أسبوع واحد تبقى على انقضاء الشهر الثامن منذ بداية الحرب بين «الجيش» و«مليشيا الدعم السريع» في السودان، بينما تتفاقم أوضاع ضحاياها من المدنيين المنتمين لمكونات وشرائح اجتماعية لا صلة لها بالمواجهات العسكرية التي تدور في مناطق مدنية، لا يعرف بعض قاطنيها أسبابًا أو مبررات لها، وينصب اهتمامهم فقط في إمكانية إنهاء الحرب ومعالجة أسبابها، ودرء تداعياتها المأساوية المتنوعة الممتدة في كل أنحاء السودان.

تعثرت مجريات التفاوض في «منبر جدة»، وعلقت إلى أجل غير مسمى، وسط غياب تام للمعلومات الحقيقية عن الوقائع الميدانية. تدل جميع المؤشرات على أن خطاب الحرب في تصاعد خطير، ولا تزال مساعي كل الأطرف لتأجيج الصراع بالترويج للخطاب العدائي الداعي للحرب والداعم لأطرافها مستمرة بكثافة مقلقة، ضمن محاولات لاستمالة السند الشعبي وتحشيد الرأي العام المحلي والخارجي. وفي الأثناء لم تزل المساعي الدولية والإقليمية في مكانها دون تحقيق تقدم ملموس يصل لوقف الحرب، ولو بشكل متمرحل يبدأ بهُدَن متتالية لفترات أطول لتأكيد حسن النوايا، والتهيئة لوضع أسس قانونية وسياسية لوقف الحرب.

تصعيد وترجيح

عقب ما وصف بأنه تراجع أممي عن دعم الانتقال الديمقراطي السلس في السودان، زادت حدة الخطوات المنذرة بتصعيد حربي في مناطق جديدة كانت خارج دائرة الاشتباكات الحالية، بينما بسطت مليشيات الدعم السريع سيطرتها على مساحات واسعة من 10 ولايات، بينها ولاية الخرطوم، من أصل 18 ولاية، وتشير مجريات الموقف العسكري إلى عدم قدرة الجيش على المحافظة على بعض المناطق المحاصرة في حال مهاجمتها من قبل المليشيات، أو في حال انتقال المعارك إلى الولايات الواقعة شرق مجرى النيل الأبيض الذي أصبح يشكل فاصلًا طبيعيًّا بين الولايات الغربية الواقعة تحت نفوذ المليشيات، والشرقية التي لم تزل في يد الجيش الحكومي، بالرغم من إحراز الجيش لتقدم محدود داخل أحياء العاصمة الخرطوم (أم درمان، الخرطوم، الخرطوم بحري).

آخر إشارات التصعيد بثت من مدينة ودمدني عاصمة ولاية الجزيرة التي تشهد اشتباكات مسلحة على حدودها مع ولاية الخرطوم، يوم الأحد 3 ديسمبر الجاري، حين قال قائد الجيش الفريق أول البرهان خلال مخاطبته ضباط وضباط صف وجنود قيادة الفرقة الأولى مشاة:

مفاوضات لن تنهي التمرد ولا تلبي رغبة الشعب لن تكون مقبولة. لا حلول ستأتي من الخارج، ولا حلول ستفرض علينا. معركة الكرامة لن تنتهي إلا بنظافة كل السودان. جزء كبير من مكوناتنا أصبحوا الآن يتسولون في عواصم العالم. لإيجاد حلول للأزمة، يجب عليهم الجلوس مع السودانيين والوصول إلى حل بالداخل، لا حلول ستفرض علينا من الخارج.

وتحدث البرهان عن إعداد 40 ألف مستنفر للقتال إلى جانب الجيش، إذ كانت تلك إشارة لانهيار جولة المفاوضات التي تعقد في جدة بين وفدي الجيش السوداني ومليشيا الدعم السريع بوساطة سعودية أمريكية مشتركة. فمساء نفس اليوم، أُعلن عن تعليق المفاوضات وعودة الوفود – بغرض التشاور – دون أن تتم الإشارة إلى موعد جديد لمواصلة التفاوض لوقف الحرب.

