ماذا تفعل إذا أردت الحديث عن مصر القديمة الجميلة؟ عن الناس الطيبين والجيرة والغيرة والعزوة والعيش والملح؟ الكرم والجود، والإخاء والوطنية؟ عن الذين سيدخلون الجنة بغير حساب؟

استدعى كليشيه «رمضان زمان» وزينته القديمة، و«الفيشة» -الحديثة- التي تمر على كل البيوت، بما فيهم البيت المسيحي. وطبق الأكل الذي ينتقل بالطعام بين البيوت، لدرجة أنك تنسى من صاحب الطبق (رنجة في رمضان!).

تلك هي مقدمة أغنية «وقفة ناصية زمان» التي يعود بها «أحمد مكي» للغناء مرة أخرى، مستعرضًا أخلاقه ورابه وعضلاته.


العضلة المتفجرة

حتى الشقاوة على الناصية كان ليها أصول الخناق راجل لراجل مش راجل قدام أسطول كانت وصمة عار كبيرة إنك تضرب واحد من الضهر حصل، هيحصلك عارك ويوصلك للقبر.

قبل الحديث عن «وقفة ناصية زمان»، لابد من العودة لأغنية «قطر الحياة»، والتي كانت أغنية صادقة وواقعية عن مشكلة الإدمان، فهي لا تعطي نصائح عن أضراره أو تدين المدمن أخلاقيًا في المطلق، أو تحيل سبب الإدمان لأصدقاء السوء. حيث تبدأ الأغنية بشاب وهو يتحدث عن إحباطاته وهزائمه في الحياة، لا عمل، ضغط من الأسرة بلا تفهم لما يواجهه، قلة فرص العمل، ثم ينصحه صديق بشيء سيريحه (حقنة هروين). يجد أنها علاجًا سحريًا حقيقيًا، هكذا جذبته وبدأت دورة المدمن المعروفة. وفي النهاية ينصح شاب آخر بالتجريب لاستغلاله ماديًا، ويموت هو من جرعة زائدة بعد أن فقد كل شيء.

بناء قصصي متماسك وواقعي يأتي من فنان متفهم لهذه الفئة ودوافعها ويريد إيصال رسالة دون فظاظة ودون استعلاء. ويكفي هذه الجملة لتعبر عن تكثيف بليغ لحياة الكثير من الشباب حاليًا (قطر الحياة بيعدي بسرعة سنة بسنة، وأنا زي ما أنا من ما كان عندي سنة، هي هي الحياة هو هو أنا أنا، زهقت طهقت من الحياة تقدر تقول مليت أنا).

أغنية وقفة ناصية زمان خالية من عنصر القصة، ويمكن وصفها بأنها أغنية قصيرة، حيث إن كلماتها قليلة ومحدودة. بقية زمن الأغنية ذاهب في الحديث الأول بين مكي وصديقه، ثم الاستعراضات الراقصة في النهاية. أما الكلمات القليلة فهي عبارة عن احتفاء بفترات شبابه، وطبعًا إظهار أنه تعلم ويعلم الكثير (ابن بلد ومخَلص)، بالإضافة للوعظ (تقطيم) للشباب الحالي. فإما أنك على الناصية تتحرش بالبنات أو تنعزل على الفيسبوك وتحرم من الخبرات العظيمة التي ستتلقاها على الناصية، وطبعا الناصية تعلمك أن الحاجة أم الأختراع.

مكي في قطر الحياة كان يطرق كل الأبواب المغلقة ولم يفتح له أحد، يتألم ويتحسر على فرصه القليلة، وقدراته المحدودة. أما مكي حاليًا فهو يحتفل بذكورته وصحته وذكائه، وبالطبع هو شاب مخلص فكل الأبواب ستُفتح له، لن يقف أمامه عائق. تتجاهل الأغنية تمامًا كل ما يعاني منه الشاب وتسقط الأخطاء عليه وعلى اختياراته وأخلاقه.

