بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011، مرت السينما المصرية بفترة صعبة تراجعت فيها الصناعة بشكل ملحوظ استمر لسنوات قليلة، قبل أن تستعيد أنفاسها مرة أخرى وتدخل في مرحلة جديدة ستكون الإنتاجات الضخمة هي سمتها الرئيسية.

بدأ شباك التذاكر في التعافي شيئًا فشيئًا، إلى أن أصبحت الإيرادات معركة دورية في كل موسم من مواسم العام، كانت البداية مع فيلم «لف ودوران» الذي حقق رقمًا قياسيًا تجاوز 40 مليون جنيه، ثم جاء التضخم الاقتصادي الذي صاحب قرارات تعويم العملة لتتسابق الأفلام، ومنتجيها بالطبع، على لقب الأعلى إيرادات في تاريخ السينما المصرية، فاعتلى القمة فيلم «هروب اضطراري» (55 مليون)، ثم نزل عنها بعد شهور قليلة لصالح فيلم «الخلية» (56 مليون)، ثم في العام التالي كسر الرقم فيلم «حرب كرموز» (57 مليون).
وبعد شهور قليلة، تجاوزه فيلم «البدلة» (67 مليون) .

اقرأ أيضًا: شباك تذاكر السينما المصرية في 2018

بعد مشاهدة فيلم «وﻻد رزق 2»، صادفت الكاتب والناقد محمود عبد الشكور أثناء خروجي من حفلة العاشرة صباحًا، وانتظاره لدخول الحفلة التالية. سألني عن الفيلم، فأخبرته أنه فيلم جيد جدًا، وأفضل من الجزء الأول بالتأكيد.

أشار الأستاذ محمود في حديثه إلى الانتعاشة الاقتصادية التي تعيشها السينما المصرية، فبادرته بالقول بأن كل هذه الإيرادات، وإن بدت ضخمة، إﻻ أنها بالكاد تستوفي ميزانياتها التي ﻻ تقل ضخامة، فأجابني على الفور بأن هناك دﻻلة أهم، وهي أن المنتجين تجاوزوا رهبة الأرقام الكبيرة بشكل قد يكون غير مسبوق في السينما المصرية، وهذا بالطبع سيعود بالنفع على الصناعة كلها، ثم أضاف: «لن يكون لدينا سينما فنية بدون سينما تجارية».

كانت ملحوظة عبد الشكور إضاءة هامة في محاولة تحليل الوضع الحالي للسينما المصرية، وبالتبعية محاولة قراءة فيلم «وﻻد رزق 2» في سياقه الخاص بالصناعة ككل، وبالنوع الفيلمي الذي يقدمه.

طارق العريان وفيلم الحركة

على مدار رحلته الفنية التي قاربت على الثلاثة عقود، قدم المخرج المصري طارق العريان 8 أفلام فقط، بدأها بفيلمي «الإمبراطور»، و«الباشا» مع النجم أحمد زكي أعوام 1990، و1993، ثم انقطع 8 أعوام كاملة قبل أن يعود بفيلم «السلم والتعبان» عام 2001، أعقبه بفيلم «تيتو» عام 2004، ثم عاد إلى الانقطاع مرة أخرى ليعود بعد 11 عامًا بفيلمين دفعة واحدة هما «وﻻد رزق»، و«أسوار القمر» عام 2015، ثم شارك في معمعة الإيرادات بفيلم «الخلية» عام 2017، وأخيرًا هذا العام بفيلم «وﻻد رزق 2».

منذ بدايته المبكرة بدا أن فيلم الحركة (Action) هو النوع المفضل لدى العريان، فمن بين الأفلام الثمانية، 6 منهم هي أفلام حركة، واثنان فقط من نوع الفيلم الرومانسي، أحدهما «أسوار القمر» لم يخلُ من بعض مشاهد الحركة والمطاردات.

مقارنة بالسينما العالمية، تعاني السينما المصرية من فقر نوعي واضح، إذ إنها تعتمد على عدد قليل من الأنواع الفيلمية يتركز بالأساس في الدراما، والكوميديا، مع تجارب قليلة في عدد من الأنواع مثل التشويق، والتاريخي، والجريمة، والرعب، وهذا الأخير يشهد تزايدًا ملحوظًا من حيث الكم في الفترة الأخيرة.