هذا التنامي في الدعوة لمواصلة الحرب قائم على التقدم في الموقف العملياتي للجيش في الخرطوم – رغم فقدانه السيطرة على معظم الولايات الغربية – وتصوره القدرة على استنفار الولايات الشمالية والوسطى والشرقية، وقد ظهر آثار ذلك على تصورات الجيش في مطالبة الحكومة السودانية بإنهاء تفويض «البعثة الأممية المتكاملة لدعم الانتقال في السودان» (UNTMAS)، التي كانت تُعتبر داعمًا للخصوم وفق رؤية حكومة البرهان، لكن يرى مراقبون أنه تصعيد غير مبرر، وسيؤزم الأوضاع في السودان أكثر، بل قد يؤدي إلى سيطرة كاملة لمليشيات الدعم السريع على كل أنحاء السودان، فبرغم أعداد المستنفرين الذين يمكن حشدهم، تظل الخبرات القتالية والقدرات التسليحية والتحالفات المؤثرة عوامل ترجيح لصالح المليشيات.

اقرأ أيضًا: الجيش السوداني والدعم السريع: كيف بدأ الصراع المسلح؟

سلطات جديدة

على طريقة وضع اليد، دعت قيادة مليشيا الدعم السريع المجتمع المدني والإدارة الأهلية في مناطق نفوذها، لتشكيل لجان أهلية وأمنية وإدارات تنفيذية وسلطة مدنية، وأكدت أن توفير الأمن من مسئولياتها المباشرة، ومنعت ترحيل الأفراد والعائلات من ولاية غرب دارفور إلى دولة تشاد «نتيجة لاستتباب الأمن!».

وقد شرعت السلطة التنفيذية الجديدة في مزاولة عملها في كل من ولايات الخرطوم وكردفان ودارفور، بعد أن أعلن ضباط إداريون وعمال وموظفون عن تأسيس «إدارة شعبية» تشمل سلطات الشرطة/ الجمارك /وكلاء النيابة، بل شهدت الخرطوم في الخامس من ديسمبر الجاري أول مظاهرة تدعو لوقف الحرب نُفذت في شارع الستين، أحد أشهر الشوارع في منطقة «الخرطوم شرق» التي تسيطر عليها مليشيات الدعم السريع، وهو ما يعني بدء مرحلة (قيام السلطة موازية) لسلطة الحكومة التي شرعت بدورها في إجراء تغيرات شملت أعضاءً في المؤسسة الرئاسية وحكام الولايات وكبار الموظفين في القطاع الاقتصادي وبعض القادة العسكريين. تتم كل هذه الخطوات – من الطرفين – بهدف خلق واقع جديد يجعل من إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الحرب أمرًا صعبًا على الوسطاء.

إرادة وإدارة

لمرة ليست الأولى، تم تعليق مفاوضات «منبر جدة» بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع التي ترعاها كل من المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية بمشاركة الاتحاد الأفريقي ومنظمة إيجاد؛ فمنذ انطلاقه في يونيو 2023 بهدف وقف إطلاق النار ودخول المساعدات الإنسانية، ثم إجراء عملية سياسية تنهي الحرب وتستعيد التحول المدني الديمقراطي، تم تعليقه أكثر من مرة، والآن أيضًا تعثرت المفاوضات بسبب عدم الاتفاق على نفس البنود التي تم تعليق المنبر من قبل بسببها، وهي خروج قوات الدعم السريع من منازل المواطنين والأعيان المدنية، وإعادة الانتشار العسكري والارتكازات لما قبل 15 أبريل الماضي، بحسب طلب وفد الجيش السوداني، مقابل إلقاء القبض على عناصر النظام السابق الهاربين من السجون، والمتسببين في اندلاع الحرب، بحسب رؤية وفد قوات الدعم السريع.