الكلمات ذكورية بالكامل، هذا وصف وليس بالضرورة انتقاد. فبداية من تصوير الفتاة التي يتم حمايتها زمان من ذكور المنقطة، أو مهاجمتها وسرقتها هذه الأيام. فالمرأة في هذا الكليب تكاد تكون متوارية تمامًا، وهي مفعول بها سواء بشكل إيجابي أو سلبي. ثم يتحدث مكي عن الفرق بين مشاجرات الماضي والحاضر. يحتفي مكي بأخلاقيات الخصام والشجار زمان، ولا يشجبه أو يدينه.

فالرجل لرجل والمجموع لمجموع أفضل من الرجل أمام مجموع. ولا ضرر من استغفال الغير وصناعة لغة مخصوصة لا يفهمها سوى البعض. كلغة شباب الطالبية، وإذا أطلقنا العنان، سنجد أنه لا ضرورة للغة مشفرة سوى للسخرية من الغريب أو النصب والتآمر عليه، وهذا عكس الرسالة الأخلاقية للأغنية، ولكن رغبة مكي في إظهار نفسة كـ(مخَلص) تجاوزت رسالته.


مدينة الألوان

منذ عامين رسم أحد فناني الجرافيتي لوحة عملاقة في «حي الزبالين» القاطن بالمقطم. الرسمة مفعمة بالألوان الزاهية التي تملأ العمارات المتهالكة الفقيرة. كان الرسام الفرنسي\التونسي «آل سيد» يريد إظهار تعاطفه مع الفقراء وصنع شكل حضاري، ولكن لسخرية القدر أنه لرؤية الرسمة كاملة يجب الوقوف فوق «دير القديس سمعان». أما إذا كنت أحد سكان الحي فلن ترى سوى لطوش ألوان مبهرجة ومجزئة على كل عمارة. سيكون الشكل مبهرًا للسياح بعيدًا، أما سكان الحي فلن يزيدهم الشكل سوى تلوث بصري.

أراد مكي تجميل صورة الحارة المصرية، فظهرت كل العمارات ملونة على غير الحقيقة بألوان فاقعة كالأزرق والأخضر والأصفر. صورة حضارية مصطنعة ولكنه في النهاية كرر نفس المأساة. إذا كان هذا شكل الحارة المصرية في الحقيقة (وهو ليس كذلك)، فسيكون الشكل جيدًا من خلال عدسة الكاميرا، ومن بعيد، ولكن داخل الحي سيكون المنظر غير متناسق ومزعج.

ومكي ورفاقه في الكليب لا يلبسون لبس نواصي زمان، بل ملابس النوادي الرياضية التي يشترك بها سكان الكمبوندات. وبما أن الأغنية تنتمي لأغاني الراب، وبالتالي يجب وجود بعض استعراضات الهيب هوب بطبيعة الحال، فالإضافة الشكلية الحقيقية في هذه الحالة هي تقديم تلك الرقصات بملابس شعبية. وكانت ستكون أكثر واقعية وجمالاً و(روشنة). ولكن على العكس حفلت الأغنية بملابس غالية غير منتمية لتلك الطبقات، وبالتالي كان الكليب شكلاً لا ينتمي لموضوعه على الإطلاق.

وأخيرًا، وخارج سياق الأغنية تمامًا، يقدم مكي استعراض كمال أجسام وتمارين رفع أثقال. استمر العرض لفترة كبيرة من زمن الكليب. الحقيقة أن مكي في هذه الأغنية كان يحتفي بنفسه وبأخلاقه وطفولته و(صياعته) وعضلاته. الأغنية مغتربة كثيرًا عن الواقع، الواقع الذي استطاع مكي الاقتراب منه في قطر الحياة. ولكنه ابتعد تمامًا وتجاهله من أجل الاحتفاء بالذات والاستعلاء الأخلاقي في «ناصية زمان».