملبس معينة أو تصميماً للمناظر الداخلية.

كما أنها تتلاءم مع التقليد السينمائي الشهير بتصوير الشخصيات من الخلف، ومجاز الشعر الملموم بعناية للنساء حسب حالتهم الاجتماعية أو الأخلاقية أو وجودهم خارج وداخل المنزل، نرى ذلك في إطار من فيلم لورا Lore 2012، يحكي الفيلم قصة فتاة ألمانية من أسرة نازية بعد خسارة ألمانيا في الحرب، نراها في بداية الفيلم مراهقة منمقة وجميلة، تأخذ حياتها منعطفاً فوضوياً وتجوب البلاد بحثاً عن مأوى بعد تعقب المنتصرين لأسرتها، فنراها طوال الوقت بشعر متسخ منسدل وملابس ممزقة، بعد وصولها مع إخوتها إلى بيت جدتها النازية المحافظة وبعد تغير أفكارها الهشة واستيعابها لزيف الادعاءات التي تربت عليها نراها ناظرة من نافذة، يقع الضوء على مؤخرة عنقها، مرتدية فستاناً ناضجاً طويلاً وشعرها ملفوف بدقة في كادر يعكس هامرسوي بوضوح، كونها متمردة داخل ملاذ منغلق يعزز ذلك التأثير المنعزل الذي تستدعيه أعمال هامرسوي.

من فيلم Lore 2012
من فيلم Lore 2012

نرى إطاراً مشابهاً في فيلم معلمة البيانو The Piano Teacher 2001 والذي يحكي حكاية سيدة تعيش حياة سرية خارج الأبواب المغلقة لمنزلها وأمها المتحكمة، في أحد المشاهد نراها ناظرة إلى نافذة يحدها البيانو من جانب ويقع ضوء الشمس على عنقها الذي يواجهنا نرى شعرها المنمق وانعزالها عن مكان تواجدها الى عالم مغاير خلف النافذة.

أعلى: فيلم معلمة البيانو، أسفل: لوحات هامرسوي
أعلى: فيلم معلمة البيانو، أسفل: لوحات هامرسوي

ما يفرق أعمال هامرسوي عن تمثيلاته السينمائية هو أن شخصياته نادراً ما تطل حقاً إلى العالم الخارجي الذي يقع خلف النوافذ بل إنها تكون على بعد خطوات من النافذة، يمكن أن تكون متجهة إليها أو لا تكون، وهو ما تمنحه الحركة السينمائية سياقاً، يمكن أن تكون النية الأصلية لهامرسوي هي ترسيخ العزلة بشكل أكبر عن طريق منع تلك النماذج من النظر إلى النوافذ إلا في حالات نادرة، تماثل لوحة من اللوحات التي تنظر فيها السيدة خارج النافذة فعلاً إطار من فيلم السيدة ماكبث Lady Macbeth 2016 يتناول قصة فتاة برجوازية تتزوج رغم إرادتها ثم تطور علاقة عاطفية مع أحد الخدم وتنبذ كل القيم الأخلاقية لمجتمعها، كونها مجبرة على البقاء في المنزل لتأدية مهامها كزوجة، نراها في أحد المشاهد مطلة من نافذة في كامل ملبسها وزينتها تسعى للخلاص الذي يحققه لها ما سوف تجده على الجانب الآخر.

أعلى: لوحة هامرسوي، أسفل: فيلم Lady Macbeth
أعلى: لوحة هامرسوي، أسفل: فيلم Lady Macbeth

يصف الباحثون والنقاد أعمال فيلهلم هامرسوي خاصة الداخلية منها بالصمت، الهدوء، الوحدة والعزلة، وهو ما يجعلها تفاعلية من قبل الجمهور المعاصر أكثر حتى من الجمهور وقت عمله فهو لم يكن الفنان النجم الشهير، لكن عندما يجد كل منا الآن نفسه منزوياً في ركن من أركان المنزل أو يختبر صعوبة في النظر الى العالم الخارجي ويفضل أن يحافظ على عزلته فمن الممكن أن يتمنى أن تكون تلك العزلة في هدوء وشاعرية مشاهد هامرسوي المنزلية.