قد يبدو عنوان المقال ساذجًا أو على الأقل غريبَ الأطوار. فما علاقةُ (الديمقراطية) كمنتج سياسي حديثٍ نسبيًا، تبلور تدريجيًا في الغرب خلال القرون القليلة الماضية، بأحداث الفتنة الكبرى التي وقعت قبل 14 قرنًا؟

لقد وصفنا في مقالٍ سابق «ما زلنا في أزمة الثلاثينات الهجرية.» كيف تأزَّمت الأحوال السياسية في أواخر عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان، عندما ثار ضده الآلاف من المعارضين القادمين من الأمصار الإسلامية الرئيسة لا سيّما مصر والكوفة والبصرة، حيث تطورَّت الأمور منذ عام 34 هـ، إلى ما يشبه انتفاضةٍ بدأت سلمية يطالب المشاركون فيها بإصلاحات في طريقة الحكم وتوزيع المناصب، لكنها ما لبثت في أواخر العام التالي 35هـ أن انزلقت – بفعل عوامل تتقاسم مسؤوليتها السلطة وخصومها – إلى تمردٍ عنيف انتهى بحصارٍ غير إنساني للخليفة، ثم بقتله غيلةً في واحدة من أكبر الكوارث السياسية في تاريخ الأمة، إذ بعدها اندلعت حربٌ أهلية، تنازع طرفاها حول أولوية وحدود القصاص للخليفة المغدور، أو الحفاظ على الدولة وإصلاح ما علق بها من فساد أولًا. 

يمكنُنا أن نقول بوضوح إنَّ الأمة الإسلامية ارتبكتْ بشدة أمام هذا المشهد الخطير، ولم تهتدِ إلى أفضل الحلول للخروج من تلك الأزمة بأوسع المكاسب أو على الأقل بأضيق الخسائر. يمكنُنا تفسير ذلك بسذاجة الحياة بوجهٍ عام آنذاك، وبالتالي غياب أو بساطة البُنَى السياسية والمؤسَّسية القائمة، وعجزها عن مواجهة حدث مركّب وغير مألوف لا يوجد خبرة واقعية مسبوقة في التعامل مع مثله. يضاف إلى ذلك طفولة التجربة السياسية للأمة الإسلامية في ذلك الوقت المبكر من تاريخها، إلى جانب التغيرات الهائلة السريعة في بنية المجتمع الإسلامي مع الاتساع المتسارع للدولة الناشئة، وانضمام الآلاف من المسلمين والرعايا الجدد من خلفيات حضارية مختلفة، ومواريث فكرية وسياسية متباينة.

والتجارب البشرية المتكررة تثبت أنَّ قوة المُعتَقد وحُمَّى البدايات في تاريخ الأمم والحضارات، لا تغني في مواجهة المُعضلات السياسية والميدانية عن تراكم الخبرة السياسية الواقعية، والفاعليّة المؤسساتية، ولا تحول بمرور الوقت دون بروز المطامع والأهواء الشخصية لدى الأجيال اللاحقة، وتأثير ذلك بشدة على المصائر الكبرى للأمم.

هل كان في الإمكان أفضل مما كان؟

من أشهر آليات الدفاع النفسي في لحظات الفشل والانكسار التي يمرُّ بها الإنسانُ – والمجتمعات والأمم ككل – أن يميلَ إلى الجبرية بشكلٍ واعٍ، ولا واعٍ، فينسجُ روايته عن تلك الأحداث السلبية على أنّها كانت قدرًا مقدورًا لم يكن له من دافع. وهذا النمط من التفكير مريحٌ على المدى القصير، وخيمٌ على الأمدِية المتوسطة والبعيدة. ولحساسية قضية الفتنة الكبرى في الوجدان الإسلامي فقد حظيت بالكثير من هذا، وعلى مدار قرون، أصَّل كثير من العلماء والفقهاء لسد الأبواب أمام دراستها بما يليق بها وبنتائجها المستديمة، تحت عناوين براقة مثل الخشية من الخوض في صحابة الرسول (عليه الصلاة والسلام) .. الخ.