فيلم الحركة لم يكن غائبًا بالكلية عن السينما المصرية، ولكنه ظل لسنوات طويلة بعيدًا عن المستوى العالمي وخاصة بالمقارنة بالسينما الأمريكية، إلى الحد الذي كانت معه أفلام أحمد السقا الأولى نقلة كبيرة في هذا النوع.

بمراجعة رحلة العريان الفنية، سنجد تطورًا واضحًا على مستوى الأسلوب والتنفيذ، شهد نقلة كبيرة مع فيلم «تيتو»، ثم تصاعد باضطراد مع الجزء الأول من فيلم «وﻻد رزق»، خاصة مع توفر الإنتاج الكبير نسبيًا، واللازم لمثل هذا النوع من الأفلام.

في فيلم «وﻻد رزق 2» استطاع العريان أن يقدم أكثر تجاربه اتزانًا واكتمالاً، ما بين القصة التشويقية، والحبكة المحكمة، ومشاهد الحركة المتقنة سواء على مستوى التنفيذ أو التصوير.

على مستوى التنفيذ جاء تصميم المعارك بدرجة عالية من الإتقان، كما كان التحضير البدني للممثلين في أفضل حالاته وﻻ يعيبه سوى الاختيار غير الموفق للممثلين الثانويين في المواجهة الأولى في الفيلم بين أوﻻد رزق، ورجال الخواجة (خالد الصاوي)، إذ يظهر أغلب الممثلين في هيئة بدينة ضعيفة ﻻ تتناسب مع أدوارهم.

التصوير كذلك جاء متزنًا بلا أي استعراض أو مبالغة في حركة الكاميرا، خاصة في مشاهد التصوير الحي في شوارع وسط القاهرة، كما تراجع الاعتماد على الكاميرا الطائرة (Drone) التي بالغ العريان في استخدامها بدون أي مبرر في فيلم «الخلية».

بعد الدفعة الكبيرة التي أحدثتها إيرادات فيلم «هروب اضطراري»، عاد نوع فيلم الحركة إلى منافسة الفيلم الكوميدي والعائلي بشكل قوي في شباك التذاكر، كما شهد تطورًا ملحوظًا كان كفيلاً باسترداد ثقة المشاهد في هذا النوع، وهو التطور الذي يواصل تقدمه في فيلم «وﻻد رزق 2».

صلاح الجهيني

كان الجزء الأول من فيلم «وﻻد رزق» هو الانطلاقة الحقيقية للسيناريست صلاح الجهيني، بعد تجربة متواضعة في الفيلم الكوميدي «30 فبراير» عام 2012. قدم بعد ذلك فيلم «الخلية»، وهو من نوع الحركة أيضًا، ثم تجربة لم تلقَ قبولاً نقديًا من نوع الرعب في فيلم «122».

في الجزء الثاني من «وﻻد رزق»، يستثمر الجهيني نجاح الجزء الأول بشكل موفق، إذ يقدم حبكة أكثر إحكامًا وتماسكًا، ويتفادى العيب الكبير في الفيلم الأول وهو استهلاك نصف الفيلم تقريبًا في التأسيس للشخصيات وعالمها، كما أنه يحافظ على الخطوط العريضة لعالم الفيلم وأسلوبه بشكل جيد، سواء على مستوى الشخصيات ودورها في الحبكة، أو على مستوى أسلوب السرد المميز الذي تحول إلى علامة مميزة للفيلم.

في الجزء الثاني لا يحتاج الأمر للكثير من التأسيس، إذ إن المشاهد قد تعرف على الأبطال بالفعل في الجزء الأول، وتبدأ الأحداث من نقطة متقدمة زمنيًا على أن يحيلنا السرد بطريقة الفلاش باك إلى بدايات الأزمة.

