في بداياته المبكرة خلال سنوات السبعينيات كتب السيناريست المصري وحيد حامد مسلسله الشهير «أحلام الفتى الطائر»،من بطولة عادل إمام، عن شخصية «إبراهيم الطاير» (بحركة يديه المميزتين على شكل أجنحة) والذي ينجح في خداع عصابة كاملة ويخبئ مبلغًا ضخمًا من المال، ثم ينطلق محلقًا مع رفيق رحلته الهارب من مستشفى المجانين في نوع درامي يعرف بتيمة «الطريق»، والتي تتضمن رحلة متعددة المحطات، يقوم بها شخص أو أكثر، سواء للبحث أو الهرب أو التجول، حاملًا فكرة، أو شعورًا، أو سياقًا نفسيًّا أو اجتماعيًّا.

لم تكن ثمة أحلام بالمعنى المباشر في المسلسل، فالفتى الطائر لم يكن سوى قناع وضعه الكاتب الشاب آنذاك ليتحدث من ورائه عن همومه الشعورية والاجتماعية في واحدة من فترات التحولات الكبرى في تاريخ المجتمع المصري. إنها «الأحلام»بالمفهوم الشعري التي ترتبط بسياقات العدالة والسلام النفسي والاجتماعي وسيادة الحب والإخلاص، وغيرها من منظومات القيم الشعورية والاجتماعية، التي كانت قد بدأت تضمحل تدريجيًّا نتيجة الحراكات العديدة التي شهدها مجتمع ما بعد 1975.

وعبر التناقض الخاص بتأكيد المعنى أو تحقيق الالتفات إليه، فإن من يقوم بتلك الرحلة التي يطرح عبرها الكاتب أفكاره/أحلامه للمجتمع هما لص شاب ورجل هارب من مستشفى المجانين، أي شخصان لا يمكن الوثوق بهما أو تصور أنهما يمكن أن يحققا أو يطرحا أي أفكار أو مبادئ سليمة أو راقية أو صالحة للاستهلاك الشعوري الطيب والإيجابي.


حلم واحد وإن اختلفت التيمات

امتدت عملية استدعاءات الأحلام على مستوى الواقعية الاجتماعية أو الميلودراما النفسية في العديد من أعمال حامد خلال سنوات أواخر السبعينيات وحتى أوائل التسعينيات. في 1986 قدم حامد مسلسله «سفر الأحلام»،والذي جاء شكليًّا ونوعيًّا مختلفًا، وربما عكسيًّا لمسلسل «أحلام الفتى الطائر».

فبدلًا من تيمة الرحلة ذات المحطات المتعددة، نجد هنا شكلًا يتلزم كثيرًا بوحدة الزمان والمكان والموضوع من خلال البنسيونالذي تجتمع فيه شخصيات المسلسل،والتي يمكن اعتبار أفكارها وأحلامهاامتدادًا لذات الأفكار والأحلام التي بدأ الكاتب الحديث عنها في «أحلام الفتى الطائر»، خاصة فيما يتعلق بالعدالة الاجتماعية وتضخم مستويات الأنانية والفردية والمادية النفعية، في مقابل غياب قيم التسامح وتقبل الآخر والحب غير المشروط والنجاح المرتبط بالمبادئ والشرف والخير.

كانت فكرة «سفر الأحلام» أقرب للإنذار الذي يطلقه الكاتب تحذيرًا من أن أحلام هذا المجتمع المرتبطة بمنظومة التحضر والقيم الإيجابية على وشك أن تغادره تمامًا، تاركة إياه لنماذج مثل خميس/نجاح الموجي خفير شون القمح الذي يأتي للقاهرة، فيتحول على يد حسن مصطفى،النموذج الانفتاحي، إلى مشروع تاجر عملة صعبةخلال فترة انقلاب الهرم الحضاري للمجتمع المصري ككل، في مقابل النماذج التي تعاني من إحباطات الحلم والمشاعر مثل صلاح السعدني، الكاتب المسرحي الذي يشعر بجفاف إبدعي، أو عبد العزيز مخيون الموظف الذي فقد عقله نتيجة عدم قدرته على احتمال انقلاب الهرم فوق رأسه.