وقد زاد الطين بلة في مسألة الوعي السياسي لدروس الفتنة الكبرى، والعناية النقدية الواجبة لها، امتلاء التراث السني بوجه أخص بعديد من روايات الآحاد المنسوبة للرسول4 عليه الصلاة والسلام، (ذكر الشيخ سعيد الكملي عديدًا منها في هذا المقطع عن موقعة الجمل) التي جُمع أكثرها في القرنيْن التالييْن لقرن الفتنة، الثاني والثالث الهجري، والتي تجعل من مسألة الفتنة الكبرى واستشهاد عثمان كأنَّها كانت قدرًا مقدورًا لم يكن لعثمان ولا للأمة من سبيل لدفعه، وحديث ليس عالي الصحة سندًا عن أنه ما ضر عثمان ما فعل بعد يوم العسرة الذي أنفق فيه الكثير في تجهيز جيش غزوة تبوك (مع أنه من اليقين التاريخي القطعي أن بعض اختياراته في خلافته قد سببت له الضرر الذي انتهى بقتله، وإن كان يمكن تأويل الحديث بالضرر الأخروي أمام الله وليس الدنيوي) وروايات أخرى عن أن تلك الخلافة التي تولاها الرجل باختيار الأمة وشوراها بعد وفاة الفاروق عمر – وكان يمكن أن تؤول إلى علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، أو غيرهما من أصحاب الشورى الستة – هي قميصٌ ألبستهُ إياه أيدي الحق الإلهي!

 وكم من حاكم لاحق في تاريخ الإسلام – ممن ليس لهم من المزايا والسوابق وافتراض حسن النوايا كما كان للخليفة عثمان رضي الله عنه – واستغلّ مثل تلك الروايات، وأسبغ على حكومته تلك الصفة القدرية الواجبة، ليجعل من معارضته أو محاولة الثورة ضده خروجًا على الإرادة الإلهية، وكفرًا بالمقادير.

 زهّد هذا النظرُ الجبري السائدُ الكثيرين في مدارسة الفتنة الكبرى بشكلٍ واقعي وصريح كأي حدث تاريخي وسياسي مفصليّ. ولا نبريء الأنظمة الأموية والعباسية وأشباهها التي استفادت – على اختلاف شكل ودرجة تلك الاستفادة – من مآلات الفتنة الكبرى، من دعم ترويج تلك التنظيرات الجبرية، والتي تعطل الأمة عن  الاستجابة اللائقة لتلك الأحداث درسًا ونقدًا واعتبارًا.

ونحن لا نشكُّ لوهلةٍ أنَّه لولا انقلابُ المُلك العضوض الذي بدأه الأمويون وورثه منهم العباسيون ومن تلاهم وجاورهم زمكانيًا من الأسر والعُصَب الحاكمة، لأمكن للأمة الإسلامية على مدار عقودٍ أو قرون، انطلاقًا من مبادئ العدل والشورى الراسخة في الإسلام، أن تطوّر آلياتها الخاصة ومؤسساتها الأكثر نُضجًا، القادرة على الحفاظ على تلك المباديء -أو على الأقل على جزءٍ منها- وإضافة مزيد من المكتَسَبات لها، بدلًا من شرعية السيف التي سادت بعد الفتنة الكبرى.

اقرأ: تعظيم معاوية وشبهة إضفاء القداسة على الظلم

ونحنُ لا ننبش الآن أحداث الماضي المثيرة للجدل كنوعٍ  من الترف الفكري أو التعالم التنظيري، إنما نريدُ لأمتّنا أن تنطلقَ من ماضٍ مؤلم وحاضرٍ مأزوم إلى مستقبلٍ أفضلَ وأكثرَ ثقةً، يجنِّبها كثير من الآلام والأزمات التي ألَمّت بها في تاريخها الطويل، ولن يتحقق هذا إلا بالصراحة والجرأة في مواجهة ما فات، حتى يمكن أخذ العِبَر الصحيحة منه لتحقيق ما نريد فيما هو آت.