بدون التطرق إلى القصة تجنبًا لحرق الأحداث الذي يخشاه الجمهور في مثل هذه النوعية من الأفلام، وبالاعتماد فقط على ما يظهر منها في الإعلان التجاري للفيلم، نعرف أن أوﻻد رزق سيقومون بالتعاون مع الضابط الفاسد رؤوف (محمد ممدوح) لتنفيذ مجموعة من عمليات السطو التي يجيدونها، والتي سيضطرون على إثرها لمواجهة «الخواجة» والذي بدوره سيقوم باختطاف صديقهم عاطف.

على خلاف الجزء الأول، جاءت الحبكة في الجزء الثاني بشكل محكم، وخاصة في مرحلة التعقيد التي تختلط فيها كل خطوط القصة بشكل يمنع المشاهد من تخمين الحل، فكل الشخصيات محل شك وﻻ يمكن التنبؤ بتصرفاتها التالية.

أما السرد فهو أفضل عناصر السيناريو على الإطلاق، كما أشرنا يواصل الجهيني الاعتماد على نفس أسلوب السرد في الجزء الأول، والذي جاء على لسان رجب (أحمد الفيشاوي) الذي يتقمص شخصية عاطف. في الجزء الثاني يأتي السرد على لسان عاطف نفسه، أو على حد قول الضابط رؤوف في الإعلان التجاري «العبيط اللي بجد».

اختيار السرد على لسان عاطف لم يكن لدواعٍ شكلية فحسب، ولكنه يتعمق ليتصل بشكل مباشر بحبكة الفيلم والتواءته السردية في الفصل الأخير، وهو الأمر الذي تم التأسيس له بشكل متقن للغاية، لتأتي المفاجأة في النهاية مكملة للحبكة، أو على حد التعبير العامي «محبوكة».

متلازمة «الجاكتة» و«البنطلون»

في مسرحية «المتزوجون» يستأجر سمير غانم بذلة من المكوجي ويحاول تعديل مقياسها لتناسبه، ثم يبدأ في الدخول والخروج ما بين الكواليس والمسرح، ليخرج على الجمهور مرة بسترة قصيرة وبنطال طويل، ومرة أخرى بسترة طويلة وبنطال قصير، ثم يجيب على اندهاش زوجته بقوله:

جيت ألم البنطلون الجاكيتة ضربت

ملحوظة الناقد محمود عبد الشكور تستدعي الحديث عن معضلة الفيلم التجاري والفيلم الفني وما تحمله هذه التسميات من إخلال عظيم بمدلولها. فالفيلم الجيد جيد، والفيلم الضعيف ضعيف، بصرف النظر عن كونه تجاريًا أو فنيًا. وفي الولايات المتحدة الأمريكية، عاصمة السينما التجارية في العالم، هناك أفلام جيدة وأفلام ضعيفة، والأفلام الجيدة – حتى وإن كانت صنيعة هوليوود – تلتزم بحد أدنى من التكامل بين العناصر الفنية المختلفة، وهو ما تفتقده السينما المصرية بشكل واضح في إنتاجها التجاري والفني على السواء.

فالأفلام التجارية المصرية تبالغ في تركيزها على الشكل على حساب المضمون، ففيلم التشويق يتجاهل صناعه كل شيء لصالح التواءة الحبكة، وفيلم الحركة ﻻ يحتاج إلى دراما جيدة، فقط الكثير والكثير من المطاردات والتفجيرات والخدع، وفيلم الرعب ﻻ يحتاج إلى منطق أو تأسيس جيد لعالمه، فقط المزيد والمزيد من الغموض والمؤثرات الصوتية والإضاءة اللافتة.

كل ذلك يستدعي إلى الذهن معضلة سمير غانم مع البدلة كتشبيه دال لحال السينما المصرية، والتي كلما انضبط بنطالها ضربت السترة. فيلم «ولاد رزق 2» قدم وجبة أقرب للتكامل بين عناصرها المختلفة، وتقدم بنوع فيلم الحركة خطوة جديدة ستكون بالتأكيد في صالح الارتقاء بمستوى هذا النوع في السينما المصرية، التي نأمل أن تشهد المزيد من الخطوات في المستقبل وﻻ تعود أدراجها.