سبب تعليق المباحثات من وجهة نظر «الدعم السريع» هو تمسكه بالقبض على 27 من المطلوبين لدى العدالة الدولية والمحلية، مع ربط ذلك بإجراءات بناء الثقة والوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، وكان وفد الجيش قد وافق أولًا على القبض على المطلوبين، ثم تراجع في وقت لاحق بدفع وضغوط مارسها قادة نظام البشير على قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، حيث هددوه بالانسحاب من القتال إلى جانبه في الحرب، بل التحول إلى خيارات أخرى في حال المواصلة في الالتزام بما تم في محادثات جدة.

الواضح أن هناك خللًا في إرادة الطرفين بشأن وقف الحرب، أو توقيت ذلك وفق تقديرات الموقف لكل منهما، ولأن الدخول في المفاوضات كان جزءًا من تلبية لرغبة المجتمع الدولي، وليس لرغبة الشعب في وقف الحرب، كما أن الوساطة لا تمتلك دافعية حقيقية لإيقاف الحرب بصورة مطلقة إلا بما يخدم مصالح مكوناتها، وهو ما يفسر عجزها عن إدارة التفاوض لوقف الحرب وفق منهج واضح، فإعلان تعليق التفاوض نفسه يعني مزيدًا من الاقتتال وارتكاب الانتهاكات، وتمدد رقعة الحرب، ويعني أيضًا الإحباط وفقدان الثقة في المنبر والمسيّرين، وتقليل فرص النجاح للجولات القادمة.

حياد ثم انحياز

ميدانيًّا، حدث تطور جديد في منتصف نوفمبر المنصرم تمثل في تخلي قادة الحركات الدارفورية المسلحة عن موقف «الحياد» الذي اتبعوه منذ بدء الحرب، وكانت هذه الحركات قد شاركت في السلطة وفقًا لـ«اتفاق سلام جوبا»، وأعلنت وقوفها إلى جانب الجيش على خلفية الصراع في إقليم دارفور منذ العام 2003، ولعدم انتماء منتسبيها للقبائل العربية المكوِّنة لمليشيات الدعم السريع ومليشيات الجنجويد ذات التاريخ المتصل بارتكاب جرائم حرب على أسس عرقية تجددت في وقائع الحرب الحالية، ولقرب بعض تلك الحركات أيضًا من التيار الإسلامي.

الشاهد أن إنهاء حياد هذه الحركات يقود إلى إضافة رقعة جديدة من الحرب والتمرد، مع أنه قد يساعد على حصر الحرب في الولايات الغربية، وتقليل فرص الانفراد بالسيطرة عليها أو تفكيك أجزاء من السودان بأي صيغة من أوجه الانفصال، إلا أنه وفي المقابل ستحدث اصطفافات وتحالفات سياسية وعسكرية وفق شروط التناحر الجديد، وقد تؤدي إلى انقلاب عسكري متوقع حدوثه.

وقد توصل الحرب إلى تدخل مباشر لجهات غير سودانية، مثل دولة تشاد ذات الارتباط المباشر بتلك الحركات، لا سيما وأن التخلي عن الحياد الذي أعلنته الحركات الدارفورية المسلحة يملي على إنجمينا (عاصمة تشاد) التزامات جديدة ذات أبعاد متصلة بالعمق الاجتماعي التشادي، لكن ذلك الانحياز المتأخر لفصائل الحركات المسلحة قد يؤدي إلى مقتلة كبرى بدوافع عرقية على غرار ما حدث في مدينة الجنينة وضواحيها ضد المنحدرين من قبيلة المساليت.