ولن نتمكن من هذا إلا بأن  نحسن فقهَ ما مضى من التاريخ، حتى لا نستمر في استنساخ نفس الأخطاء والفجائعِ، بالتقصير في استيعاب الدروس، وبالخشية من مواجهة صدمة الحقائق المؤلمة، ورفض نزع القداسة عن أفعالٍ لبشر يصيبون ويُخطئون. كما نريد التأكيد على واجب الاستفادة مما شهدناه من منجزات التجارب الهائلة للبشرية في القرون والعقود الأخيرة في مجالات السياسة والحكم وتداول السلطة، لا سيّما في الغرب، التي كان ثمنُها هناك الكثير من التضحيات والفصول الدامية والخبرات السياسية باهظة الثمن على مدار قرون، ثم البناء عليها، وإضافة بصمات أمتنا الخاصة بعد جولات سياسية وواقعية تتفاعل مع ظروفنا وقضايانا.

ويقينًا، عندما يتعلق الأمر بنقد أفعال وتفاعلات بشرية، فإنه بالتأكيد كان بالإمكان أفضل مما كان. والأجيال اللاحقة عليها أن تتيقن من هذا حتى لا تكرر أخطاء السابقة. ويجب التأكيد مرارًا وتكرارًا على أن انتقاد الأداء السياسي لشخصية تاريخية في قضية أو قضايا محددة، لا يعني الإسقاط التام لهذا الشخص، وإلغاء كافة مزاياه وسابق أعماله العظيمة في غيرها.

حلول «ديمقراطية» لمعضلةٍ تاريخية؟

قبل أن نتحدَّثَ عن الحلول، فلا بد أولًا أن نرسم خارطة المشكلات الكبرى التي قادت إلى الفتنة الكبرى ومآلاتها الفاجعة، فهل يمكن – كمثال – لطبيب أن يصف دواءً فعالًا دون تشخيصٍ حاسم أولًا؟

1. أمامنا دولةٌ متراميةُ الأطراف، اتّسعت أقطارُها، وتضخّمت ثرواتُها – وبالتالي المطامع حقُّها وباطلها – في فترةٍ قصيرة للغاية (أقل من ربع قرن) ورثت خلالها إمبراطورية كبرى ونصف، وانضمّ إلى رعيّتها عشرات الآلاف من البشر من خلفياتٍ وأهواء شديدة التباين.

2. بعد حكومةٍ قوية، لم يفُق حزمَها إلا عدلُها، هي حكومة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب 13هـ – 23هـ، الذي كان بلا مبالغةٍ مهجوسًا حدّ الهوس بدرء أي شبهة انحياز في الحكم، أو فسادٍ مالي أو سياسي أو مصالحيٍّ عائلي، عنهُ وعن ولاته، فقبل غالبية الناس منه شدته بهذا، جاءت حكومةُ الخليفة عثمان بن عفان 24هـ – 35هـ، أقل حزمًا، وأكثر تساهلًا حدَّ التراخي أحيانًا في بعض تلك الملفات الحساسة، لا سيّما في النصف الثاني من عهده، مما جعلها أضعف قدرة في إدارة التناقضات الاجتماعية والسياسية المتصاعدة، وأقل فاعلية في لجم أطماع النخب الجديدة، والولاة أصحاب النفوذ، لا سيّما  أقرباء الخليفة من الأمويين، الذين استُأثِروا بغالبية المناصب. مما أدى إلى تصاعد التململ السياسي والاجتماعي شيئًا فشيئًا.