تجدر الإشارة هنا إلى أن الكاتب أعاد استلهام أشكال الرحلة والطريق أكثر من مرة في أعمال مثل «آخر الرجال المحترمين»،حين ذهب الأستاذ فرجاني للبحث عن الطفلة نسمة في كوم قش المدينة الواسعة الملوثة بقيم مغايرة لقيم البراءة وبكارة الريف وعزلة المدرس المثقف عن واقع مرعب وسفلي وغامض. وهي نفسها حكاية مسلسل «الجوارح» التي قدمتها صفاء أبو السعود وصلاح السعدني تليفزيونيًّا.

مع بداية التسعينيات كان الكاتب قد وصل إلى مرحلة مهمة من التمرس الإبداعي وزادت حدة الرغبة في ممارسة مغامرات شكلية تناسب طبيعة الموضوعات التي تشغله من ناحية، ومن ناحية أخرى زيادة درجة نضج المتلقي ووعيه عقب تحولات ما بعد حرب الخليج الأولى 1990، وظهور موجات الإرهاب الديني، وتشبع الأجواء برائحة الفساد المالي والاجتماعي للطبقات المرتبطة بالنظام الحاكم بشكل مباشر وغير مباشر، والتي تشكلت كنتيجة للحراك السياسي العام في مصر بعد 1981.


أحلام ﻻ تخالف الدستور

في عام 1991 قدم وحيد حامد من إنتاجه فيلم «اللعب مع الكبار». بدا الفيلم للذين شاهدوا قبل أقل من عشرين عامًا «أحلام الفتى الطائر» استكمالًا غير مباشر للمسلسل فيما يتعلق بفكرة أحلام العدالة والحق والخير والشرف، خاصة أن بطل كل من المسلسل والفيلم هو عادل إمام، وكأن حسن بهنسي بهلول هو إعادة إحياء لإبراهيم الطائر في صورته التسعينياتية على مستوى الأحلام. بالطبع لم يكن ثمة أحلام بالمعنى المعروف من نوم واستغراق ومشاهد تنساب أمام مخيلة النائم عبر اللاوعي، ولكن جاءت أحلام بهلول الذي كان يستيقظ كل صباح ليهرع إلى أمن الدولة (تحديدًا) معبرة عن نفس القناع الذي كان الكاتب يضعه على وجهه وقت «الفتى الطائر».

لم نرَ أي حلم من أحلام بهلول التي نعرف في النهاية أنها كانت أسرارًا تُفْشَى لكي تظل الدولة توفر الحد الأدنى من الأمن لمواطنيها البسطاء أمثال حسن وعلي الزهار، تلك الشخصية التي أداها محمود الجندي بما يشبه حضور الملاك الذي يهمس بالسر، ثم يختفي بعيدًا.لم تكن أحلام بهلول أحلامًا مباشرة تخص المال، أو السكن، أو العمل، فالأحلام بترتيبها هي حريق مصنع، اغتيال لاجئ سياسي، ضبط كمية مخدرات مع عضو بمجلس الشعب، وهي أحلام لا يوجد لبهلول مصلحة مباشرة فيها، بل إن ضابط أمن الدولة حين يسأله: «وانت ايه مصلحتك في التبليغ عن حريق المصنع المتعمد؟»،يقول له إن حرق المصنع سوف يؤدي إلى زيادة عدد العاطلين أمثاله.

اقرأ أيضًا:سينما ماهر عواد: الضحك في زمن البكاء

في نهاية اللعب مع الكبار عندما يُقتل علي الزهار ويقف حسن بهلول صارخًا «انا هحلم»،بينما يطلق ضابط أمن الدولة رصاصه نحو الأعداء المجهولين/المعلومين، لم يكن في هذا فقطدعوة لأن يحمي رصاص الشرطة أحلام المواطنين،ولكنه كان تذكيرًا بأن حماية الدولة والمجتمع تأتي عبر كلا الطرفين، وليست حكرًا على طرف دون الآخر، وليست تفضلًا من طرف على الآخر.