ضغط أم تخلٍّ؟

أرسل عبد الله حمدوك رئيس وزراء الحكومة المنقلب عليها في 25 أكتوبر 2021، رسائل استباق لجلسة النظر في الطلب موجهة إلى الأمين العام للأمم المتحدة ورئيس مجلس الأمن، طالب فيهما بالإبقاء على البعثة وتجديد تفويضها. وقال حمدوك: «إن كانت يونيتامس قد شُكلت في عام 2020 لدعم الانتقال، فقد أضحت الحاجة إليها اليوم أكثر إلحاحًا في ظل انقلاب أكتوبر 2021 وحرب الخامس عشر من أبريل».

لكن الرسائل لم تفِ بالغرض، وتم إنهاء تفويض البعثة التي سبق أن أعاق الفريق البرهان وعدد من القيادات العسكرية والسياسية عملها، وقامت الحركة الإسلامية السودانية وحزب المؤتمر الوطني بالعديد من التظاهرات والوقفات الاحتجاجية الرافضة لوجود البعثة السياسية الأممية في السودان.

وقد أمر مجلس الأمن البعثة بتصفية عملها في السودان خلال شهر واحد فقط، ونقل مهامها إلى وكالات الأمم المتحدة وبرامجها وصناديقها، وإنهاء تلك العملية بحلول التاسع والعشرين من فبراير 2024.

وفي نفس السياق، أطلق أنطونيو غوتيريش تلويحًا بفرض عقوبات، وبينت تصريحات الأمين العام للمنظمة الأممية قبل يوم فقط من انعقاد جلسة النظر في شأن إنهاء مهمة البعثة الأممية تحميله المسئولية للجيش ومليشيا الدعم السريع، في سعيهم للسيطرة على الحكم، وإعاقة عملية التحول الديمقراطي، حيث قال إن الوقت قد حان لتسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية في السودان، وأن الحرب الدائرة هناك محض سباق على السلطة، حيث يتجاهل جنرالان تمامًا مصلحة سكانهما في صراع خالص من أجل السلطة.

وافق أعضاء مجلس الأمن الدولي يوم الجمعة 1 ديسمبر الجاري – باستثناء روسيا التي امتنعت عن التصويت – على مشروع القرار المقدم من بريطانيا، والذي حمل الرقم 2715، بعد مداولات واسعة استمرت لأيام شملت البعثة السودانية والأعضاء الدائمين وغير الدائمين، استنادًا على طلب الحكومة السودانية في 16 نوفمبر الجاري بالإنهاء الفوري لمهام البعثة في السودان.

وكما هو متبع، دعا الأمين العام طرفي القتال في السودان «للتوصل إلى اتفاق لوقف فوري ودائم لإطلاق النار»، وشدد على أن «المنظمة ستواصل القيام بمهامها الأساسية في السودان رغم قرار مجلس الأمن»، الذي رحبت به الخارجية السودانية، كما رحبت بتعيين الجزائري رمطان لعمامرة مبعوثًا أمميًّا إلى السودان.

إن تخلي الأمم المتحدة عن مشروع تحقيق الانتقال الديمقراطي في السودان وخفض سقف الطموح لقيام سلطة مدنية لصالح أولوية وقف الحرب، وتشكيل حكومة يشارك فيها طرفا الحرب في حال التوصل لحل سلمي، قد يفسر الموافقة السريعة على إنهاء تفويض البعثة المعنية بدعم الانتقال، أو أن الانتقال نفسه لم يعد ممكنًا، أو أن هناك ترتيبات أخرى قد تشمل التدخل باستخدام البند السابع، خاصة أن الحرب تقترب من شهرها التاسع ولا يبدو هناك أي أمل بحسم المعركة لأي طرف من الطرفين.

ذلك ما يُستشف من تعقيب وكيلة الأمين العام للشؤون السياسية وبناء السلام «روزماري ديكارلو»، على قرار إغلاق بعثة يونيتامس:

إن الأمم المتحدة لا تتخلى عن الشعب السوداني، وتدعو لتقديم الدعم الكامل للمبعوث الشخصي للأمين العام، لتعزيز الجهود الرامية لإنهاء الصراع المدمر.

اقرأ أيضًا: قوات الدعم السريع في السودان: دولة داخل الدولة