3. كبُرت سنُّ الخليفة، ووصل في أتون الأزمة إلى منتصف الثمانينيات من العمر، وبالتالي فقد جزءًا من لياقته الذهنية والنفسية التي بدأ بها حكمه الذي استطال إلى 12 عامًا، ولم يكن هناك وسيلة آمنة لتغييره – أو حتى لتجديد الشرعية الشعبية له – دون إراقة دماء، أو انتظار القدر أن يأتيَ بلحظة الوفاة الطبيعية. 

4. لم يكن هناك مؤسسات أو تنظيمات سياسية وسيطة ناضجة، واضحة المعالم والصلاحيات، يتفاعل في إطارها الصراع السياسي ضد السلطة القائمة، بدلًا من اللجوء مباشرة إلى التصعيد في الشارع، وصولًا إلى ما يشبه التمرد العسكري أمام تشبُّث السلطة ببعض مواقفها. 

5. لم يكُن هناك مؤسسة قضائية متعددة الدرجات والاختصاصات، وتحظى باستقلاليةٍ كافية عن القوى المتصارعة، وبالتالي يمكن اللجوء إليها لحسم النزاع حول القضايا الرئيسة محل النزاع مثل مدى شرعية مطالبة الثائرين للخليفة عثمان بالتنحي، وكيف يكون القصاص لدمائه .. الخ.

اقرأ: لماذا اعتمد الإمام علي على «قتلة عثمان»؟

ما الذي حدث وما الذي كان ينبغي أن يحدث؟

كما نعرف جميعًا من الروايات المتداولة في كتب التاريخ الإسلامي، تصاعدت الأزمة السياسية تدريجيًا على مدار شهور وسنوات، من معارضةٍ باللسان، وطلباتٍ قُدمت للخليفة تتعلق بتجاوزات مالية وسلطوية من ولاته، استجاب لبعضها، ولم يستجب للبعض الآخر، إلى تحركات ميدانية تطورت ككرة الثلج إلى احتلال الثائرين للمدينة المنورة عاصمة الدولة، ومطالبة الخليفة بالتنحي، وحصاره بشكل غير إنساني في منزله. وتمسّكَ كل طرف بمطالبه، الثائرون لا يرون حلًا سوى عزل الخليفة أو اعتزاله، والخليفة يرى أنه لا يستحق كل هذا التصعيد، وأن مقام الخلافة سيكون في خطر، وأنه لا يمكن أن يتخلى عن المسؤولية التي شاء الله أن توكَلَ إليه. ثم تسلل بعض المجرمين غير المتيقّن من هويتهم إلى اليوم، وقتلوه في ظلمة الليل، وانحلّت المعضلة السياسية بأفجع الحلول، وأسوئها مآلًا.

بالفعل، رفض الخليفة بنبلٍ أخلاقي أن يواجه الحصار ضد بالقوة المسلحة، حقنًا للدماء، وهذا يُحمَدُ له، لكن هذا لم يكن حلًا  سياسيًا حقيقيًا للأزمة على الإطلاق، وأثبتت الوقائع هذا. فدماء أكثر بكثير مما كان يريدُ أن يتجنَّبه الخليفة قد سالت في الشهور والسنوات القليلة اللاحقة، وتمزَّقت الأمة، ثم اجتمعت على مضضٍ تحت حكم الأمر الواقع في خلافة معاوية 41هـ – 60هـ، ثم دخلت في تيه الحكم الجبري الوراثي ولم تخرج من نفقه المظلم إلى اليوم، رغم أن العشرات من الأمم الأخرى حولَنا شرقًا وغربًا قد آلت في عصرنا الحالي إلى ما هو أفضل في نماذج الحكم والسياسة.