بل إن الكاتب يسخر من يقينية رجل الشرطة أن الأحلام لا يمكن أن تحمي الدولة، حين يقول لبهلول عندما يذهبان ليمنعا اغتيال اللاجئ السياسي: «هشيل سلاح معايا ليه؟ أنت مش جايبني هنا علشان تحكي لي حلم؟».وفي المشهد الأخير يدرك الضابط أن عليه بالفعل أن يحمل سلاحًا؛ لأن أحلام بهلول تحتاج إلى قوة لتنفيذ إرادتها بمنع الفساد والقهر وخراب الذمم. يسأل بهلول الضابط الذي يصر على معرفة حقيقة أحلامه قائلًا: «تقدر حضرتك تخلي الحلم سند قانوني يقبل أمام المحاكم ولا يخالف نص الدستور؟»،وهو سؤال يحتاج إلى قراءة فلسفية وسيسيولوجية معمقة في إطار علاقة مؤسسات الدولة بالمواطن في المجتمعات الحديثة.

إن من حق المواطن أن يرصد الفساد ويبلغ عنه؛ لأنه أول من يتأثر به، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، ومن حقه أن يحلم بمجتمع تسوده قيم العمل (حريق المصنع) والعلاقات الخارجية الجيدة (مقتل اللاجئ السياسي)، والوعي والصحة (جلب المخدرات). إن أمن الدولة هو أمن المواطن وأمن أحلامه قبل أن يكون أمن النظام الحاكم.


الحلم بين المتن والهامش

في عام1993 ومع نفس الممثل – عادل إمامالذي يبدو كأنه المعادل التمثيلي للكاتب طوال سنوات عديدة – يتقدم حامد خطوة جديدة في سياق سرديات الأحلام التي تنتقل من الواقع بكل مشتملاته وثقله الاجتماعي إلى أرض أحلام اليقظة والأزمنة الاعتبارية التي يعتبر الحلم بمفهومه البيولوجي والسيكولجي أهم أطرها.

يجلس يوسف المنسي عامل كشك السكة الحديد – ودلالة الاسم هنا واضحة ومرتبطة ارتباطًا مباشر بفكرة الأحلام – لينظر من النافذة ويستدعي عبر أحلام اليقظة كل ما ينقصه في حياته الواقعية الخشنة كواحد من المهمشين مكانيًّا (بحكم مكان العمل وطبيعته)، واجتماعيًّا (بحكم الطبقة والمستوى المادي)، وذكوريًّا (بحكم الكبت والوضع الاقتصادي). إنه يستحضر عبر شباك كشك التحويلة وظائف حساسة لن يعمل بها، وحقائب وزارية لن ينالها، ومناصب رفيعة لن يصل إليها أبدًا بما فيها منصب رئيس الجمهورية نفسه، «الكرسي الكبير» كما يسميه وهو يحكي عن أحلامه لغادة السكرتيرة الحسناء، التي تلجأ إليه تائهة وتتحول من واقع إلى حلم آخر مستحيل.

في تمايلها الأيروتيكي المبهر تأتي له دينا الراقصة سائرة على قضبان السكة الحديدية، بينما ينتظرها هو في زهو ذكوري براق، وقد تحول الكشك إلى لؤلؤة ضوئية تناسب فانتازيا اللحظة بكل شهوانيتها وألوانها المبهجة، لم يذهب المنسي إلى المرأة التي اشتهاها، أو القاعات التي تولى فيها المناصب، بل أحضرها إلى الكشك وعلى القضبان اللذين يمثلان عالمه الهامشي المغلق والمعزول.

وتصل ذروة علاقة حامد بالأحلام في فيلمه الأهم «معالي الوزير»، الذي يعتبر علامة فارقة في تاريخ الفيلم السياسي المصري. ينتقل الكاتب من أحلام المواطن العادي ومشاعره وأفكاره وعوالمه، إلى لاوعي المسئول السياسي الفاسد، الوزير الذي كان أكبر رأس يمكن مهاجمته في النظام الحاكم في ذلك الوقت (عام 2002).

يستحضر الكاتب جولات هارون الرشيد ووزيره جعفر البرمكي في العلاقة بين رأفت رستم وعطية عصفور، ولكنها جولات في لاوعي الوزير الذي يتمرد عليه ويطفح بما يعتمل في ذاكرة ضميره من موبقات سياسية ومادية وإنسانية. يقسم الكاتب الأحلام بداية من السقوط السياسي والمادي، وصولًا إلى الموت والجنازة غير اللائقة به كوزير «كامل مكمل» كما يقول رأفت رستم،مرورًا بعلاقته المضطربة بابنته، وضعفه الجنسي مع زوجته، واستخدامه للنفوذ الخارق في الوصول إلى كل امرأة تقع عليها عيناه باستثناء زهرة فؤاد زوجته السابقة التي بحثت عن رجل «أجدع منه»بعد أن وصلت به السفالة إلى قمتها. «عمرك شفت راجل بيكتب تقارير عن مراته؟»كما يأتي على لسانه في حديثه لكاتم أسراره.