كان هناك اختيارات ديمقراطية (بمعنى أنها تكرس إرادة الأمة واختيارها الشوريّ، وتبعد فعلًا خطر الاحتراب وإسالة الدماء، وتعيد النزاع إلى مساحة الصراع السياسي الأكثر أمنًا من الصدام الميداني والاحتراب المسلح) أفضل بكثير أمام الخليفة عثمان، كان يمكن لأحدها أو لبعضها أن يصل إلى نتيجة أفضل أو أقل سوءًا.

  • التحرك السريع بإجراءات جذرية ملموسة تعالج جذور الغضب الجماهيري، وتبطل حجج المعارضين المتطرفين، لأن الأداء البطيء إزاء تحركات الجماهير يعطي الوقت للعناصر الأكثر راديكالية لتسحب جمهور الثائرين إلى مساحتها، وتجعل الحلول التوفيقية أكثر صعوبة. ولم تنقل لنا كتب التاريخ الأساسية أنه خلال أسابيع احتدام الأزمة قد اتخذ الخليفة عثمان أي إجراء جذري يمكن أن يغير المعادلات، كأن يعزل مثلًا كل الولاة من أقاربه فيٌنهي بذلك مسألة انحيازه لهم التي كانت من أهم المآخذ على حكومته، وأن يعيد بعض سياسات عمر بن الخطاب المتحفظة في إنفاق المال العام، بأن يكلف شخصية عامة من الصحابة يرتضيها الثوار والمعارضون مثل علي بن أبي طالب بمراجعة سياسات إنفاق بيت المال، لا سيّما ومن الثابت تاريخيا أنه تعهد بعد انتخابه عام 24 هـ بالسير على نهج الشيخين أبي بكر وعمر. وعامل الوقت هنا جوهري للغاية، لأن تحركات الجماهير لا يمكن توقع تطوراتها وتصاعداتها.
  • جمع من على قيد الحياة من أهل الشورى الستة الذين أوصى الفاروق عمر باختيار خليفته من بينهم، ومعهم من بقي من السابقين إلى الإسلام من المهاجرين والأنصار وأهل بدر (الذين أكد القرآن على مكانتهم، وكان لهم احترامًا واجبًا بين المسلمين المعاصرين لهم) ليكون بمثابة مجلس شوري، أو جمعية تأسيسية، ويضع بين يدهم أن يختاروا بالشوري والغالبية إن كان يستمر خليفة أو يُعزَل ويختارون غيره. فإن ثبتوه كان هذا تجديدًا لشرعيته، وأُسقِط في يد الثوار، وإن عاند بعضهم واستمروا في التمرد والعنف، كانوا خارجين عن شرعية مؤكدة ومتجددة للأمة، وحينها يُسل عليهم السيف بغير تردد. 
  • عزل وإبعاد بعض الشخصيات المستفزة للجماهير من دائرة الحكم القريبة منه، مثل مروان بن الحكم، الذي وصفه ابن كثير الدمشقي في البداية والنهاية بأنه كان أكبر أسباب حصار عثمان.
  • الاستقالة مباشرة، وإيكال المهمة لعلي بن أبي طالب الذي كان المرشح النهائي أمامه في الشوري عام 24هـ، وكان يحظى باحترام كبير بين غالبية المعارضين للخليفة عثمان. 
  • عدم الاستقالة، وتشكيل لجنة من كبار الصحابة وأهل الشوري، لمراجعة كافة المظالم المُدَّعاة ضده وضد ولاته، وإعطائهم صلاحية الفصل فيها.
  • عقد تحكيم بينه وبين الثائرين بإشراف لجنة مستقلة من كبار الصحابة، فيختار وفدًا يمثله، ويختار الثوار وفدًا يمثلهم (قد يحدث هنا خلاف بين طوائف الثائرين في الممثلين لهم، ولو حدث هذا، يُضعف جبهتهم، ويزعزع ثقة الجماهير فيهم وفي مطالبهم، ويكون قد تحقق له مكسب سياسي مجاني…) لعقد التفاوض، والوصول إلى منطقة وسطى يقبل بها الطرفان.