لا يستريح معالي الوزير من الكوابيس إلا في مكانين فقط، الجامع لأنه بيت الله، والسجن لأنه مكانه الطبيعي، وتصبح الأحلام المزعجة أو الكوابيس المتتالية هي عقابه وعاقبته التي لا تنتهي،بل تستمر بعد مقتل عطية عصفور على يده، وتتحول إلى أن تصبح كوابيس نهارية يراها وهو مفتوح العينين، وليس فقط وقت النوم، كما تتجلى في المشهد الأخير عندما يشاهد وجه عطية يطل عليه فوق كل الوشوش التي تحيطه كمسئول كبير له نفوذه وسلطته.

ثمة فارق كبير بين أحلام البسطاء من وجهة نظر وحيد حامد، وبين أحلام مسئول كمعالي الوزير.هذا الفارق يمكن رصده بسهولة إذا وضعنا أحلام بهلول والمنسي في مقابل أحلام رستم؛ لندرك انحيازات وحيد حامد المستمرة مع من وضد من.

تبقى الإشارة إلى استخدام الكاتب للأحلام في جانبها المرتبط باللاوعي، والذي انطلق مع المنسي عام 1993، في أفلام «عمارة يعقوبيان» 2006، و«احكي يا شهرزاد» 2009، فشخصية الحاج عزام رجل الأعمال الكبير وتاجر المخدرات الأكبر يتم تقديمها في «يعقوبيان» من خلال حلم نراه فيه يمسح الأحذية في ميدان طلعت حرب، دلالة على أصله المادي والاجتماعي، بينما تقترب منه امرأة بشكل شهواني، يذكرنا بالراقصة الشهية وهي تقترب من المنسي،قبل أن ينقض عليها عزام في سيارتها دلالة على مستواها الاجتماعي والمادي الذي يريد أن يعتليه،ثم يستيقظ لكي نعرف أنه كان يحتلم، وهو الحلم الذي يلخص تاريخ الشخصية بالكامل، ويلقي الضوء على أصل القرار الذي سوف تتخذه بالزواج من فتاة شابة.

أما في «احكي يا شهرزاد» فالفيلم يبدأ عبر لاوعي المذيعة الشابة هبة التي ترى نفسها محبوسة في شقتها الواسعة الفخمة، بينما تتحرك فيها مذعورة باحثة عن باب، أو كما تطلق صيحتها عندما تستيقظ: «مفيش أبواب»،وهو أيضًا توظيف للحلم في عرض الجانب النفسي للبطلة التي تتحرك في سياق من الخوف على مستقبل زوجها وشعورها بالسجن داخل منزل الزوجية، الذي يجب أن تراعي فيه كل ما هو سياسي في مجتمع يحكمه نظام سياسي واجتماعي فاسد وقاهر.

ويبقى الحلم الأكثر طرافة وسخرية في أفلام الكاتب الكبير هو حلم وزير الداخلية محمود حميدة في فيلم «قط وفأر» 2015، والذي ترى فيه الشخصية نفسها وسط كم هائل من الراقصات، بينما الصاجات في يده يشاركهن لهوهن الملون الجميل.

هذا الحلم أيضًا يشبه حلم نور الشريف في «عمارة يعقوبيان» مع فارق النوع من ميلودراما لكوميديا، ولكنه يقدم نفس الوظيفة الدرامية بما يتناسب مع فكرة وأسلوبية الفيلم ككل، ففكرة أن يحلم وزير داخلية مصر بمجموعة من الراقصات تحيطه كأنه ملك متوج على عرش من النساء في حرملك فانتازي، تختصر الكثير من المسافات بين فكرة الفيلم ككل وطبيعة الشخصية، وبين المتلقي الذي يدرك تدريجيًّا ماهية السياق السياسي والإنساني لعمل يتحدث عن الشروخ الطبقية والفواصل غير الطبيعية التي صارت تحكم المجتمع المصري، وتمزق مسامه ماديًّا وشعوريًّا وحضاريًّا على حد سواء.