ولا غضاضة أن نؤكد أن وقوع الفتنة الكبرى وتصاعدها بالشكل الذي حدث تاريخيًا، يصعب بشدة في أي نظام سياسي ديمقراطي مستقر حديث، فوجود برلمان معبر بشكلٍ جيد عن مصالح وتطلعات  فئات الشعب والشرائح المجتمعية المختلفة، وكذلك مناطق الدولة الجغرافية، يجعل وقوع مثل تلك الصدامات في الشارع أقل احتمالًا، وفي حالة وقوعها، يمكن استيعابها بإجراءات عديدة كسن قوانين مطلوبة، أو سحب الثقة من الحكومة أو عقد انتخابات مبكرة تجدد شرعية الحكومة الحالية أو تسحبها .. الخ دون تفكك الدولة، أو سقوط منظومة الحكم. والبرلمان سيحاسب الحكومة أولا بأول، ويصدر التشريعات التي تحجم تجاوزات الحكومة وأفرادها ابتداءً، قبل استفحالها، ووصولها إلى مرحلة استفزاز الجماهير ودفعها للنزول إلى الشارع.

ووجود الأحزاب والتشكيلات السياسية، وإتاحة فرصة التداول السلمي للسلطة في ما بينها، سيُغني الغالبية عن  اللجوء لمحاولات الانقلاب الميداني وتكاليفها الباهظة إنسانيًا وسياسيًا. وسينخرطون في التنظيمات السياسية الشرعية يتنافسون على السلطة من خلالها. ووجود سلطة قضائية مستقلة، مستقرة المؤسسات، ومتعددة الدرجات، وبها محكمة عليا تفصل في النوازل الكبيرة، يحمي المجتمع والدولة من أخطار التفكك والاحتراب وفقدان الثقة في الدولة والمنظومة.  ووجود الصحافة والإعلام الحر، يتيح للجماهير منابر للتعبير عن آرائها، ويشكل سلطة إضافية تراقب أداء التشريعية والتنفيذية والقضائية. 

والتوازن والتدافع بين كل تلك السلطات، ورغبة كل منها في الحصول على أكبر مساحة تمكنها من أداء عملها، يقوي المنظومة ككل، ويجعل المجتمع ومؤسسات الحكم كلاهما أكثر قوة وندية. وهذا كله ليس أحلامًا، إنما واقع متحقق في عديد من البلدان حولنا منذ عقودٍ طويلة. ونحن هنا لا نحاكم الماضي بحلول أنتجها مستقبل بعيد عنه، إنما نريد أن نؤكد أن أمامنا لو أردنا ما نطرد به أشباح الماضي وكوارث الحاضر الذي نعيش.

خاتمة

الإجابة على السؤال الوارد في عنوان المقال، هو بوضوح نعم. يمكن للديمقراطية أن تمنع الفتن الكبرى، أو على الأقل تحجّم من خسائرها قصيرة وطويلة المدى، وأثمانها المادية والبشرية الباهظة. وليس المقصودُ تلك الفتنة التي وقعت قبل 14 قرنًا فحسب، وإنما مثيلاتُها وشبيهاتُها التي استولدَتْها الظروف التي أنتجتْها أحداث الفتنة الكبرى ومآلاتُها.

وأردنا من هذا المقال القصير تقرير أن ما أشكلَ في ماضينا وانعكس على حاضرنا، وعجز أجدادُنا معذورين وغير معذورين عن مجابهته، أصبح بحوزتنا من التراكم المعرفي والسياسي والتاريخي ما يمكُننا أن تتجاوزه إن أردنا، ليس لأننا أفضل منهم، ولكن لأننا بالتأكيد أسعد حظًا أو على الأقل، أقلَّ تعسًا، بأن أُتيح لنا الاعتبار بتجاربهم الثقيلة، والاستفادة من الانفجار المعرفي الهائل في العصور الأخيرة.